أ.د. مسعود عمشوش:يعد تيم ماكنتوش سميث (Tim Mackintosh-Smith)، اليوم، أحد أشهر الكتاب البريطانيين المعاصرين، وأكثرهم ارتباطا بأدب الرحلات والسفر، وبشخصية الرحالة العربي المسلم: شمس الدين الطنجي المشهور بابن بطوطة. وخلال مسيرته الأدبية والبحثية، وتجواله في العالم، ألف ماكنتوش سميث عددا من الكتب التي تتبع فيها خطى ابن بطوطة، وتعد من بين أفضل ما كتب في أدب الرحلات. وقد أخرجت قناة الـ (BBC) البريطانية سلسلة من الأفلام الوثائقية مستوحاة من مؤلفاته: (أسفار مع ابن طنجة) عام 2001، و(قاعة الألف عمود) عام 2005، و(الوصول إلى اليابسة) عام 2010.ومنذ أربع سنوات، يقضي ماكنتوش سميث معظم وقته محاضرا حول أدب الرحلات العربية في جامعة هارفارد، والجمعية الجغرافية الملكية بلندن، ومدن أخرى كثيرة. وقد فاز كتابه الثالث من ثلاثية ابن بطوطة، بجائزة (أولدي) لأفضل كتاب رحلات 2010. وفي العام نفسه منحه المركز العربي للأدب الجغرافي جائزة ابن بطوطة الفخرية، وأدرجت مجلة نيوزويك اسمه ضمن أفضل اثني عشر كاتب رحلات في القرن العشرين.وقد تخصص ماكنتوش سميث في اللغة العربية في جامعة أكسفورد. وعندما سمع -عام 1981 - بأن اليمن هي البلاد التي يتحدث الناس فيها لغة عربية نقية وصافية، قرر أن يقضي فترة دراسته التطبيقية فيها. وقد تحدث عن ذلك في مقدمة كتابه الأول (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land)، على النحو الآتي:استدار أستاذي المشرف عن شاشة كمبيوتره محتجا. اليمن؟ لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟” ويبدو أن اقتراحي سبب للأستاذ صدمة لم تكن متوقعة. فمن عادته ألا تنتزعه من مدونته عن الشعر الأندلسى الغرامي إلا كارثة جبارة حقيقية؛ كخطأ في حركة إعراب آخر كلمة، أو تهجي أداة التعريف خطأً. “ قا ... قابلت يمنياً قال لي إن عربية اليمن هي أقرب لهجٍة إلى العربية الفصحى». ابتسم ابتسامة طويلة فيها ألم وخيبة أمل، كفغرة فم دمية الأراجوز وهي تصدر أصواتا من جوفها: “كلهم يقولون الكلام نفسه عن لهجاتهم، أيها الصبي الغبي. اليمن! امتعض فمه حول الكلمة كأنها كانت فاكهة مقيتة مرة. ليمونة فجة، وأضاف: “لم لا تقصد مكانا “محترماً” آخر ... القاهرة، أو عمان، أو تونس؟وفي خاتمة المطاف لانت عريكة أستاذي المشرف - حتى أنه حبانى بفيض من بركات رضاه - هذا مع أنه حذرني من مغبة الغياب المتطاول. وهكذا عزمت على شد الرحال لاكتشاف بلد القاموس على صعيد الواقع، ولربما كان من قصدي، نتيجة لذلك، أن أفهم الشعب الذي يقطن البلد. ومنذئذ، وأنا حل بهذا البلد، وعلى عهده القديم مقيم».وقد قرر ماكنتوش، حقا، أن يجعل من صنعاء مقاما لسكنه منذ أن وطأتها قدماه عام 1981. وفي البداية، عمل أيضا مدرسا للغة الإنجليزية في المجلس الثقافي البريطاني بالمدينة. وطلبت منه إدارة المجلس أن يرافق الروائية الأيرلندية إدنا أوبراين حينما زارت صنعاء عام 1991. وقد سألته الروائية الأيرلندية خلال هذه الزيارة: “كيف يمكن أن تعيش في مكان مثل هذا، ولا تكتب عنه؟ إنها جريمة”! لذلك شرع ماكنتوش في الكتابة عن اليمن. وفي عام 1997، نشر أول كتبه: (اليمن: رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land).