الأغاني الشعبية في عدن..
فاضت مياه البحر في عاصفة الليل، وغاضت الشوارع الرملية المشبعة بقطرات ماء المطر، وأصبحت مدينة التواهي السياحية في عدن، تنغم بطقس دافئ يجذب إليها السياح من جميع أنحاء العالم، مدينة عدن الرائعة تحلم بالأمن والسلام، كان الشارع الممتد حتى شاطئ حجيف حيث ترسو البواخر على البحر خالياًَ كعادته في الشتاء، من بعيد كان صوت صفارات البواخر القادمة والخارجة من الميناء محملة بالبضائع وبعضها يتزود بالوقود والأخرى محملة بالسياح القادمين إلى عدن. ومع ولادة شمس الصبح، يأتي بائع الخضر والفاكهة، وكان يمشي متمهلاً بخطواته الزاحفة، ويحيط رأسه وكتفيه بكيس قديم مفتوح الجانبين كأنه بابا (دولاب) ويغني بصوته العذب الذي يضرب أذني بلحنه اللحجي شعر ولحن أحمد فضل القمندان والتي أصبحت من الأغاني المشهورة في لحج وعدن (حالي يا عنب رازقي) ويقول فيها:يا قلبي تسلى علىساجي الطرف ظبي الخلاوانتي يا سحابة أبرقييا خلي دلابي دلاكلك يا عيوني حلاوينك يا عسل مشرقيخلك في المحبة حنبوينك يا الغصين الرطببالك بر هاجر نقييا مشمش وذول العنبعذبني الهوى وين هبهات الماء بانستقيقلبي لك لا تحبخافك في الهوى تنتهبيا حلال الهوى ما لقيلقد أعاد لي هذا البائع المتجول البسيط بأغنيته الشعبية، حبي الشديد لأغاني أيام زمان البسيطة في كلماتها القوية في معانيها ومن أبرز الفنانين في عدن أيام زمان الفنان الراحل عوض عبدالله المسلمي والمطرب الراحل سلطان علي آل هرهرة والفنان المعروف بالتجديدية في الأغنية الحضرمية محمد جمعة خان والفنان الراحل يسلم دحي والذي كان يتمتع بجمال الصوت والإجادة في إلقاء القصائد والمقطوعات الشعرية وإجادة الأغاني البدوية ومن أشهر أغانيه البدوية المسجلة:ما لقيت العرب كلهم بالسويةبعضهم زين يطعم كلامه مثل العسل لي من النوبابتلى خاطري والمحبة بليهحسن طرفي تزعل منامه والطعم في الفم مقلوبلا تلومون مولى الهوى والهويةما على من عشق شي ملامة ذا مقدر ومكتوبيا معدي طريقي وعابر عشيهعذب صادت فؤادي سهامه وتوغلت في الجنوبلو سمح لي بالتلاقي ولو في الخفية بانجي العافية والسلامة وبا ينقضي كل مطلوب وهناك العديد من الفنانين المشهورين في عدن مثل الفنان الكبير الراحل محمد سعد عبدالله والموسيقار الراحل أحمد قاسم والفنان الراحل طه فارع والفنان الراحل عبدالرحمن باجنيد والفنان المعروف عبدالكريم توفيق والفنان المعروف عوض أحمد وغيرهم.وكل هؤلاء الفنانين جميعاً مغروسون عميقاً في تربة تراثنا الشعبي، مشبعون بلب شخصيتنا الحضارية، مترعون بدفق شلال وجداننا العربي.نهضة الموسيقى الشعبيةوفي عدن التي نزح إليها الفنانون والموسيقيون من جميع محافظات الجمهورية وعلى رأسهم محمد جمعة خان، ويسلم دحي، وبدأ في الخمسينات من القرن الماضي الالتفات إلى مخزون شعبي هائل من الموسيقى الشعبية في عدن، ونزل من الأرياف فنانون نشؤوا على تراث هذا المخزون ومن لحج الفنان الشعبي المشهور الراحل فيصل علوي الذي قدم العديد من الأغاني اللحجية التي نالت إعجاب جمهور الأغنية الشعبية.وكانت أهم ملامح هذه النهضة أن القائمين عليها أسسوها على تراث هذه الموسيقى الشعبية، ومنهم الفنان الراحل محمد سعد عبدالله والفنان الراحل محمد مرشد ناجي والفنان الراحل أحمد قاسم والفنان المعروف محمد محسن عطروش والفنان المعروف أنورمبارك وغيرهم.