قصة قصيرة
لم يكن يتصور ؛ وهو يخرج من منزله الآيل للسقوط ، ومن قريته التي قرضها الجوع ، وظلم الإمام أحمد ، ويبّسها العطش .. بل لم يدر بخلده أبداً ؛ وهو يغني بصوته الذي تطرب له معظم نساء القرية : ( أجي لك يا قمر بالليل وإلا شلني !! ) أن هذا الخروج سيكون مشهداً فارقاً في حياته كلها .غذ الخطى .. ـ اللقمة لها أحكام يا محمد !! .قال في نفسه .. ثمة دموع تريد أن تشق طريقها في وجنتيه .. أطلق نهدة من الأعماق .. أسرع أكثر .. زوجته ، وأولاده الجوعى في الانتظار .. هذه هي طريق السيارات .. وهذه الفرزة في الراهدة .. ركب مع أول سيارة ( دوش ) ضخمة خارجة كالعادة إلى عدن لنقل البضائع .. وصل مدينة التواهي عصراً .ـ إلى أين تروح الآن يا محمد ؟!حدث نفسه ؛ وهو يغادر السيارة الضخمة ، ويحملق في الجبال المحيطة .. ثمة نسمات باردة تهب من الصحارى البعيدة .. السماء حبلى على غير العادة في هذه المدينة بسحب سوداء مثقلة .. زمجرت الرعود في الآفاق القريبة فجأةً بغضب .. هبت الرياح بمطر عاصف .. فر هو مع الناس إلى بوابة فندق مجاور .. ازدحمت قاعة الاستقبال .. اصطدم جسده الشاب ـ دون قصد ـ بإحدى الشابات .. التفت إليها مسرعاً :ـ أنا آسف يا كريمة !!وقعت عيناه على التو في عينيها .. لم يدرِ بماذا ردت .. ماذا قالت .. تجمد في مكانه .. انفتحت عيناه .. فغر فاه دون أن يدري .. شعر أن قلبه قد صار عصفوراً يحاول الطيران إليها .. ربما ليقول لها سراً تتبادله الورود ، والأزهار في أكناف الحُلم .كانت هي أيضاً تشعر أن جسدها يريد أن يطير إلى أحضانه دون جناح .. حاولت أن تضبط هذا الطارئ في صدرها .. ألا تبدي شيئاً قدر الإمكان ؛ ومع ذلك ؛ كانت تسترق النظر إليه ببراعة ماكرة .. تسدد سهام ابتساماتها الخاطفة إلى شغاف قلبه بدقة الرامي المحترف ، ودون أن يشعر هو أن هذه الحبال قد أعدت بقصد اصطياد هذا المسكين المرتعش على جنبات أضلاعه .تمنى لو تستمر العاصفة سنين طويلة .. ألَّا يتوقف المطر ..ـ أيش أسوي يا ربي .. أنا وقعت .. أنا وقعت ...قالت له هي بجراءة شديدة ، وابتسامة لذيذة ، وكأنها تقرأ بعمق مايدور الآن في ذهنه :ـ أني اسمي نوال .. إنت إيش اسمك ؟ ومن فين ؟ارتبك .. تقاطعت كلماته مع أحرفها ، ثم قال لها :ـ عفواً .. بس .. فاجأتيني بصراحة .. تصدقي ... نسيت كل شيء !!قالت في نفسها وهي تهز رأسها : ( هذا هو المطلوب تماماً .. ) . توقف المطر .. حدقت فيه بإمعان .. تماماً كالصياد بعد الإيقاع بالفريسة .. ابتسمت .. قالت له بغنج آسر :ـ إنت من الريف .. مش كدا ؟ـ نعم .. نعم .. وجئت أدوِّر عمل ...ـ خلاص .. اشتغل عندي !! ممكن ؟لم يصدق ما سمعه .. شعر كما لو أنه في حلم جميل ؛ لكنه استدرك بسرعة ، كمن تذكر شيئاً مهماً :ـ ولا يهمك .. خدامك يا ست الكل !!قالت له :ـ الآن ممكن نتحرك مع حضرتك .. يع .. ني ؟! .