وفي عام 2000، اتفق مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة- جامعة عدن، (الذي كان يسمى حينذاك مركز الدراسات البريطانية والأمريكية) مع المجلس الثقافي البريطاني بصنعاء على ترجمة ماكنتوش سميث عن اليمن. وكـلـف الأستاذ عبد الله فاضل فارع بالقيام بالترجمة. وقد أنجز الترجمة فعلا بعد نحو ثلاث سنوات، وسلم نسخة من مخطوطة الترجمة للمركز الذي تولى مهمة طباعتها بالآلة الطابعة، وسلم نص الترجمة مطبوعا للمجلس الثقافي البريطاني، الذي -وفق الاتفاقية المبرمة- يمتلك حقوق النشر. وحتى اليوم لم تصدر الترجمة المطبوعة في كتاب.ومن خلال قراءتنا لمخطوطة الترجمة التي سلمت للمركز، نلمس أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع قد ظل يراجع ويصوب الترجمة، حتى بعد أن قام بتبييضها بخطه الأنيق. ونلمس أيضا حرصه على تشكيل الكلمات، والابتعاد عن الأخطاء الشائعة. فهو، مثلاً، يصر على وضع حرف الجر أمام (خلال) و(أثناء).ولا شك أن ثقافته الواسعة، ومعرفته بمختلف جوانب الحياة في اليمن، قد مكنتاه من العثور على الكلمات العربية المناسبة، وكذلك أسماء العلم والمسميات اليمنية (مثل حرضة وسلتة والشانني)، التي لن يستطيع مترجم غير يمني كتابتها بشكل سليم.ومن الطريف أيضا أن يجاري الأستاذ عبد الله فاضل فارع المؤلف ماكنتوش سميث في كتابة أسماء العلم وفق نطقها (الصنعاني). ففي صفحة (15) من النص الأصل، مثلا، يكتب المؤلف (Ya Ali! Ya Alayyy!)، ويكتب المترجم: (يا علي! يا علاي ي ي!).وبشكل عام، يتبين لنا أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع قد وظف في ترجمته لكتاب ماكنتوش سميث المعايير نفسها، (الأمانة والدقة، وفصاحة اللغة، واستخدام الكلمات الجزلة)، التي التزم بها في ترجمة مجموعة (رجال بلا نساء) لهيمنجواي، التي صدرت عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر عام 2007. ويتضمن كتاب (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس Yemen: Travels in Dictionary Land) عرضا شاملا للحياة المعاصرة في اليمن من خلال عيون بريطاني قرر أن يجعل من صنعاء مقاما له. وفي ثنايا ذلك العرض نعثر على معظم ما قاله الرحالة الغربيون عن مناطق اليمن المختلفة، بما في ذلك الأساطير والأحكام المسبقة. وقد أضاف إليها ماكنتوش سميث كثيرا من المقولات التي لم أقرأها في كتب الرحالة الغربيين الآخرين عن اليمن. فهو، حينما يتناول تعددية الأعراق في عدن (أو كوسموبوليتها)، مثلا، يكتب:“عدن حظيت بكثير آخرين من السكان النابين عن المألوف، والزوار الطارئين: منهم الصوفي الفائق العيدروس من القرن الخامس عشر، الذي نجى سفينة اوشكت على الغرق بأن دخل في غيبوبة، وألقى بمسواكه نحو قمة جبل، فطار منها المسواك وسد الخلل في هيكل السفينة؛ ثم أمير البحر العثماني - سليمان الطواشي- الحيوان أكثر منه إنساناً، الذى دعا حاكم عدن ليتفقد سفينة قيادته، ثم شنقه إلى طرف عارض شراعها؛ وهينز، الإنجليزي الذي سلطن نفسه، وفى 1839، وضع الحجر الأساس لثراء عدن التجاري الحديث، ومات متأثراً بإيداعه في سجن الدين في ممباي؛ والكومودور ماكلوري،”البدوي