فيصل غالب أبوحنينيعتبر الفن التشكيلي بجميع صوره في حياة الإنسان هو من مكملات الصور الجمالية في الكون من حيث النشوة والتذوق في مثله كمثل غيره، وإلا فهناك صور جمالية إبداعية تلقائية ذاتية في هذا الكون الفسيح لا تعد ولا تحصى من مشاهد دون مكملات خارجية تجدها في البحار والأنهار والجبال والسماء والأرض والحدائق والمباني والمخلوقات الروحية وغيرها فلا تحتاج هذه الأشياء في حد ذاتها إلى تدخل الإنسان في صياغتها وصنع إبداعها الجمالية الخلابة للقلوب والنفوس المنعكسة على العين، على العكس مما يبدعه الفنان من رسومات ومنحوتات فلو لم يكن لعمله مكملات وإضافات وتحسينات خارجية من صنعه هو لما أبدع فيه كمثل اختيار الأوراق المرسوم عليها أو اختيار الألوان المناسبة أو خلطها ببعضها لكي يقوم بتلوين هذه الإبداعات فيها، فهذه الأشياء الخارجية أيضاً ليست من إبداع الفنان ولا يقدر على إيجادها بنفسه، فلو لم توجد هذه الأشياء لما أبدع في عمله فهي التي قامت بتحسين إبداعه الفني وهناك من أوجد هذه الأشياء ليتم بها صنع هذا الإبداع ولولاها لما أبدع المبدع في إبداعه، فتعتبر هي جزء من هذا الإبداع الفني ولا يعتبر الفنان هو الوحيد الذي صنع هذا العمل دون غيره ولكن الإنسان ينظر بطبيعته إلى ما هو أمامه مشاهد فقط ولا يدرك لما وراء ذلك من مجهول متسبب في الموجود وهذا خطأ في التفكير والتصور.وهكذا عندما يقوم الفنان بتصوير أو رسم أو نحت أي جمال إبداعي موجود في الطبيعة ومشاهد كتصوير بعض الأشياء أو رسمها كالحدائق أو المباني أو ما هو موجود ومشاهد في الطبيعة أو حتى بعض المجسمات الروحية كالبشر والحيوانات والطيور والأسماك وغيرها ثم يقوم بنسب هذا العمل الجمالي الكوني له وفي حقيقة الأمر يعتبر ناقلاً أو مصوراً أو ناحتاً أو راسماً له ليس إلا مع إحضار الألوان ووضعها فيها في بعض الأحيان، فمناظر الطبيعة في الكون فيها جمال وإبداع ذاتي منفرد عن غيره من التدخلات الخارجية فهنا يكون الإبداع إبداعاً، أما من كان ناقلاً أو ناسخاً فلا يأتي بشيء جديد من ذاته، ولو تذوقت هذا الجمال الكوني الإبداعي فيكون تذوقه مستمراً مدى الحياة وجيلاً بعد جيل على العكس من إبداعات البشر المصطنعة فإن تذوقها محدودة الزمان والمكان عند البشر ثم يمل منها ويتركها ليشاهد غيرها وهكذا دواليك.ولابد للعمل الفني من وجود ثلاث حلقات متكاملة وهي وجود الفنان والعمل الفني والجمهور الذي يتذوق ذلك العمل وينفعل به فلا تنفصل أحدهما عن الأخرى حتى تكتمل حلقة الإبداع الفني.فلا يكفي أن يرى الفنان بأن متعته تكتمل لحظة إفراغ إنتاج عمله الفني، كما لا يكفي بأن يزعم أنه يستغني عن الجمهور المتذوق لفنه.فالعمل الفني رسالة يبدعها الفنان بأدواته ولابد لهذا الإبداع من متذوق يقدر هذا الإبداع ويستفيد منه وإلا لكان حبراً على ورق.وهذا القول ينطبق على سائر الفنون الأخرى أياً كانت أداتها وصنعتها في التعبير عن نفسها وهنا تكمن مشكلة الفنان التشكيلي اليمني.فبلادنا زاخرة بالعديد من الفنانين التشكيليين المبدعين في كافة الاتجاهات، فالظهور والبروز الحقيقي للفنان يكمن في قدرته على الوصول إلى جمهوره بنشر وتسويق إبداعه.