من الاصطلاحات الجديدة التي دخلت القاموس السياسي ما بعد الألفية مصطلح (الفوضى الخلاقة) وهو مصطلح من الصناعة الأمريكية (ولايتي) ظهر في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وسمع لأول مرة ـ اعلامياً ـ على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس وذلك في معرض حديثها المشهور عن إستراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، والذي اشتمل على توجيهات تلك الإدارة لإعادة رسم خارطة المنطقة في مشروع استعماري جديد أسمته (الشرق الأوسط الجديد) وكذلك رؤية هذه الإدارة لوسائل تنفيذ هذا المشروع في هذه المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية التي أضحت منذ أحداث 11 / سبتمبر / 2001م في نيويورك مصدر تهديد إرهابي لهذه المصالح.إن (الفوضى الخلاقة) إذاً احدى الوسائل التي ستتبعها هذه الإدارة في تنفيذ مشروعها لـ (الشرق الأوسط الجديد) الى جانب الحرائق التي خلفتها الحربان الكبيرتان على أفغانستان والعراق في المنطقة، والحروب التي ستشعلها فيما بعد ضد الإرهاب في لبنان وغزة تحت ذرائع شتى لا تبدأ عند نزع سلاح حزب الله ولا تنتهي على أسوار غزة إنما تمتد بفوضاها لتشعل بعض الحروب الصغيرة هنا وهناك بين القوى المتناوئة وبين الطوائف والأثنيات المنضوية في نسيج المجتمع العربي على اختلاف مرجعياتها القومية والدينية والطائفية، كما تمتد إلى إيران لإيقاف التهديد النووي الإيراني شرقاً، والى الدفاع عن حقوق الأمازيع في المغرب العربي. فحيث يقتضي الأمر حرباً تكون حرباً، وحيث يقتضي الأمر (فوضى خلاقة) تكون فوضى خلاقة.ولعل العقلية البرجماتية لإستراتيجيي الولايات المتحدة قد اهتدت الى هذا الاصطلاح من خلال الاستخدام النفعي الذرائعي لمعطيات علم الفيزياء، وعلى الأرجح نظرية (الفوضى والنظام) في حركة الجزئيات والدقائق حول نواة الذرة وخلقها للطاقة في المادة، فتلك الحركة تتسم بالفوضى الا إنها خلاقة من حيث النتيجة كونها تنتج الطاقة التي تحفظ توازن الكون كله.على أن إسقاط هذه النظرية على السياسة وحركة المجتمع لا يعدو أكثر من محاولة للتضليل وتزييف الوعي حول الآليات المختلفة كلياً لحركة المجتمع الخلاقة، حيث يجب أن تكون حركة المجتمع منظمة ومحددة الوجهة والأهداف والغايات، لأنها حركة محكومة بـ (العقل) أي عقلانية، اما الحركة المادية للدقائق الأولية في المادة الفيزيائية فهي محكومة بالفوضى ولا غاية لها، وعليه فإن الحركة الاجتماعية إذا ما اتسمت بالفوضى فلا يمكن ان ينتج عنها الا الخراب العميم، وهذا بالتحديد ما ترمي إليه هذه الإستراتيجية الأمريكية في (الشرق الأوسط الجديد).ولا غرابة ان نشهد ذلك السهاد الإعلامي المحموم لتعميم هذا الاصطلاح، حيث تم الترويج له في كل الانعطافات الكبيرة للأحداث في هذه المنطقة بشكل مخيف، كما تردد كثيراً في التحليلات الإعلامية لمجريات الأحداث خلال ثورات (الربيع العربي) لتبرير التدخلات الخارجية لحرف هذه الثورات عن وجهتها وإحداث الكثير من الفوضى والخراب وتمرير الخطط لاختطاف هذه الثورات مستغلة الضعف في العامل الذاتي لهذه الثورات، وغياب المشروع الثوري البديل بعد إسقاط النظم السياسية القائمة.ولما كانت منطقة الشرق الأوسط وبالأخص البلدان العربية قد عاشت لفترة طويلة في حالة احتقان مميت بسبب فساد النظم السياسية فيها وتبعيتها للغرب الاستعماري وفشلها في إنجاز شكل مقنع من التنمية والنهوض وحل مشكلات المجتمع، فقد جاء مشروع الشرق الأوسط الجديد، بوسائله المختلفة ومنها (الفوضى الخلاقة) لخلخلة واقع المنطقة المحتقن من خلال هذه الفوضى حتى تسهل عملية اختراق الثورات التي كانت بوادرها تختمر في اكثر من بلد، فما ان اندلعت تلك الثورات حتى اطل صناع السياسة في الغرب على ساحة الإحداث وقاموا بتحريك ادواتهم الفوضوية في هذه البلدان بشكل مواز مع حركة الثوار الحقيقيين بهدف خلط الأوراق وتأزيم الأوضاع الداخلية لكل بلد على حدة بحيث تصعب السيطرة على الأوضاع من قبل الفاعلين السياسيين في الداخل، ليصبح تدخل صناع السياسة العربية المباشر مشفوعاً بمطالب معلنة من (فرسان الميدان) المحليين بعد ان أعيتهم الوسائل للوصول الى اتفاقيات فيما بينهم للسيطرة على الأوضاع، وحينها جاء صناع السياسة الغربيين وأدواتهم الإقليمية ليضعوا المبادرات وخرائط الطرق في كل بلد على حدة ولم ينسوا حينذاك أن يرسموا تلك الخرائط بشكل لا يضمن أي شيء الا مصالحهم ومن اجلها سيدعمون إعادة الاستقرار بشكل تدريجي إلى هذه البلدان، مع الاحتفاظ بالأوراق الرابحة في أيديهم، ولا ضير من وضع بعض براميل البارود في النقاط المفصلية التي تربط لحمة مجتمعات هذه البلدان كل على حدة حتى يسهل فرقعة أي منها كلما هددت مصالحهم من قبل القوى الوطنية التي ربما تبقى حية وفاعلة بعد تلك الخرائب التي خلفتها (الفوضى الخلاقة).كل ذلك حدث ويحدث بين ظهرانينا اليوم ليخلق السؤال الذي يقض مضاجعنا بكرة وعشيا، ونحن لا نملك ان نفعل حياله شيئاً، فكم مرة ستفرض علينا تلك الطبخات السامة القادمة من مطابخ السياسة في الغرب الاستعماري، ونستلهمها مجبرين؟ّ! .. وهل كان بالإمكان تمريرها في كل مرة إذا لم تكن أنظمتنا السياسية قد قيدت نوابغنا وهمشتهم، واستبدلتهم بالجهلة وضعيفي الانتماء ومكنتهم من مراكز القرار والقيادة، واعتمدت على القمع وحدة لحكم أوطاننا والتنكيل بالقوى الحية من الوطنيين الأحرار والشرفاء، وبالأخص ممن يمتلكون الحكمة والمعرفة والإيمان بالوطنية المثلى.وقد قال شاعرنا الحكيم عبدالله البردوني:(وحين يسود الغباء الثريتصير العمالة أجدى عمل)وقبله قال بعض الشعراء من أهل الحكمة:(لا يصلح الله فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا)
|
آراء
الواقع العربي والطبخات المسمومة
أخبار متعلقة