قبل نحو قرن من الزمان، وقع رئيس الولايات المتحدة الأشهر وودرو ويلسون بيانا تاريخيا، هو إعلان دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، قال فيه: «من أجل أن يصبح العالم مكانا آمنا للديمقراطية». وقتها كان مفهوم الديمقراطية طفلا مدللا لدى الخاصة من النخب.مضى مائة عام وما زال هذا المفهوم غامضا وملتبسا منذ ذلك الزمن، ما الديمقراطية؟ ليس هناك جواب شافٍ! لقد لبست الديمقراطية الغربية أكثر من قناع مبتذل. قال جوزف ستالين إنه يحقق الديمقراطية، فقتل من أجل إقناع الآخرين بمفهومه، عشرين مليون إنسان. النازيون في ألمانيا والفاشيون في إيطاليا كانوا يعلنون أن أنظمتهم ديمقراطية إلى العظم، كما حط الراحل معمر القذافي من شأن الديمقراطية بإطلاق اسمها كجزء من جماهيريته التي فتحت سجونا أكثر بكثير من مدارس! وها هي الممارسة تتعثر في بلد مثل لبنان، بعد أن تغير - أو كاد - قانون اللعبة في كل موسم انتخابي، وفي الأردن حيث اتهم أعضاء في البرلمان بفضائح، كما في غيرهما من الممارسات العربية. أما ربيع العرب فما زال يأمل بتطبيق الديمقراطية، ولكنها أيضا تفر من نخبته كما يتسرب الماء بين الأصابع.في عدد الشهرين الأخيرين من الـ«فورن أفيرز»، المجلة المؤثرة في تشكيل فكر النخبة الأميركية، وأكاد أقول العالمية، العنوان الأبرز للمقال الرئيس هو «رأسمالية عدم المساواة». هذا العنوان له صدى في عدد «الإيكونومست» قبل الأخير، المجلة الأكثر قراءة في الغرب، الذي يقول «جيل من المتعطلين عن العمل»، كناية عن قصور في حل مشكلات البطالة. الفكرة هنا أن الديمقراطية - حتى في عقر دارها، الغرب الصناعي - بدت موضع شك، فلا هي حققت المساواة، ولا هي قدمت حلولا للمشكلات الاقتصادية التي ارتكبها في الأساس السياسيون، خصوصا مع الأزمات المالية التي تضرب عددا من الدول، والتي أنتجت البطالة الواسعة وسقوط قيمة العملة المحلية وانتشار الجريمة، بل اجتياح المظاهرات لمدن الغرب الصناعية مثل حركة احتلال شارع المال في نيويورك (وول ستريت)، إلى مظاهرات الشوارع الصاخبة في اليونان وإسبانيا.الشعار الذي روج له بين عام 1970 - 2010 هو أن الغرب يريد أن ينشر الديمقراطية في العالم، إلى درجة إنشاء وقفية كبرى عام 1983 بملايين الدولارات - لم يحلم بها وودرو ويلسون نفسه - من أجل الترويج للديمقراطية في العالم غيرالديمقراطي، على أساس من انتصار المعسكر الليبرالي الغربي على المعسكر الاشتراكي.اليوم يثار تساؤل بكثافة من قبل مفكرين غربيين كبار: ماذا تحقق للأمن والسلام جراء نشر تلك الأفكار؟! لا شيء تقريبا، فما زالت الصراعات قائمة والحروب تتكاثر، إن لم تكن على نطاق عالمي، فهي على نطاق إقليمي مشاهد، فلا أفغانستان أصبحت، بعد بلايين الدولارات والكثير من الدماء، ديمقراطية، ولا العراق توفر له ذلك.تبين أن الديمقراطية الغربية في جوهرها انتهت إلى حكم الأقلية، نخبة يتحكم فيها أصحاب ومديرو البنوك والشركات الكبرى وقوى الضغط التي تمول نخب الأحزاب في الحملات الانتخابية كي تتحكم في رقاب الناس، كما تبين أن السياسيين المحتكرين للعمل الحزبي والمتحكمين به من أعلى - بعض الكتاب يصفونهم بالمافيا - ليسوا جديرين بالثقة. عدد منهم يكتشف تباعا أنه متهرب من الضرائب، أو لديه حسابات سرية في بنوك الـ«أوف شور»، لم تستطع كل الأدوات الديمقراطية الرقابية أن تردع شره السياسي للمال، فوق ذلك الفشل الذريع في إدارة المجتمع التي انتهى ببطالة وديون.