الطائر” المسترخي في شرفته المسقوفة، في فمه سيجار، وبيده مروحة صينية عريضة؛ وأناس مثل هيوسكت، متخذاً طريقه ليجمع 27.000 نموذج من الحشرات في يمن المرتفعات، والـذى كان رأيه حسناً بعدن “مكاناً يسترعى الاهتمام ويستولى على محبة قلوب البشر”، وآخرون مثل فيتا ساكفيل-وست التي اعتبرت عدن جحيماً جافة ملحةً، وبكل اقتضاب أكثر زوايا العالم تنفيراً للنفوس البشرية؛ و رامبو الذى استرسل مع ملله مقيما في طابق فوق مستودع تجارى في كريتر؛ وكل شذاذ الآفاق الطارئين كالطيور القواطع مثل المد والجزر حول موانئ العالم الكبرى- تجار من مصر البطلسية ومن جزيرة كتش، ومن كانتون وكوروماندل، أحابيش وفارسيين، وهندوك من حارقي موتاهم، وبارسيين يتركون موتاهم لجوارح الطير على “بروج الصمت”، ويعتمرون قبعات مثل أغطية سطول الفحم، تجار من روايات كونراد، ومغامرون خارجون من كتب بوكان؛ وكل وسائل الاتجار- أدلة سفن وموظفو موانئ، جباة ضرائب يهود، خزنة أموال رسوليين يحصون محتويات صناديـق النقود المتجهة الى تعز، وعمال شحن وتفريغ صومال، الذين يصففون شعرهم مثل خيوط شعر كلاب المنازل الروسية، ويمرغونها بالطين الاحمر الياجوري، ويمنيون من الجبال قاصدين العيش والإقامة في كارديف، وويلزيون مجندون من الأودية واصلون لكي يموتوا من ضربات الحر في عدن؛ بحارة سمر البشرات من دار السلام، وجنود انفار يشوه وجوههم حب الشباب من رستوف على نهر الدون، والرئيس سالم ربيع علي تثبت إدانته بأخطاء في سنة 1979 تتقزز منها النفس، ويعدم رمياً بالرصاص. وأكثر غرابة من كل من سبق، أولئك الزائران الآخران من أقاصي بلاد الشمال اللذان أقبلا يدوسان ذيل فستان بريتانيا الملوث، محوطين بحشد من قوميسارات الاتحاد السوفيتي من الأبراتشيكيين والمنظرين ومدربي رقص الباليه - ماركس ولينين. فإذا كانت عدن قد استقبلت كل من هب ودب ممن سبق ذكرهم ذاهبين آيبين فما الذي كان ليمنعها عن استضافة جنياً من الجحيم أو حوارياً من صحابة المسيح؟” ومن الواضح كذلك أننا نلمح فيما كتبه ماكنتوش عن دور الحضارم في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا أثر الخطاب الاستعماري الغربي؛ فهو يصف ذلك الدور في الفصل السابع المكرس لحضرموت، قائلا:“وبعد قضاء بعض ساعات هدراً بلا طائل نشطت وفتحت القسم الخاص بحضرموت من كتاب تاريخ المستبصر لابن المجاور الذي حملته معي بعد شرائه. ولربما كان فتحي له إذ ذاك في غير محله، حيث يقول: “وليس في عالم الكون والفساد أخشن ناساً من أهلها (حضرموت)، ولا أكثر من شرهم وأقل من خيرهم، كثيرين الذم لبعضهم بعضاً، قليلين الذمة على من يستجير بهم، كثير الدم من المقتولين… ولهذا سمي إقليم حضرموت الوادي المفتون. ومما يزيد الغرابة تمادياً، أن أناساً كالحضارم استعمروا الأرض من “السواحل” في شرق أفريقيا إلى الفيليبين في المحيط الهادئ، لم يبدوا أنهم معتادون على ركوب السيارة”.