واجتمعت هذه الجذور الأصيلة مع الثقافة الموسيقية العربية المتطورة التي كانت تفد إلى عدن من أفلام فريد الأطرش وشادية وأغاني محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، وعلى الخصوص، وفي دفق الأسطوانات والأغنيات الإذاعية من القاهرة، ومع العلوم الموسيقية التي تعلمها الموسيقار الراحل أحمد قاسم وغيره من الفنانين الذين درسوا الفن والموسيقى في مصر والغرب، ولم ينطلقوا من تربة هجينة، لكنهم لم ينغلقوا في حلقة مقفلة.يقول الموسيقار والتربوي عبدالقادر قائد في كتابه (من الغناء اليمني): «لقد تحمل المطربون في عدن التي لم يكن فيها الغناء محرماً مسؤولية الحفاظ على التراث الغنائي القديم ونشره بشتى الطرق، ولولا وجود الغناء الصنعاني في عدن وغيرها من المناطق التي لم تكن خاضعة لحكم آل حميد الدين لتلاشى ذلك التراث الذي انحدر إلينا من عصر الإمام شرف الدين (ت 5 9هـ - 1557م) وربما قبله (كما جاء في شعر الغناء الصنعاني للدكتور محمد عبده غانم).ويواصل الموسيقار والتربوي عبدالقادر قائد حديثه قائلاً: “ وفي ندوة الموشح اليمني التي نظمتها وزارة الثقافة والسياحة في عدن بتاريخ 28 نوفمبر 1984م (مكتبة صوتية أحمد مهدي) أشار الأستاذ الكبير عبدالله البردوني إلى دور عدن في الحفاظ على التراث الغنائي القديم حيث قال: “أي متابع للفنون سوف يسجل لعدن آية الاحتفاظ لأنها أول من سجلت الأغاني اليمنية في آخر الثلاثينات والأربعينات.. ولولا التسجيلات التي تسجل هنا في عدن لما سمعنا مثل (من سبب أهيف) و(نسيم الصبا) ولا مثل (وا مغرد بوادي الدور) هذه التسجيلات في الحقيقة شكلت احتفاظها بالتراث”.مشاركة الفنانين الشباب في الأغاني الشعبيةقدم العديد من الفنانين الشباب أغاني شعبية نالت إعجاب جمهور الفن، وقام البعض منهم بإدراج الآلات الغربية إليها مع العود والدف والطبل مثل استخدام (الكمان الجهير والكونتر باص) التي تنطق المقام العربي، دون تحفظ، واستخدموا الآلات المعدلة (البيانو والبوق..) التي لا تستطيع أن تنطق غير المقامات الأوروبية المعدلة، ضمن حدود ملاءمتها للجملة الموسيقية العربية.كما استخدم الموسيقيون الشباب في عدن الأغاني الشعبية الراقصة، إضافة إلى المقامات والآلات والهرمونيا والبوليفوليا الغربية، قائمة على مبدأ إغناء الموسيقى العربية لا إلغائها، أي أنهم استخدموها، إضافة إلى الأغاني الشعبية والموسيقى الشعبية المحلية، ضمن نسيج موسيقي عام هويته عربية لا لبس فيها.لا يمكننا أن نبدع بوسائل غيرنا، فحتى أرقى الأمم لم تلفح في مجاراة ألمانيا والنمسا في الفن السيمفوني، أو في الوصول إلى ما يقرب من المرتبة التي أدركتها إيطاليا في الفن الأوبر الي ، فبأي منطق لانزال نحن نأمل النجاح فيما أخفق فيه من يفوقوننا حضارة؟حين نكون راسخين في هويتنا الحضارية تصبح رياح الخارج نسائم منعشة ومفيدة ومثمرة.ألم يقل المهاتما غاندي: أفتح نافذتي لتهب النسائم المنعشة، لا لتعصف الرياح بأثاث البيت، فتقتعله.منتدى الباهيصمي ودعوته إلى توثيق الأغاني الشعبيةيعمل منتدى المثقف والمبدع الأستاذ محمد سالم باهيصمي رئيس منتدى الباهيصمي الثقافي والفني على رعاية ودعم المبدعين والاهتمام بالأغاني الشعبية وتوثيقها، وتأسيس وتطوير البنية التحتية للإنتاج الثقافي والفني وتأسيس مراكز لتوثيق التراث الثقافي والفني، ودعوة المؤسسات الإعلامية إلى إبراز الحركة الثقافية بمختلف أشكالها، وإبراز مواهب وإبداعات الشباب والطفل.