نجمي عبدالحميدمن عمق أسفار التاريخ يشرق علينا تاريخ عدن، مدينة كونية عبر حقب من الأزمنة، تعاقبت عليها المراحل والأحداث فكانت تلك المدونات التي حفظت ملامح من هوية وكيان هذه المدينة.عدن في حقبها الماضية وما كان من ذلك الزمن، وعندما نسعى لاستعادته تذهب الذاكرة نحو ذلك الفائت ليس من حساب الأيام، بل من وجدان وروح إنسان هذا المكان.قراءة تاريخ عدن هي استدعاء لحق الانتماء ليس فقط عند حدود ذاكرة الأمس انه خط المواجهة مع الراهن، وهذا من خصائص التعامل مع التاريخ في فترات البحث عن الذات والعودة إلى جغرافية الوعي عبر تحديد المسافة التي تفصل بين العقل والواقع.هذه بعض الصفحات من الأزمنة العدنية نسعى من خلالها لوضع صورة ما انكسر من الشكل على جدران الهوية، فالقراءة إن لم تخلق في النفس إعادة صياغة الرؤية لحقيقة العلاقة بين التاريخ والفرد، هي مثل المحو الذي يغيب البصمات عن موقع وضع اليد. نظرا لموقعها الجغرافي المهم في التجار العالمية، كان لعدن في الماضي مركزيتها الكبرى مع أجزاء عديدة من دول العالم إذ لا يمر أسبوع واحد إلا وتصلها المراكب مع التجار الذين يحملون أنواعاً مختلفة من البضائع، ومن الدول التي لها صلة تجارية مع عدن في تلك الحقب نذكر منها: الصين والشرق الأقصى وشرق إفريقيا (الحبشة) والهند ومصر والصومال.كل ما جاء في كتب التاريخ القديمة والرحالة العرب والمسلمين الذين أفاضوا في شرح أهمية ميناء عدن ووجودها على طرق المواصلات العالمية، وما نجم عن ذلك الحضور من مكانة كبرى فقالوا عنها بأنها فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيش وفارس، تمر بها سفن هذه الدول منذ عهود بعيدة للرسو والإقلاع، كما كان ميناء عدن مركزاً لتبادل السلع الإفريقية والهندية والمصرية ومنطلقا منه نحو الهند.عن علاقات عدن مع الصين والشرق الأقصى يقول الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري في كتابه عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 1083 - 1229م الصادر عن جامعة عدن الطبعة الأولى عام 2004م ما يعزز صلة التاريخ لهذه المدينة وموقعها الكوني في العلاقات العالمية (ترجع الصلة بين بلاد العرب والشرق الأقصى إلى أقدم العصور، فقد ارتبط الشرق الأدنى والبحر المتوسط بطرق التجارة مع بلاد العرب الجنوبية والشرق الأقصى منذ أزمان قديمة، كما ظهرت الأدلة على قيام علاقات قديمة بين بلاد العرب وجزر الهند الشرقية والفلبين، ويبدو أن أهالي بلاد العرب الجنوبية القديمة اعتادوا التجارة مع تلك المناطق النائية.وتجدر الإشارة إلى أن أهل حضرموت وعمان وسواحل الخليج العربي امتطوا ظهر البحر وأوغلوا فيه إلى ما وراء الهند وقد أصبح هؤلاء الحضارمة الوكلاء الرئيسيين للتجارة بين مصر والهند، وهم الذين جهزوا معابد مصر وقصورها بالأحجار الكريمة والتوابل والبخور الذي احرق على مذابح آلهة المصريين القدامى.أسهم البحر الأحمر في النشاط التجاري مع الشرق الأقصى، فكان يبعث بسفنه إلى تلك الإرجاء، وكانت عدن الميناء الرئيس للسفن القادمة من هذه الطريق، ولذلك وصفها المقدسي بأنها دهليز الصين.ذكر حوراني ان المعلومات المتعلقة بالرحلات من جدة وعدن إلى الشرق الأقصى قليلة، لكن أخطار القراصنة الهنود المتربصين للسفن التجارية في سقطرة معروفة. ولعل خطرهم كان عاملا في قلة تلك الرحلات.كانت أهم البضائع التي تصل من الصين: الحرير والقصب، وكانت تتبادل البضائع مع اليمن وعمان وبلاد فارس.اما البضائع التي تصل عدن من الصين فهي كثيرة منها الحديد الفرند والمسك والعود والفلفل والدار فلفل والنارجيل والقافلة والدار صيني والخولنجان والبسباسة والهيلجان والابنوس والذبل والكافور والجوزة والقرنفل وانياب الفيلة والرصاص القلعي والقنا والخيزران.