وأزمة الفنان التشكيلي في بلادنا تتمثل في أنه لا يجد الحد الأدنى من الجمهور الذي يتفاعل مع إنتاجه ويقتنيه ناهيك عن تذوقه.وضعف حلقة التسويق هذه يعوق تدفق التيار الفني بالقوة الدافعة اللازمة المؤدية إلى تطور وازدهار الحركة الفنية التشكيلية في بلادنا.وأهمية الجمهور لدى الفنان التشكيلي تتجسد في هدفين اثنين لا ثالث لهما وهما: هدف معنوي وهدف مادي.فعلى سبيل المثال، الفنان التشكيلي ينتج عملاً فنياً، هذا العمل من المفترض أن يراه الجمهور فينفعل به ويتخذ منه موقفاً إما سلبياً أو إيجابياً وهذا الموقف لابد أن ينعكس بدوره في التأثير على ذلك الفنان، وحتماً فإن هذا التأثير سوف يدفعه ويساعده على تعديل مساره الفني في الاتجاه الذي يحققه له هذا التجاوب مع أوسع جماهير ممكنة.إن الجمهور عنصر مهم في عملية الإبداع الفني وليس - كما يتصور البعض - عنصراً سلبياً يقتصر دوره على تلقي ما يقدمه إليه الفنان بل هو عنصر إيجابي مؤثر وضروري لتطور عملية الإبداع الفني أيضاً لدى الفنان التشكيلي، وهذا هو الجانب المعنوي في أهمية وضرورة الجمهور بالنسبة للفنان ذاته.أما ما أقصده بالهدف المادي، فيتلخص في حاجة الفنان إلى مستهلك يدفع مالاً في مقابل اقتنائه ما ينتجه ذلك الفنان مما يوفر له حياة مستقرة تسمح له بمواصلة إنتاجه وإبداعه الفني في ظروف ميسرة وهادئة.ويختلف عندنا وضع الفنان اليمني عن الفنان الأجنبي، ذلك إن إنتاج عمل فني للفنان الأجنبي يضمن له في كثير من الأحيان حياة مستقرة ومعقولة لبعض الوقت يعتمد فيها على العائد المادي للعمل الفني الذي أنتجه، أو حتى لاكتساب خبرة جديدة ترفع من مستوى إنتاجه الفني، أما في بلادنا فعلى العكس من ذلك كله، توجد كوادر فنية وإبداعية عديدة من الفنانين التشكيليين ولكن هذه الكوادر لا يتاح لها أن تبرز وتظهر بحيث تفجر كل طاقاتها الكامنة فيها نتيجة لغياب الجمهور وتشجيعه في اقتناء أعماله، أي دوره المعنوي المادي.والنتيجة: إنكماش دور الفنان التشكيلي في بلادنا إذا ما قيس بغيره من الفنانين العرب أو الأجانب وهذا الانكماش يؤدي إلى المزيد من تقلص دور جمهور الفن التشكيلي وهكذا نعيش دائماً في حلقة مفرغة مما أوصلت الفنان التشكيلي إلى الوضع الحالي الذي يشكو منه، فكيف المخرج من هذه الحلقة المفرغة التي جعلت الفنان يتقوقع وينسحب من المشهد الفني إذاً؟لاشك أن هذا التساؤل قد راود كل فنان تشكيلي أحس بهذه الأزمة، وفي واقع الأمر إن العديد من الفنانين التشكيليين قد قادهم هذا الإحساس إلى المزيد من الانغلاق والانطواء على الذات فانعكس ذلك على إنتاجهم سلباً في معظم الأحيان، لكن الصورة الحالية ليست على هذا القدر من القتامة، فقد استطاع البعض من هؤلاء الفنانين أن يجدوا لأنفسهم مخرجاً من تلك الحلقة المفرغة فأوجدوا حلاً لمشكلتهم وكان الحل هو أن يتجاوز نشاطهم حدود اللوحة بان يصلوا إلى الجمهور في موقعه حيثما كان، وأن ينقلوا رسالتهم الجمالية إلى الجماهير الواسعة من خلال كل ما يحتك به الإنسان في حياته اليومية ولا يستغني عنه، سواءً كان في البيت أو العمل أو المقهى أو الشارع أو أي مكان آخر يتواجد فيه ذلك الإنسان وهكذا سوف تحل المشكلة وينتهي الإشكال عند الكثيرين منهم.