استغل المسؤولون الصهاينة أوضاع اليمن المضطربة، وقاموا بتهجير عدد محدود من اليهود اليمنيين إلى إسرائيل. وقد تم لهم ذلك باستخدام الآلية ذاتها التي احترفوا انتهاجها لعشرات السنين؛ تعميق مخاوف اليهود الأمنية والعقيدية الدينية والثقافية في مجتمعاتهم الأم، وإقناعهم بأن استيطان "أرض الميعاد" هو آخر الملاذات المتاحة أمامهم للإفلات بحيواتهم والتمتع بحقوقهم الأساسية، وتقديم وعود وإغراءات تصعب مقاومتها ممن يواجهون بؤسا استثنائيا.قبل ستين عاما، كان عدد يهود اليمن نحو 50 ألفا؛ تمكنت الدوائر الصهيونية من تهجير أكثر من 49 ألفا منهم إلى إسرائيل، عبر عمليات ومخططات صيغت ونفذت بعناية بالغة. وكانت عملية "بساط الريح"، كناية عن استخدام الطائرات الحديثة في عمليات النقل بين عامي 1949 و1952، أشهر تلك العمليات. اليوم، لم يبق من هذه الجماعة العريقة في يمنيتها، سوى عدد محدود جدا يقدر بالعشرات.وتسعى دوائر الهجرة والاستيطان في الوكالة اليهودية، إلى إحاطة أحدث جهودها لتهجيرهم بهالة أسطورية، والإيهام بأنها جاءت بما لم يستطعه الأوائل! تقول أرييل دي بورتو، المسؤولة في الوكالة، إنها "لا تستطيع البوح بمعلومات عن طرق إخراج اليهود اليمنيين، فهذه العمليات سرية..".والحقيقة أن المسألة أبسط بكثير مما تود هذه المسؤولة الإيحاء به، فالعملية السرية "العبقرية" التي تشير إليها، تتعلق بسبعة عشر شخصا طافت بهم الوكالة اليهودية حول نصف العالم، إلى أن أوصلتهم إلى مستوطنتها الكبرى إسرائيل. فقد تم نقل هذه المجموعة، ضمن ثلاثين شخصا، إلى بريطانيا، ومنها إلى الأرجنتين، ثم أخيرا إلى إسرائيل.المنطق يقول بأن من أمكنه تهجير عشرات الآلاف، بأدوات منتصف القرن الماضي، لا يصعب عليه تهجير 17 شخصا بوسائل وقتنا الراهن. لكن ما يلفت النظر، وما نتصور أنه سقط جهلا أو سهوا من تحليلات أبطالها وروايتهم، هو أن تنظيم ساتمار الصهيوني تمكن عام 2010 من تهجير 30 يهوديا يمنيا إلى بريطانيا؛ التي رفضت منحهم وضع اللاجئين.. وعندئذ جرى نقلهم إلى الأرجنتين، قبل سوقهم إلى إسرائيل.هذه التفصيلات مهمة في معرض دحض التوجهات الصهيونية الإسرائيلية، لإدراج يهود العالم العربي تحت باب اللجوء واللاجئين. فبريطانيا، راعية المشروع الصهيوني الاستيطاني مذ كان مجرد فكرة؛ صاحبة وعد بلفور المنكود، والتي جندت مقدراتها الإمبراطورية ذات مرحلة، للملمة يهود العالم في دولة على أنقاض فلسطين، رفضت استضافة الثلاثين يهوديا يمنيا كلاجئين. ولا يصح هذا الموقف ولا يستقيم حقوقيا، إلا في حال كانت لندن قد أيقنت أنه لا خطر يهدد حياة هؤلاء اليهود في موطنهم الأصيل.ومع ما تستبطنه هذه الواقعة من عبر ودلالات، فإن الأوساط الصهيونية ومن يوالونها، ما زالت تصدع رؤوس الناس ببدعة "اللاجئين اليهود" من الدول العربية. فكيف يتم وصف المهاجرين من اليهود العرب إلى إسرائيل بـ"اللاجئين"، فيما لا يصدق هذا الوصف على المهاجرين منهم إلى عوالم الآخرين، كما هو الحال مع بريطانيا مثلا؟في غمرة هذه البدعة، التي يساهم في فضحها التصرف البريطاني المشار إليه، لا يفطن القائمون على الحل الصهيوني لما يعرف بقضية اضطهاد اليهود، إلى ما ينطوي عليه هذا الحل من أبعاد عنصرية ومعان تمييزية..لماذا لا يبصر هؤلاء الصهاينة ما تعانيه الدولة اليمنية من أحوال طارئة، يقع تحت وطأتها كل اليمنيين بمن فيهم اليهود؟ أليس المفترض أن يقود مخاض التحول الديمقراطي في اليمن إلى دولة يتساوى فيها المواطنون، بغض النظر عن إيديولوجياتهم السياسية ومعتقداتهم الدينية؟ لو كانت الدوائر الصهيونية صادقة في مشاعرها وعواطفها الإنسانوية مع يهود اليمن، ألم يكن الأولى لها أن تستحثهم على مشاركة مواطنيهم التاريخيين كي يصل هذا التحول إلى غايته؟ ولو كانت تفاعلات هذا التحول ومخاضه تنطوي، كما تزعم القوى الصهيونية، على تعريض اليهود هناك لأخطار محدقة، ألم تكن بريطانيا على دراية بذلك، ويسهل عليها إسباغ صفة اللاجئين على من هاجر إليها منهم؟من الواضح أن البعد الاستيطاني للمشروع الصهيوني يعيش على آلام اليهود، إذا كان هناك مثل هذه الآلام، وهو يجيد انتهازها، ولا يفتح آفاقا ولا يطرح حلولا لمعالجتها سوى أفق واحد فقط، هو الهجرة إلى إسرائيل. عطفا على هذه الاستفهامات والأفكار، يلح علينا هاجس لا نملك له دفعا، وهو أن دوائر الهجرة اليهودية، كانت تعلم أن شروط اللجوء ومسوغاته لا تنطبق على يهود اليمن الذين ساقتهم إلى بريطانيا.. لكنها استدرجتهم إلى هناك كطريق التفافي تكون إسرائيل محطته النهائية.. نحن أمام خبث صهيوني بلا حدود.
|
آراء
يهود اليمن بين الهجرة واللجوء
أخبار متعلقة