ومثل الكتاب الغربيين الآخرين الذين كتبوا عن اليمن، ضمن ماكنتوتش سميث كتابه عن اليمن - الذي صدرت له عام 2007 طبعة أمريكية بعنوان: (اليمن ذلك المجهول Unknown Yemen)- عناصر غرائبية، تهدف في المقام الأول إلى جذب القارئ الغربي، وشد انتباهه. ففي نهاية الفصل السابع، يكتب:“لقد اضطررت أن أسـكت عن مواد كثيرة كنت أبغي تضمينها عن ســواحل اليمن (تروى الكثيرة منها بطريقة عجـلى مقتضبة) كما يقـول نيبور عن الحكــايات العربية (مع ما فيها مما يثير العجب) مثل: قصة أحد سلاطين المكلا المحدثين الذي اعتاد أن يلقي القبض على الشابات المستخدمات في قصره في أثناء ما كن يتسللن عشراً عشراً من خلال قناة ماء جارية من القصر. ومثل جار له من “بلحاف” كان يلقى بأعدائه إلى البحر بعد أن يودعهم في سحارات الشاي المثقبة، وكلما كانت كراهيته للخصم المغرق أشد كانت ثقوب الصندوق أضيق؛ ومثل إحدى القبائل التي أمها عروسة بحر؛ وأخرى تصطاد الغزال بالركض وراءه وإمساكه من ساقيه الخلفيتين، وتلعب والجمال “نطة الضفدع”، وعن قريتين كان سكانهما ذات يوم من عام 1196م يزاولون أعمالهم الاعتيادية اليومية سمتا إلى أجواز الفضاء صعداً ولم ير لهما أحد أثراً بعد؛ وعن مجاذيب صوفيين يطعنون نفوسهم ويتدلون بأعناقهم من أعمدة مدهونة بالسمن؛ وعرائس يضفرن شعر عاناتهن لينتفها عرسانهن في ليالي دخلاتهن؛ وعن امرأة قضت كل عمرها منكوسة على رأسها، ولم تشف من شقلبتها إلا بعد أن أمطرت عليها السماء شهباً؛ وغير تلك من الحكايات... لكنني، من بعد كل ما رويت، أدركني الصباح، ولست شهرزاد”. وفي عام 2007، قال ماكنتوش سميث عن سر حبه لصنعاء واختيارها مقاما لسكناه وعيشه، “لا تزال صنعاء جميلة، وهي من أهم المدن التاريخية العربية، ولأن أبي كان من محبي كتب الرحلات، ويملك مجموعة من الكتب من بينها كتب مصورة، كانت نفسي، تسول لي أن اطلع على كتبه وعلى صور اليمن خاصة، لي في اليمن ما يقارب الستة والعشرين عاماً، وليست لدي أي رغبة في أن أغادرها. وإذا كان وطني هو العالم كله، فإن صنعاء هي مدينتي.وخلال إقامته الطويلة في صنعاء اكتسب ماكنتوش سميث (البريطاني الصنعاني) لهجة سكانها، وكثيرا من عاداتهم، وأولها مضغ القات. وقد ضمن الفصل السابع من كتابه، رأي أحد الحضارم فيه، وذلك على النحو الآتي:“قبل ثلاث ساعات من أول مقيل لتخزين القات في “مبرز” حضرمي كنت قد بدأت أظن أن الحضارم ميالون إلى الكآبة والإملال. لم يبدأ المقيل بتجاذب الممازحة البريئة اللعوب التي تطبع فترة ما قبل “التخزين” في صنعاء، فسالم - داعينا إلى المقيل عنده- تربي في “كينيا”، وصار تاجراً في “سيئون”، لزم الحديث بنبرة عربية فصيحة رائعة، وكان موضوع حديثه الغالب حول تخصيب النخيل؛ أما ابنه وكان في أواخر عشرياته فقد جلس في وسط الغرفة تبدو عليه سيماء التضايق، وما كان ليتحدث إلا إذا حدثه أحد.ولما آنت ما تسمى بالساعة السليمانية، وأخذت أحس بتوفر القلق وأخذ دبيب حمى ينتابني... حتى توحيد الشطرين كان مضغ القات محظوراً في حضرموت، ولم يكن الحضارم قد انغمسوا في إيقاعه. أخذ مخزنان متجاوران يتجاذبان حديثاً في السياسة. ولم يخض سالم فيما كانا يتحاوران فيه، بل أخذ من لحظة إلى أخرى يلتفت إلى ساعة معصمه. وخيل لي أننا قد تجاوزنا حد مدة الاستضافة وأثقلنا المقام وإذا بسالم يهب واثباً فجأة منصرفاً عن المكان. حينئذ كان صوت الأذان يتردد لصلاة المغرب، وترك الآخرون المكان أيضاً، وعاد سالم إلى الغرفة