كتاب ترحل بنا صفحاته عبر عصور من تاريخ عدن، كتاب شكلت كلماته الحافظ الزمني لما تركه لنا الزمن من أخبار عدن وما كان لأهلها من حكايات مع السالف، ذلك هو كتاب (تاريخ ثغر عدن) الذي يرجع في نسبة زمانه عهد المؤرخ العدني أبي محمد عبدالله الطيب بن عبدالله بن أحمد أبي مخرمة.عبر حقب التاريخ لم يسقط هذا السفر من ذاكرة الدراسات والبحوث المتصلة بتاريخ عدن، فهو من المرجعيات التي عرفت وعلمت ما كان من عمر وحياة في هذه المدينة ومن هذا المنطلق في المعرفة، نسعى إلى هذا الاتجاه من قراءة التاريخ لعدن، الإبحار في عمق المراحل لنكتشف صوراً أخرى من أبعاد عدن القديمة، عدن في تواصلها مع الناس وما مر على الذاكرة من أحداث، وكيف تصبح الأشياء هي هوية الماضي وانتماء الراهن، وتلك الثنائية هي من جعل لهذا التاريخ الاستمرارية حتى اليوم، سفر يرحل عبر العصور فهو صورة عدن في كل عصر.من أخبار هذا السفر، أعلام مروا من عدن، وغيرهم سكن وكان له فيها من حكايات الأيام ما سطر على صفحات الذاكرة، مثل سبأ بن عمر أبو محمد الدمتي، الذي كان من الفقهاء قرأ القرآن على يد رجل من بلاد صهبان وعرف وحفظ كتب الحديث عن عبدالله بن أسعد الحذيفي وغيره، ثم جاء إلى عدن، ودخل في مسجد السوق صاحب المنارة، فكان يقرأ فيه القرآن والحديث ومنه أخذ وتعلم أبو العباس الحرازي صحيح البخاري وصحيح مسلم، وفي آخر حياته فقد البصر ومات في شهر رمضان عام 694هـ.زريع بن العباس بن المكرم الهمداني، فقد استولى على عدن بعد وفاة أبيه، وما هو له، حصن التعكر، وباب البر ما هو معروف بباب عدن، وما تحصل منه، أما حصن الخضراء كان لعمه مسعود بن المكرم وكانا يحملان للسيدة أروى بنت شهاب الصليحي كل عام من خراج عدن مائة ألف دينار، كما ملك زريع حصن الدملوة في شهر رمضان من عام 480هـ فلما بعثت السيدة المفضل بن أبي البركات إلى زبيد من أجل مناصرة بن فاتك بن جياش على عمه عبدالواحد بن جياش، أرسلت إلى زريع وعمه مسعود بن المكرم أن يلقياه في زبيد وقاتلا معه، وقد قتلا جميعاً على باب زبيد في عام 503هـ أو في عام 504هـ.محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الزنجاني، وهو ينسب إلى زنجان من بلاد العجم، التميمي نسبة إلى تيم قريش، ويقال أنه من ذرية الخليفة الراشد أبوبكر الصديق، قدم أبوه من زنجان إلى شيراز فاستوطنها، وكان فيها ميلاد محمد، وهو من أكابر أصحاب الإمام ناصر الدين عبدالله بن عمر البيضاوي المفسر، جاء إلى اليمن رسولاً من عند ملك شيراز إلى المؤيد مرتين أحداهما في أول دولة المؤيد، وعاد، والثانية في عام 718هـ وكان في كل مرة يدخل فيها عدن يتصدق ويدرس العلوم الدينية حتى استفاد منه الكثير من أهل عدن وغيرهم.قال عنه الجندي: (واجتمعت به في عدن حين قدم في المرة الأخيرة فأخذت عنه الرسالة الجديدة للشافعي والأحاديث السباعية وجملتها 14 حديثاً) وممن اخذ عنه عبدالرحمن بن علي بن سفيان ومحمد بن عثمان الشاوري وسالم بن عمران بن أبي السرور، قال عنه القاضي شيراز: (ولم أر مثله في الفقهاء القادمين من ناحية العجم شرف نفس وعلو همة).محمد بن علي بن أحمد بن مياس الواقدي، كان ممن درسوا الفقه لأهل عدن، وكان عارفاً في علوم زمانه ناب عن ابن الجنيد على قضاء عدن، وعندما توفي تم تنصيبه في نفس المكان على عدن فحسنت سيرته كما عمل في التجارة مع مسافري البحر عبر ميناء عدن القديم، وفي الزراعة في لحج، قال عنه الجندي: (قدمت عليه بلحج سنة 709هـ فوجدته يقرأ نسخاً من كتب الحديث على باب داره وله مؤلف حسن قال وسمعت العدول في عدن ينزهونه عما ينسب إلى غيره من الحكام، وأقام على قضاء عدن عدة حتى ولى بنو محمد بن عمر القضاء الأكبر فعزلوه عن قضاء عدن).