ثمة فرق كبير بين الدين والتدين ، لكن يبدو أن المسافة بين الدين فهماً وسلوكاً وبين بعض صور التدين وسلوكيات المتدينين أوسع مما نتصور، ولا يتعلق الأمر - فقط - بالقضايا الكبرى التي استقال المسلمون منها منذ زمن طويل وإنما بكثير من التفاصيل الصغيرة التي نمارسها يومياً سواء على صعيد العبادات وعلاقتنا مع الله تعالى، أو على صعيد المعاملات وعلاقتنا مع بعضنا البعض.الأمثلة كثيرة ولكنني استأذن القارئ الكريم في إثبات بعضها: خذ مثلاً ما تشهده مساجدنا يوم الجمعة من اكتظاظ للسيارات في الشوارع المحيطة بها، حيث لا يتورع المصلون عن تعطيل كل القوانين والقيم الأخلاقية حين يغلقون بسياراتهم هذه الشوارع وحتى الأرصفة، وعذرهم في ذلك أنهم « يؤدون فريضة الصلاة » وكأن أداءها يعفيهم من مسؤولية الالتزام بالنظام ، أو يخولهم إلحاق الأذى بغيرهم ، أو يحررهم من الوقوع في المنكر الأكبر.. وخذ - مثلاً - انسحاب كثير من الموظفين والعمال من مكاتبهم وأعمالهم وقت الصلاة بحجة الانقطاع لأدائها، وليت أن مدة هذا الانقطاع تكون بمقدار ما يحتاجه أداء هذه الفريضة من وقت (عشر دقائق مثلاً) بدل أن يكون ذريعة للاسترخاء وتعطيل معاملات الناس وعدم احترام قيمة الوقت والعمل اللذين يعتبران في الإسلام فريضة وعبادة أيضاً، وقد راعني مشهد طابور كبير يصطف أمام أحد المخابز وحين سألت عن السبب قيل إن البائع ذهب للصلاة بعد رفع الأذان بدقائق، وبعد أن انتظرت عودة المصلي - وكان غاضباً من احتجاج طابور المشترين - حاولت أن استفهم منه ما فعل فرد علي بعصبية : الصلاة يا أخي أهم بكثير من بيع الخبز.. الصلاة لا تنتظر ولكن هؤلاء الناس يمكن أن ينتظروا.. مع أن البائع يدعي أنه كان في المسجد للصلاة فيما كان في سوق القات لأجل شراء القات ليمضغه واتخذ الصلاة عذراً لإنجاز هذا الغرض. وخذ مثلاً آخر مشهد آلاف بل ملايين المسلمين الذين يذهبون سنوياً إلى البيت الحرام لأداء سنة ( العمرة ) وبعضهم يستدين المال للحفاظ على هذه العادة ولو قدر لأحدنا أن يحصي المبالغ التي تنفق سنوياً في بلادنا - مثلاً - لكانت بالملايين فيما لم يفكر بعض هؤلاء بأن العمرة سنة وبأن أداءها لمرة واحدة يكفي وأن المهم هو الموازنة بين أولويات الإنفاق عليها أو على غيرها من الفرائض الاجتماعية ( كتزويج الشباب أو معاونة الفقراء ) فهي واجب ديني يقضي بتقديم الأهم - بالنسبة للمجتمع لا للفرد نفسه - وهو هنا أكثر من يعد، إلى غير ذلك من أداء السنن، كما فعل ذلك فقهاؤنا وأفتوا أيضاً. يمكن أن أضيف لهذه الأمثلة عشرات غيرها ، صورة التاجر الذي يغادر المسجد إلى متجره أو بقالته ولا يتورع عن غش الناس ورفع الأسعار عليهم، صورة ( المتدين ) الذي لا يتردد عن إبراز موقف الإسلام من إنصاف المرأة ثم يعود إلى بيته ليشتم زوجته ويعذبها، صورة المسلمين الذين يتمسكون بمظاهر ( الدين ) أو ما يسمى ( بالتدين الاصطناعي ) وهم أبعد ما يكونون عن التقوى والاستقامة في حياتهم.. وغيرها . باختصار يمكن لمن يبالغون في الخوف على الإسلام من المسلمين أنفسهم ( دعك من أولئك الذين يبالغون في الخوف من الإسلام ) إن يتنبهوا إلى أن العالم لا يحكم على الإسلام الموجود في بطون الكتب ولا وقت لديه - أصلاً - لقراءة نصوص ديننا وتراثنا وإنما يحكم عليه من خلال أفعالنا وسلوكنا أو (تديننا) وممارستنا لقيم الدين وتعاليمه، فهل يدفعنا حبنا للإسلام لا مجرد خوفنا عليه، إلى تقديم نموذج أفضل ؟!.. اعتقد أن العالم اليوم بحاجة إلى هذا النموذج.
|
آراء
صور من (التدين) المغلوط
أخبار متعلقة