هذه البضائع تؤكد لنا ازدهار العلاقات التجارية بين عدن من جهة والصين واقطار الشرق الاقصى من جهة اخرى، وهذه المواد تدخل في مجالات استعمال كثيرة فتستعمل في عمل الاطعمة في البيوت، ومنها انواع من الزهور والاطياب، واستخدمت قرون الكركدن وأنياب الفيلة والعاج في صناعة الحلي، وكل هذه المواد من نفائس التجارة التي تطلبتها حياة الترف في القصور التي أسست بالمدن العربية.إن تنوع البضائع الشرقية الواصلة من الصين الى بلاد العرب وميناء عدن تدلل على ازدهار العلاقات التجارية بين عدن والصين.اما الصادرات العربية الى الصين، فكانت كثيرة فمن ظفار كان يصدر الكندر والقاطر «وهو دم الاخوين، ويسمى العندم» وهو ثمر احمر يصبغ به ويدخل في تركيب الادوية، وانواع السمك المجفف، وصدرت اليمن صمغ المقل المشهور بجبالها كما اشتهر وجوده بالشحر ويدخل بتركيب الأدوية، وكذلك صدرت اللبان . إن الواردات القادمة من الصين وصادرات بلاد العرب إلى الصين قد شكلت نمطاً لعلاقات تجارية متطورة تبودلت فيها المنتجات ووسائل التطور الاجتماعي والحضاري بين شعبين تفصل بينهما مسافات طويلة جداً، ولا شك أن هذه الحركة ينتج عنها وصول مراكب العرب والصين التي حملت تلك المنتجات ، فوصف الحمصيري ، عدن أنها بلد تجارة وبها مرفأ مراكب الصين).تعود علاقة عدن مع شرق أفريقيا إلى نفس الفترات الزمنية التي ارتبطت فيها بصلات مع دول عالمية أخرى، حيث كان تجار جنوب غربي الجزيرة العربية يسافرون بحراً إلى تلك الموانئ وذلك عند هبوب الرياح الموسمية الشمالية الشرقية خلال الأشهر من تشرين الثاني حتى شهر نيسان ، ثم تكون عودتهم عند هبوب الرياح الموسمية في الاتجاه المعاكس خلال شهر حزيران تشرين الأول. من أهم البضائع القادمة من أفريقيا ويأتي التجار العرب من أجلها ومقايضتها هي المنتجات الأفريقية المعروفة في أسواق عدن وغيرها من بلاد العرب وبصورة رئيسية السلع الحيوانية نادرة الوجود في بقية أنحاء العالم مثل العاج وقشر السلحفاء وقرون الكركدن إلى جانب كميات من زيت جوز الهند أما البضائع المصدرة التي يجلبها التجار العرب على الساحل عديدة وفي مقدمتها الأدوات المصنوعة من المعادن مثل البلطة والخناجر والمثاقب والرماح.مع توسيع تلك العلاقات التجارية بين عدن ودول العالم في تلك الحقب ، عرفت عدن كمدينة عالمية تنوع الأعراق والأجناس والمذاهب والأديان كما ذكر إبن المجاور وكذلك الرحالة ابن بطوطة ويعود قدوم هذه الجاليات إلى عدن إلى فترات بعيدة في التاريخ المتصل بالتجارة والعمل ، وقد أشار ابن المجاور في كتابه ، إلى عدد البرابر في عدن وكثرة هذه الجالية وأيضاً الحبوش والزيالع الذين عملوا في تجارة العبيد والجواري بين عدن وزيلع .كذلك شكل الهنود جالية كبيرة في عدن ،حيث اعتمدت التجارة في عدن البضائع القادمة من الهند مثل البهارات والعطور والعبيد والجواري ،ومن أكبر تجارهذا العمل في عهد الدولة الرسولية ، تاجر هندي هو فيروز كهوي كما برز في عدن القاضي سالم بن عبدالله الهندي والذي شغل منصب قاضي عدن وكذلك إقبال الهندي.أما الفرس فيعود تاريخ تواجدهم في عدن إلى أزمنة قديمة إذا استوطن عدن قديماً أهل شيراز ومنهم التاجر سليمان الشيررازي المتوفى في عام 132 وكان يوجد في عدن مسجد يحمل اسمه وبرع أهل فارس في عدن بعدة علوم ومنهم آل الفارسي والتي كانت لهم منزلة في بلادهم فتولوا مناصب وزارية عند ملوكها ومنهم حسن بن علي التميمي الفارسي الذي جاء إلى مكة وأقام بها ست عشرة سنة ثم رحل إلى عدن وأقام بها حتى مات.لقد وصف ابن بطوبة أعمال أهل عدن في مجال التجارة قائلاً ( تاجر منهم أموال عريضة ولأحدهم المركب العظيم يجمع فيه ما لا يشاركه غيره سعة ما لديهم من الأموال، ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة.ومن الأسر القديمة التي عرفتها عدن آل المسلماني وعرف منهم الشيخ الموفق يحيى بن يوسف المسلماني وقد أشار با مخرمة في كتابه تاريخ ثغر عدن ( أنه بعدن أرض وقف تعرف بشركة المسلماني).