وعين بدلاً عنه القاضي عبدالرحمن بن أسعد الحجاجي، كما جعلوا ابن مياس حاكماً على لحج، وتوفي في لحج في شهر رجب عام 711هـ عن عمر 67سنة.محمد بن الفقيه علي بن حجر تفقه في حياة أبيه، وقد زوجه بابنة إدريس السراج من أعيان تجار عدن، يقول عنه المؤرخ البامخرمة في كتابه هذا : (وكان في الولد شح مفرط لا يرجوه قاصد ولا يقصده وارد بضد ما كان عليه أبوه فتضعضع حاله وركبه دين كثير بعد وفاة أبيه فطالبه بعض مستحقي الدين بما يستحقه عليه، وأغلظ عليه في الطلب وأفحش عليه الكلام وهو قاعد على باب داره فدخل داره من فوره وعمد إلى حبل شنق به نفسه، فرأى بعض الأخبار من أهل عدن تلك الليلة أنه قائم على باب مسجد أبان إذا بجماعة قد اقبلوا من باب عدن قاصدين المدينة وعليهم هيئة سنية ولهم وجوه مضيئة فسأل عنهم فقيل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من أصحابه يريدون الصلاة على رجل من أهل البلد يموت غداً فلما أصبح الصبح وجرى لمحمد بن حجر هذا ما جرى من شنق نفسه ولم يمت أحد غيره في ذلك اليوم وصل الرجل إلى الموضع الذي يصلي فيه على الموتى، وقد ينتظر من يصل من الموتى ليصلي عليه من جملة الناس، قال فاحتبيت ونمت محتبياً وقد فكرت وقلت ما يتصور لمثل هذا أن يصلّ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه وقد شنق نفسه فسمعت في منامي قائلاً يقول: لا تفتك هذه الجنازة فهو هذا الرجل بعينه، قال: فاستيقظت وجددت الوضوء وتقدمت إلى باب الميت وشيعت جنازته وحضرت الصلاة عليه ودفنه.قال الجندي وأخبرني شيخي علي بن أحمد الحرازي أنه كان للفقيه ابن حجر عدة بنات صالحات فذكرت إحداهن أنها رأت أباها بعد موت أخيها بمدة فقالت له: يا أبت ما حالك فقال مذ وصلنا أخوك نحن في ملازمة الله تعالى أن يغفر له جنايته على نفسه فلم يفعل ذلك إلا بعد مشقة شديدة وإشراف على اليأس من ذلك وكان شنقه لنفسه يوم الجمعة لأيام مضين من ذي القعدة سنة 685هـ في السنة التي توفي فيها والده).أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن سفيان وهو من فقهاء عدن وأهلها، وتفقه على يد الأديب وابن الحرازي وغيرهما من الأعلام الذين كانت عدن محطة لا تغفل في مسيرتهم كالزنجاني والقلهاني، كما عرف النحو والعروض، وهو صاحب سيرة حسنة في هذه المدينة، عرف عنه أنه كثير الحج، وكان منزله في عدن مفتوحاً لطلاب العلوم الدينية تفقه على يده جماعة من أهل عدن، وكان ميلاده فيها عام 660هـ، ويذكر الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن سلامة في كتابه الأرشاد في مناقب عبدالله أحمد البصال، الذي تعلم الفقه على يد الإمام عبدالرحمن بن علي بن سفيان المقبور في عدن، وهو من ذرية الشيخ الولي سفيان اليمني المشهور.أبو عبدالله محمد بن خضر بن غياث الدين محمد بن مشيد الدين الكابلي الدفوي القرشي الزبيري، وكان من الفقهاء الذين عرف عنهم سعة العلم، فهو محقق عامل ورعبي لأصول النحو، عرف المذهب الحنفي وكذلك الحديث والتفسير واللغة والقراءات السبع والمنطق والمعاني والبيان، سافر من بلاده قاصداً الحج فدخل عدن عام 793هـ فقرأ على جماعة من أهل عدن في تلك العلوم، فانتشر ذلك بين الناس وعلم به الأشرف وهو في باب الساحل يركب المركب، وكان أصحابه يحملونه على رقابهم في شيء عرف في ذلك الزمان باسم (الفالكي) فأرسل له الأشرف بألف دينار إلى المركب وقد قبل هذا المال هدية من الأشرف، وأرسل للسلطان مسبحته وهو خارج من عدن إلى زبيد.