«نهاية مسرح العرائس» عنوان الكتاب الذي ذاع للفرنسي هارفي كمب، حيث يصف الممارسة السياسية بأنها مسرح عرائس يتحكم فيه من يحرك الدمى، وتبعه كتاب آخر لديفيد جريبر بعنوان «المشروع الديمقراطي، تاريخ، أزمة، وحركة»، الذي وصف فيه حركة احتلال وول ستريت من الداخل على أنها عنوان لفشل السياسات المتبعة من النخب الأميركية الحاكمة. وتدفق من المطابع في الأشهر القليلة الأخيرة عدد من الكتب كلها تشرح الفشل في ما انتهت إليه الديمقراطية الغربية.الديمقراطية الغربية في تراجع لسببين؛ الأول فشل السياسات الاقتصادية في أن تقدم للناس الأمان والخبز، والثاني ما تسببه النجاحات في الاقتصاد الصيني من قلق بالغ للنخب الاقتصادية والسياسية الغربية. فها هي الصين، التي لا تعرف الديمقراطية بمعناها البرجوازي الغربي - تعدد أحزاب وتنافس بينها - تحقق أعلى سرعة في النمو الاقتصادي، إلى درجة أنها سوف تصبح قريبا الدولة الأولى اقتصاديا في العالم. نجاح الصين هز فكرة راسخة، كثيرا ما اعتنى بها الفكر الليبرالي الغربي، والقائلة إن الديمقراطية بمعناها الغربي هي أفضل الطرق للتنمية، بل تجرأ أحد كتاب الغرب الكبار، وهو فوكوياما، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بالقول إن انتشار الديمقراطية الغربية حتمي وسيعني نهاية التاريخ! نجاح الصين وضع تلك الفكرة في مكان التساؤل، لقد كانت صيحات المحتجين في وول ستريت «كفى لحكم الأقلية، أين الديمقراطية؟!»، كما كانت أصوات المتظاهرين في العاصمة اليونانية خير دليل على عقم نظرية فوكوياما.إحدى الأفكار المركزية الأخرى التي تتداول في الغرب كسبب لتراجع الديمقراطيات تآكل الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي كانت تحمي وتدافع عن الديمقراطية الليبرالية وتمارسها من خلال صناديق الانتخاب، لم تعد موجودة كما كانت، ولم تعد مهتمة بصناديق الانتخاب بعد دخول شرائح كبيرة منها في أزمة الديون والبطالة، فلم تترك لها الديمقراطية إلا الخيبة.في الوقت الذي يعيد الغرب التفكير في أسس الديمقراطية الليبرالية، على أنها وسيلة يمكن التفكير في خيار لها، يذهب العرب، تحت تأثير منوم مغناطيسي، إلى الفكرة الديمقراطية الليبرالية كآليات من دون النظر إلى الأهداف التي يجب أن تحقق كما لا تود طبقة وسطى يعتد بها، مستقرة ويمكن أن تدافع عن أهداف الديمقراطية في فضائنا العربي. يعتبر البعض وجود صناديق انتخاب، على أنه ديمقراطية، وأغلبية من الجماهير غارقة في الفقر والتخلف، ومن يذهب إلى تلك الصناديق يذهب إليها بمغريات دنيوية أو أخروية واهمة.في وضع اقتصادي ينتشر فيه الفقر والبطالة وسطحية التعليم، وميزانيات تعتمد على الهبات والعطايا والدخل الريعي، وظهور طبقة طفيلية غير مستقلة تسمى خطأ الطبقة الوسطى، كيف يمكن في هذا الفضاء العربي أن تتحقق الديمقراطية؟ هل نحن نذهب إلى الحج - كما يقول المثل الشعبي - والناس عائدة منه؟ صلب الديمقراطية تحقيق وضع آمن واقتصاد منتج يحفظان كرامة المواطن، فهل تحقق ذلك حولنا؟ الإجابة من الأذكياء بالتأكيد ستكون بالنفي! .
احتضار الديمقراطية!
أخبار متعلقة