وجاء كذلك إلى عدن من أهل المغرب عدد من الأسر واستوطنت عدن وعملوا في التجارة والعلم وكان سكنهم في عدن القديمة ويعود إلى فترات بعيدة في التاريخ ففي القرن السادس الهجري عام 1150م جاء إلى عدن علي بن أبي بكر بن حميد الفضلي ، فتعلم منه القاضي أحمد القريظي مع عدد كبيرمن المغاربة ومن العراق والشام جاء إلى عدن جمع غفير وهم ضمن الجيوش الأيوبية ، حيث تولوا الأعمال الإدارية في عدن وأشهرهم أبو عثمان عمر بن عثمان بن علي الزنجبيلي التكريتي صاحب المباني والمساجد والتحصينات التي تنسب إليه. وبفعل هذا التوسع التجاري والسكاني لعدن ، تكون العملة المالية إحدى الأسس الاقتصادية التي ترتكز عليها المعاملات التجارية في عدن وحول هذا الموضوع يقول الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري في كتابه زهور السوسن في تاريخ عدن اليمن ( تجدر الإشارة إلى أن الدينار الملكي قد ضرب أيضاً في مدينة عدن وذلك من خلال العملات التي تم الكشف عنها ودراستها .يعود أول دينار ضرب في عدن إلى عام 1486هـ 0 1093م ، وقد ورد في الوجه منه ذكر علي الصليحي والمستنصر الفاطمي والكرم أحمد بن علي الصليحي وفي الهامش ورد تاريخ ضربه لعدن عام 486هـ وفي الظهر ورد ذكر لقب المكرم أحمد الملك السيد المكرم عظيم العرب سلطان أمير المؤمنين ويتضح لنا بجلاء أن لقب المكرم أحمد هذا هو نفس لقبه الذي نقش على الدينار الملكي الأول المضروب في مدينة صنعاء والمرجح أن تاريخ ضربه يعود على عام 479هـ في الأعم الأغلب كما ذكرنا.وهذا يعني نقل تجربة سك هذا الدينار إلى مدينة عدن التي تميزت بأنها ذات أهمية كبيرة لكونها سوقاً وميناء تجارياً مفتوحاً على اليمن وذلك بعد سبعة أعوام من ضرب الدينار الملكي في صنعاء ، مستفيدة من الخبرة والتجربة التي اكتسبتها دار الضرب في صنعاء التي سبقتها في هذا المجال).في هذا الجانب الاقتصادي ، نالت عدن منزلة هامة في سك العملة من بين كل مدن اليمن الأخرى وهذا يدل على وجود دار لضرب العملة فيها ترجع إلى عهد حكامها من بني المكرم.لقد تم استخدام الدنانير الملكية التي ضربها الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي في مدينة عدن منذ عام 1193م في أكثر من مجال من المعاملات التجارية خارج عدن واليمن وفي تقدير بعض ثروات من رجال الدولة الزريعية حيث بلغت ثروة بلال بن جرير المحمدي مولى الداعية محمد بن سبا والذي كان أميراً على عدن عند وفاته عام 1151م كما ذكر عمارة اليمني ، ما ترك من ثرو ألف دينار ملكي وأكثر من 300 ألف دينار مصري فاطمي، وغيره من الحلي ولا يحصى من الملابس والبضائع كذلك عدد من التحف جلبت من عدة دول من العالم مثل الصين وشمال أفريقيا، جاء بها التجار هدايا له ومنها السيوف والرماح.تدل هذه الثروة على توسع النشاط التجاري في مدينة عدن ومينائها فضلاً عن الأموال التي حصل عليها حكام عدن من موارد الميناء وكذلك الأجزاء الأخرى التابعة لهم.لقد أسس كل هذا على عدة إجراءات أمنية لحماية التجارة في ميناء عدن وحول نظام مراقبة السفن يقول الدكتور محمد كريم الشمري ( وهذا النظام يهتم بمراقبة السفن القادمة إلى عدن وهو نظام بدائي نستطيع أن نطلق عليه :« الفنار البدائي »، ويؤديه عدد من الحرس ، حيث كانت الحركة التجارية مركزة في جبل صيرة وساحلها وعندها تلقي السفن مراسيها قبل دخولها إلى ميناء عدن ، فكان هؤلاء الحرس يقفون في أعلى قمتي جبل المنظر وحسن الخضراء على جبل البسر في أفق البحر البعيد ولا يتمكنون من رؤيتها إلى وقت طلوع الشمس وغروبها لوقوع شعاع الشمس على سطح البحر ويتضح الشيء القادم على بعد مسافة ، هؤلاء الحراس يستطيعون معرفة الشيء القادم بحكم الخبرة والممارسة).إن هذا التاريخ يقدم لنا صورة كبرى على دور عدن الخالد عبر العصور وتلك المكانة التي مازالت تفرضها الأحداث حتى اليوم.فعدن مدينة البحر أولاً ومنه تمتد صلتها مع العالم وتلك الصلة هي من صنع منزلة عدن في التاريخ.
|
ثقافة
من تاريخ عــــــدن في الحقب الماضية
أخبار متعلقة