فقد رأينا على مدى السنوات الماضية من يزاول ويمارس أعمال التأثيث الداخلي للمنازل وتصميم الديكورات المسرحية أو السينمائية أو التلفزيونية أو تصميم النسيج أو السجاد أو الأواني الخزفية وغيرها من الأعمال، فبهذا استطاع الفنان التشكيلي أن يصل إلى أوسع شريحة من الجمهور واستطاع في نفس الوقت أن يجعل من الجمهور مستهلكاً لإنتاجه وإبداعه الفني من حيث لا يشعر، بل ويدفع فيه مالاً لشعوره بالحاجة إليه.والذي لاشك فيه أن هذا الجهد من جانب هؤلاء الفنانين قد ساعد على ترقية وتنمية الذوق الفني لدى الجماهير الواسعة وحدد لها حداً أدنى من المستوى الجمالي لا تقبل بما هو دونه، بل إن هذا الجهد أيضاً قد ساعد الجمهور وبالتحديد جانب من الجمهور على تقبل العمل الفني بشكل أفضل، أي إن هذا التوجه ساعد إلى حد بعيد في حل المشكلة الأساسية للحركة التشكيلية المعاصرة في بلادنا. فينبغي على الفنانين التشكيليين أن يتغلبوا على أزمتهم المتمثلة في تقوقعهم بأن لا يقتصر إنتاجهم الفني فقط على اللوحة التي لا تجد لها متنفساً أوسع من العرض المؤقت في معرض من المعارض أو ما شابه ذلك، بل عليهم أن يعملوا في أكثر من مجال جماهيري وينقلوا أفكارهم الفنية إلى جمهور أوسع، وكذلك أيضاً من خلال تصميم العرائس والدمى وديكورات مسرح العرائس أو تصميمات الكتب والملصقات والطوابع البريدية وعمل نماذج من أنواع الخط العربي بالإضافة إلى الاعتماد في رسوماتهم وتصميماتهم على التراث الإنساني الهادف والقيم ذي الجدوى والنفع الذي لا يتعارض مع قيمنا وأخلاقنا الإسلامية فإن هذه الأعمال الفنية من أكثر الأشياء والأشكال شيوعاً وانتشاراً للفن وسمواً بالذوق الفني لرخص ثمنها وتلبيتها لحاجة اجتماعية متكررة. فإذا ما ألقينا نظرة على المعروض منها في الأسواق المحلية حالياً وهي الأغلب فستجدها لوحات مستوردة خارجية ولرأينا أنها تحمل أشكالاً متواضعة من الذوق الفني الرخيص وإن كانت فاخرة الطباعة وبراقة وجذابة وزاهية الألوان وهي في أغلبها تلتزم أشكالاً ومضامين غريبة عن بيئتنا ودخيلة على المواطن العربي المسلم لا تفتح نفساً ولا تشبع غريزة إلا النزر اليسير منها.ولا ننسى في هذا الإسهاب أن نعرج على الخط العربي الذي يمثل مجالاً من مجالات الفن التشكيلي العربي والإسلامي الرائع وهو من أكثر الفنون جمالاً وروعة وخصوصية لدى العرب والمسلمين في أصقاع العالم. كما إنها تعرف المواطن العربي بالأنماط والأساليب المختلفة للخط العربي لإظهار وتأكيد المرونة والإبداع والثراء في فن الخط العربي لكي تتاح للعين العربية أن تألف هذا الفن الذي طالت غربته واختفاؤه عن هذه الأمة بسبب إهمالهم له وعدم تجويده.فهذه بعض المحاولات لمقاومة الاغتراب والغزو الفكري المتزايد على المواطن العربي المسلم لإبعاده عن حضارته وضعف الصلة بها. فمتى يخرج الفنان التشكيلي إذاً من أزمته وتقوقعه إلى الناس؟
|
ثقافة
أزمة الفنان التشكيلي في بلادنا
أخبار متعلقة