فارغ الفم (من تخزينة القات)، وشرع في الصلاة. ولما انتهى رشق نحوي ببعض القات، وشرع “بالتخزين” مرة أخرى. وبعد لحظة ترو قلت: “لماذا لا تواصل مضغ القات ثم تصلي فرضي المغرب والعشاء جمعاً؟” وسرعان، ما ندمت على طرح السؤال. “وعلى فكرة، ذلك ما يفعله الناس في صنعاء”... قال، أنا في غاية البينة على الظاهرة. الناس في صنعاء ذوو سمعة مشتهرة بتراخيهم في أداء فروضهم. وأضاف جاهراً: “خير أوقات الصلاة إذا أذن لها”. إذا ترك المرء ما هو أقل من اللهو من الامور يتدخل فيما هو فرض عليه مسلماً، فإن ذلك، صراحةً مما لا يصح له عذر. لقد سمعت حتى ما يقال إن من الناس من يصلون بدون أن يخرجوا القات من أفواههم بحجة أنه لا يؤثر بالضرورة على النطق السليم بترتيل آي الذكر الحكيم. وهذا في نظري...” لقد انفتحت علبة الدود... وشعرت أن من واجبي أن أوقف تيار الجدال لأتملص من الحرج. “لربما كان خيراً لو لم أذكر ما قلت: وبعد كل، فأنا لست حتى مسلم”.قال سالم، “حقاً، أنت لست مسلماً. لكنك صنعاني كامل الصفات. بدت نواجذه ابتساماً. وضحكت ارتياحاً. لقد تكسر البرد أخيراً وسال ثغباً. وفي أثناء الحديث التلقائي، تخففت لغة سالم من وعثاء التصنع، والتشكيل الإعرابي”.أما الأكل وعادات الطعام في صنعاء -”جنة الله في الأرض”-، فقد وصفها ماكنتوش سميث بإسهاب في الفصل الأول من الكتاب، الذي أسماه (قاب قوسين أو أدنى من جنة السماء). وفيما يأتي الفقرات التي يقدم فيها (مطعم علي)، الذي تناول فيه وجبة غدائه: “لصنعاء مطبخ أهلي يميزها عما حولها من البلاد براعة واتقاناً. ولقد غدت وجبة غدائي هي نفســها دائماً حسب ما أوصى به ابن المجاور في القرن الثالث عشر الميلادي: خبز البر، والحلبة... - مسحوق الشعير الرومي (اليوناني)، يخفق بالماء خفقاً شديداً حتى يصير رغوة متجانســـة، ومعهما اللحم، في (مطعم علي) حيث تراه واقفاً بلحمه ودمه تجلله غمامة من الدخان على مصطبة ترتفع فوق قاع المطعم، وهو يغترف المرق البقري مخلوطاً بالبيض، والأرز ومسحوق الفلفل الأخضر إلى صف من الحرض... وهي مواعين منحوتة من الحجر، وتصطف أمامه قدور “كالجوابي”، يتسع كل واحد منها لكي يسمط فيه أحد المبشرين (القسس) الذين كان الناس في عدن يسمونهم “المغوين”. ويباشر العمل تحت إمرة علي فريق من التابعين الخلص يتفقدون اسطوانات الغاز التي تطل شواظ لهبها تزفر كالجحيم. وفي هذا الجو اللاهب الصاخب يستحيل أن يدور نقاش أو حديث؛ وليس بمستغرب أو مجهول، أحياناً، حصول انفجار ماحق في هذا الأتون المشحون. أما حرضة السلتة، كما يسمى خليط محتواها، فتحضر إليك جمرة نار متقدة، محمولة بملقاط، ويرغي على سطحها وهج متماوج أخضر مصفر من الحلبة، ثم يؤتى إليك بكتل من اللحم شعلاً في إناء شبيه “بالمقلاة الصينية” وعلى ارتفاع عشرة أقدام فوق رؤوس الموجودين سقف أسود فاحم من جراء ما خرت نحوه وإليه من طلقات النار شواظ شديدة وشهب من مواقد الطباخة. ويقعد بعض الرواد القرفصاء على قاع المطعم، ومنهم من يجلسون على مقاعد أمام موائد منصوبة (وهم يلبسون البذلات ويعقدون ربطات العنق ويفدون من وزارة الخارجية الواقعة عبر الطريق من باب المطعم) والناس الذين لما تباشر خدمتهم ينادون مولولين، يزعقون متذمرين لكي يسترعوا الانتباه: “يا علي! يا علاي ي ي!”