رغم كل الغموض، والارتباك الذي تعيشه اليوم معظم المجتمعات العربية، مما ينبئ بأنها تمر فعلا بتغييرات اجتماعية عدة، فإن من النقاط الواضحة التي تتطلب شجاعة الاعتراف ما يتصل بأن الدساتير العربية اليوم في حاجة ماسة إلى المراجعة العميقة والتحيين وفق ما بلغته المنظومة الفكرية والحقوقية للإنسان على مستوى عالمي، وأيضا ضرورة أن تتجدد في ضوء التطورات الجديدة ذات العلاقة، تحديدا بمسألة الحريات. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن الفرق بين المراجعة العميقة للدساتير العربية والتعديل الجزئي والفوقي لها شاسع جدا. ذلك أن المراجعة تعني إعمال آلية النقد والبناء وفق مفاهيم جديدة، تحمل بدورها فلسفتها الخاصة، خلافا لعملية التعديل التي تطال الجزء وما هو ظاهر؛ أي تحقيق تراكم ينسجم، مقاربة ومفهوما، مع ما هو قائم الذات أصلا.وإذ نركز على الدساتير تحديدا، فلكونها أعلى وثيقة قانونية تحتكم إليها المجتمعات والدول، ومن ثم فهي المرجعية القانونية الأقوى والأكثر حجة، بل إنها المظلة الكبرى التي تندرج تحتها كل القوانين الأخرى المسيّرة للحياة الاجتماعية. وحتى لما تعرف الممارسات السياسية نوعا من التراجع في فترات معينة، فإن الدستور يبقى العقبة في وجه كل من يحاول الرجوع بشعبه إلى الوراء.ونعتقد أن الدساتير العربية، في غالبيتها، قامت على تهميش الحريات والحقوق الفردية، معبرة بالأساس عن ولاء لثقافة الجماعة ولقيم المؤسسات الاجتماعية، في حين أن الفرد ظل في مرتبة ثانوية وينظر إلى حقوقه ضمن منظومة حقوق الجماعة، أي من منطلق أن الكل يغطي الجزء ويهيمن عليه. وموضوعيا، فإن هذه المقاربة الجماعية لفكرة الحقوق والحريات الفردية تختلف من بلد عربي إلى آخر، وذلك حسب مسار التحديث في البلدان العربية. ذلك أن المشروع التحديثي يميل بطبيعته إلى إعلاء شأن الفرد والانتصار إلى العناصر الثلاثة الأساسية التي تقوم عليها الحداثة، المتمثلة اختصارا في قيم الفرد والعقل والحرية.ولا يخفى اليوم كيف أن العوامل التي تحتم على المجتمعات العربية القيام بالمراجعة العميقة لدساتيرها باتت أكثر قوة وبروزا، من ذلك أن الثقافة العالمية اليوم (حتى ولو أن ممارسات بعض الدول الكبرى ومصالحها لا تتوانى عن خرق حقوق الإنسان)، وخاصة التي تدافع عنها المنظمات غير الحكومية، تنتصر بقوة لحقوق الإنسان إلى درجة أن مدى الانخراط في المقاربة الكونية لمنظومة حقوق الإنسان قد أصبح مؤشرا أساسيا لقياس حجم تطور المجتمعات ودرجة تحديثها وعمق الحراك الاجتماعي الذي تعيشه؛ بمعنى أن حقوق الفرد وحرياته الأساسية هما اليوم أرقى ما يمكن أن تتباهى به المجتمعات، وهو ما يترجم عمليا في التوقيع على أكثر ما يمكن من الاتفاقيات الحقوقية ذات الصلة بعدم التمييز على أساس الجنس والدين والعرق، وأيضا في اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعية من المراجع التي يستند إليها الدستور، بل إنه حتى الترتيب الذي يمنح للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ضمن سلم المرجعيات له دلالته ورسالته.وفي الحقيقة، فإن إعلان شأن الفرد حقوقيا وضمان ذلك كتابيا في الدستور يعدان أكثر من مجرد استعراض حقوقي شكلاني أو تزويق سياسي يهدف إلى الانخراط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والعامة، بل إنه إضافة إلى ذلك قد آن الأوان كي تتصالح الثقافة العربية مع الفرد وأن تمنع عنه هيمنة الجماعة، سواء كان ذلك مجتمعيا أو سلطة أو مؤسسات اجتماعية. فالفرد العربي يحمل في جيناته مركبات مزمنة أدت إلى معاناته عقدا عدة ومختلفة، ومن أن يعيش علاقات متوترة مع ذاته ومع محيطه الاجتماعي ومع الآخر بشكل عام. وكيفما تكون حريتنا الفردية في الاختيار والقول والتعبير والاعتقاد يكون مقدار تحقيق الذات وتقديرها.وقد لا نبالغ إذا قلنا إن إعادة ترتيب علاقتنا مع قيمة الحرية، بوصفها قيمة إنسانية أساسية، تمثل الثورة الحقيقية التي لم تحصل بعد في دول الربيع العربي والتي تنتظرها الأجيال الشابة العربية التي تعيش ازدواجية قاتلة تجعلها لا تعرف الحرية إلا في الفضاء الافتراضي، في حين أن واقعها الاجتماعي ما زالت تفصله عن الحرية الفردية وتحرير الفرد فكرا وضميرا واختيارات وميولات وعقلا وتعبيرا سنواتٌ ضوئية طويلة وكثيرة.إن اعتقاد الكثير من النخب العربية الحاكمة والأخرى السياسية والمدنية والفكرية أن الإصلاح الحقيقي أهم من ثورات مرتبكة ومربكة لمجتمعاتها، اعتقاد فيه قدر من الحكمة والصواب والعقلانية.وأغلب الظن أن البدء بمراجعة الدساتير العربية وضخها بشكل يجعل من فكرة المواطنة العمود الفقري لبنودها وحقوق الإنسان رافدها الأساسي، هو ما يجب أن نتداركه لأننا تأخرنا كثيرا، وكلما ارتفعت أكثر نسبُ التعليم في مجتمعاتنا وهيمنت ثورة الاتصال والإعلام على اهتمامات شبابنا وقيمه، اقتربنا من لحظة الصفر.
الدساتير العربية والحرية
أخبار متعلقة