ومن الحكايات المستندة إلى الخيال الشعبي، يقدم لنا هذا الكتاب ما كان من أخبار الولي أبو حربة حيث يقول: (محمد بن يعقوب بن محمد بن الكميت بن علي بن الكميت بن محمد بن سود بن الكميت السودي المعروف بأبي حربة لأنه أشار بأصبعه المباركة إلى بعض الظلمة فمات فشبهت بالحربة وكان لا يشير بها بعد ذلك إلا منحرفة عن صوب المشار إليه، كان محمد المذكور من كبار العارفين تفقه في بدايته فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا محمد قم في حوائج الخلق ولك الرفاه والوفاء والكفاء قال فقلت يا رسول الله أريد أقرأ العلم فأعاد عليه ثانياً وثالثاً فقال له النبي ما لك تخالفنا قال فما قمت في حاجة إلا وأنا أنظرها مكتوبة في أديم السماء تقضى أو لا تقضى وما سرت إلا وعلم من النور قبل من السماء إلى الأرض تحمله القدرة قبلي حيث سرت وكان يقول مادام هذا الجمل يحمل فحملوا عليه، وكان يدخل الديوان في اسمه خمسة آلاف وعشرة وخمسة عشر ألفاً فقال المؤيد اجعلوا بيننا وبين هذا الرجل حداً نعرفه من المساحة فعلم الفقيه بذلك فامتنع من التحديد، قال شيخنا الأهدل: ودخل الفقيه محمد بن يعقوب إلى عدن في بعض أسفاره ومعه ولده أبوبكر وجماعة كانوا يدرسون القرآن ويطلبون العلم فحصل له قبول وفتح عليه بمال كثير فتصدق به ولم يخرج بشيء، وحصل له كرامة مشهورة وذلك أنه ركب بأصحابه في مركب كبير فلما صاروا بباب المندب انكسر الدقل وسقط الشراع في البحر فتعلق بعضهم بالفقيه فقام فوضع يده على موضع الكسر من الدقل وقال يارسول الله أشعب فالتام الدقل بإذن الله وارتفع الشراع من البحر والماء الذي حمله الشراع من البحر يصب من جانبيه، وروى أنه قال ما اسعدت برسول الله إلا أجاب وأراه بعيني الشحمية وما قلت رسول الله إلا ورأيته بين عيني، وحكي أنه حج وأتى المحرم والناس محتاجون إلى الماء فسألوه في سيل الوادي أو المطر فقال لولده يعقوب رح إلى أعلى الوادي وقل يا وادياه سل فجاء السيل على إثره وارتوى جميع الركب.واشتهرت هذه الكرامة وكان بينه وبين الشيخ الصالح - العالم إبراهيم البحاني صحبة وأخوه فمرض الشيخ إبراهيم وأيس من حيوته وحضر جمع من أصحابه ليشهدوا موته فقيل للفقيه محمد لو امتهلت له مهلة فوقعت عليه حالة غيبته عن حسه ثم أفاق وقال قد استمهلت له عشر سنين فأرخوها من الساعة فما مات إلا بعد تمامها وحصل له أولاد في تلك العشر فكانوا يسمون أولاد العشر فلما تمت العشر طاف الشيخ إبراهيم على جميع أصحابه فودعهم، وكان بينه وبين الفقيه عبدالله الأحمير من أهل الشويري صحبة فمات قبل الفقيه محمد فزاره فذكر أنه خرج له من قبره وقام قائماً ورحب به، وكذلك كان بينه وبين الفقيه العلامة محمد بن عبدالرحمن بن أبي الخل صحبة وللخلي فيه حسن ظن فمات أبو حربة قبله، وحصلت شوكة في رجل ولد الخلي وأعيت أهل الصناعة وتعطل مشيه فوصل به والده إلى قبر الفقيه أبي حربة وقال: يا فقيه محمد هذا الولد طريح على قبرك وقد جعلتك له مرهماً وتركه على القبر وعاد إلى المسجد ينتظر ما يكون فمكث ساعة وإذا بولده مقبل إليه يمشي سوياً والشوكة في يده فسأله كيف كان الأمر فقال: ما شعرت إلا والشوكة تخرج من قدمي فقال: الحمد لله وأخذ الفقيه تراباً من القبر وصب عليه ماء وشرب منه تبرعاً، وللفقيه محمد المذكور دعاء ختم القرآن المشهور له حلاوة في القلوب وموقع عظيم عند أهل الدوق ويشتمل على مطالب عزيزة من المقامات والأحوال على قوانين التصوف وتوفي سنة 724هـ عقب السنة التي حج فيها وكان كثير الأسفار للزيارات إلى موزع وإلى عدن ونواحيها).هذه الصفحات ما هي إلا رحلة في ذاكرة عدن، تشدنا إلى عصور ورجال كانوا من هدى المسير في ركب هذه المدينة.وسوف يظل تاريخ عدن في كل الأزمان حكاية تسطر ما يخلده الدهر في وعي الفكر حتى تظل الرؤية المعبر الواصل بين عدن وأهلها.
|
ثقافة
صفحات من تاريخ ثغر عدن
أخبار متعلقة