، ويستمر على واقفاً منتصب القامة لا يعير منادياً أذناً صاغية ولا يبدي جسمه حراكاً ضمن قطع مكافئ... من الأذرعة- كلها ملكه ورعيته وكأنه صنم هندي مهيب. أما من قد نالوا الرضا وبوشرت خدمتهم، فيتناولون غداءهم والسلتة تبقبق في وجوههم نافثة فقاعاتها، والعرق يتصبب من أجبنتهم، وتأخذ جدران المطعم تبدو وكأنها صورة ضوئية ضخمة لجنائن “قصر فرساي”-برياض زهورها المفضلة، وتماثيل حورياتها العذارى فاتنات المروج، وفسقيات روحنة الهواء وتطريته. إن الغداء في مطعم على ليس أمراً متعلقاً بسد حاجة البطن أكلاً فحسب. إنه الخطوة الأولى على الطريق إلى “الكيف”. وقد تناول السير رتشارد بئرتن معنى “الكيف” فيما كتبه عنه قائلاً إنه يمكن أن يسمى، تذوق الوجود الحيواني.. كنتيجة طبعية منتشية، مرهفة، متوفزة، ورهافة أعصاب في أرقى مراحل إدراكها؛ إنها تجيز ابتهاجاً شهياً ليس في جبلة الإنسان المقيم في أقاليم العالم الشمالية إدراك له. لكن مترجم الليالي العربية (ألف ليلة وليلة) يسلم بهزيمته أخيراً فيستطرد قائلاً: “الكيف كلمة لا تترجم إلى لغتنا الإنجليزية”. أما المعجميون، الذين لا يخضعون للأمر الواقع بما يكفي، فقد وصفوا “الكيف” “بأنه مزاج تأطر ذهني”. ولكوني ماضغاً مواظباً لورقة شجرة القات، سأحاول أن أدلي بدلوي في تعريف “الكيف”، والحقيقة، أن مطعم علي يرتبط ارتباطاً وطيد الصلة بالأخلاط الأربعة. فالدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء، لابد لها من أن يتلازم توازنها لكي يتوافر للإنسان اكتمال الصحة السليمة، أي ليتمكن ماضغ “القات” من بلوغ هدفه قصداً إلى “الكيف” من حيث أن القات يثير صفراء المرارة السوداء الباردة والجافة، ولأن هذين الخلطين ناري ومائي، فلابد من انعاشهما. ولذلك استوجبت الحرارة والعرق و”السلتة” الفوارة. ولذلك أيضاً لزوم زيارة الحمامات العامة قبل مضغ القات، والإصرار على أن تبقى النوافذ والأبواب مغلقة في أثناء التخزين (أي مضغ القات) واتخاذ الحيطة الشديدة لتجنب “الشانني” المرهوب-وهو تيار هواء قارس ثاقب النفاذ إلى البدن، “ويكمن الموت في أثناء مسراه”.وختاما، يجدر بنا أن نشير إلى أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع، قد قام بترجمة كتاب ماكنتوش سميث كاملا، بما في ذلك النصوص الخاصة بدار النشر، لكنه - ربما لظروف صحية- لم يكتب المقدمة التي طلبها منه المؤلف ماكنتوش سميث، في حين أنه ضمن ترجمته لمجموعة (رجال بلا نساء) مقدمة ودراسة تقع في نحو 60 صفحة. وقد ذكر الأستاذ عبدالله فاضل في سيرته التي ألحقها بترجمة (رجال بلا نساء، ص315)، إن نادي أصدقاء اللغة الإنجليزية في صنعاء قد احتفل بإنجازه لترجمة كتاب (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس).- استلت جميع الاقتباسات الواردة في هذا العرض من مخطوطة الترجمة التي أنجزها الأستاذ عبد الله فاضل فارع لكتاب ماكنتوش سميث (اليمن؛ رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس).
|
ثقافة
تيم ماكنتوش سميث وكتابه (اليمن: رحلات المتيم المهووس في بلاد القاموس)
أخبار متعلقة