ثقل لسانه .. هز رأسه .. قدماه تخونانه ، كأنهما لا تنويان السير معهما .. جسده يرتعش .. قلبه يخفق .ـ ماهذه الحال يا ربي ؟!قال وهو يحاول اللحاق بها .. نادته :ـ هيا .. أسرع !!حاول أن يسرع .. تعثر بماء المطر ، وهذا الطارئ في أعماقه .. كاد أن يقع على قفاه .. تمسك بحاجز المشاة الحديدي .. مشى مجدداً .. فتحت بوابة سيارتها الصغيرة .. صعدا .. قالت له :ـ مارأيك نتفق الآن ، وقبل أن نتحرك ؟ـ متفقين !!ـ لا .. ندقق الاتفاق أكثر ، ونضع النقاط على الحروف كمان ...ـ الوضوح أحسن برضه ...ـ نتزوج .. وتعمل معي ..كاد ينتفض .. تداخلت الرؤى ، والتناقضات ، شعر بدوار عاصف .. تماسك .. قال لها :ـ يا بنت الناس !! بس أنا متزوج ، وعندي أسرة ...نظرت إليه نظر التاجر العارف بحال زبونه .. الواثق بسلعته ؛ وكأنها تقرأ ما فيه حرفاً حرفاً، ثم قالت :ـ آسفة .. عرضي ما يتقسمش !! يعني تنسى كل الماضي .. أنت لي .. وبس !!ـ أنا طوع أمرك ، لكن ... أولادي ، وزوجتي ... ـ مافيش لكن .. اتصرف .. تنسى الماضي كله !!تداخلت الأفكار .. احتدمت في الأعماق .. تطايرت الرؤى .. شعر أن الأرض تدور من حوله بعنف .. تماسك أكثر .. ( هل يعقل هذا اللي يجرى لي ؟ .. أيش أفعل يا ربي ؟ .. ) .بدت كأنها متضايقة من تمتماته مع نفسه .. قالت له بحزم :ـ أني ما معيش وقت من فضلك .. قل قبلت ، أو يفتح الله !! .. ـ قبلت .. قبلت يا ستي !! .ـ تانيها تفضل دائماً طوع أمري .. هدا اتفاق ، واللي أوله شرط آخره نور .. يعني ما تتصرف ، ولا تتحرك إلا بموافقتي .ـ ...ـ إنتَ موافق .. تقسم على المصحف .. مش موافق الله معاك !!ـ موافق يا ستي .. موافق ...تزوجا .. لم ينجبا .. مرت السنون .. عمل الاثنان معاً في أملاكها .. تطورت أعمالها .. أمرته بتوسيع النشاط .. تدفقت الأموال عليها .. بدأت تسافر بين الفينة والأخرى إلى خارج البلاد .. كثيراً ما رفضت أن يرافقها .. عقدت الصفقات .. ارتفع رصيدها في المصارف أكثر فأكثر .. علا صيتها .. وسعت قائمة موظفيها ..ظل يعمل بصمت ونشاط .. لا فراغ .. لا إجازات .. كمن لا يريد أن يتذكر .. كمن لا يريد أن يعود إلى الماضي .. كمن يريد أن ينقطع عن روحه . مرت السنون طويلة .. ثقيلة .. كئيبة .. ما عادا يتحدثان سوى في شؤون الصفقات والأموال .. وفجأة ، ودون مقدمات .. عينت مديراً شاباً لمكتبها الخاص .. تغيرت حياتها كما لو أنها عادت شابة من جديد .. تغير كلامها معه .. صارت تنهره .. تعيره .. تشتمه كما لو أنه مجرد خادم في مكتبها لا أكثر .. بدا هو كأنه لا يلتفت إلى تصرفاتها .. لم يراجعها .. فقط كان يجلس إلى نفسه ، ثم يبكي طويلاً بصمت ، وحينما حاول ذات ليلة أن يذكرها بالماضي ، وأنه مع ذلك زوجها .. لم تقل شيئاً ؛ لكنها أسرعت إلى مكتبها كمن نسي شيئاً مهماً يريد أن يتداركه .ذهب هو إلى مضجعه كالعادة ، وفي الصباح ؛ وجدته الشرطة على رمال الساحل الذهبي مثخناً بجراحاته ؛ يعالج ما تبقى من الأنفاس والدموع .