نبض القلم
حينما تتعرض الأمم والشعوب الى نكبات تزلزلها والى أزمات تبلبلها، يكون من الواجب على أفرادها ان يعودوا الى أنفسهم ليتبينوا مواضع أقدامهم، ومواقع خطواتهم، لانهم يكونون حينئذ في أشد الحاجة الى عملية تغيير او تجديد في حياتهم. حتى تعود نفوسهم لبنات صالحة في مجتمعاتهم، ولذلك قال الله تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد 11) والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «عليك بنفسك فأصلحها».وإذا رجعنا الى كتاب الله تعالى لوجدناه يحدثنا عن خمسة أنواع من النفوس، فهو يحدثنا عن:- النفس الأمارة بالسوء.- والنفس المسوًلة للشر.- والنفس الموسومة بالإثم.- والنفس اللوامة على التقصير.- والنفس المطمئنة بالرضا واليقين.فالنفس الأمارة بالسوء هي التي تدعو صاحبها إلى ارتكاب الذنوب والسيئات وتحرضه على الانجراف والفجور،وتدفع به إلى مهاوي الضلال.وكلمة (أمارة) صيغة مبالغة من الأمر، وفيها يقول القرآن الكريم «وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي»( يوسف ( 53)والنفس المسوّلة هي التي تزين القبيح فتعرضه في صورة جميلة، وتسوغ أهواءها بمكر وبراعة، فترسم الشر وكأنه خير، وتقيم الدليل بعد الدليل على أن شهواتها معقولة، وانحرافاتها مقبولة،وتصرفاتها مبررة، فيقال: سوّلت له نفسه تسويلا، أي زينته له، وحببته اليه ليفعله أو ليقوله. وفي هذه النفس يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (يوسف 18) أي زينت لكم أنفسكم أمرا.والتسويل معناه تقدير معنى في النفس مع الطمع في اتمامه،وكأنه أمنية للنفس تطلبها، فيزينها الشيطان لها، وقد صورها القرآن الكريم في قوله: «إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، الشيطان سوّل لهم وأملى لهم» (محمد، 25).والنفس الموسوسة هي التي تهمس الى صاحبها بالصوت الخفي الذي يكاد يسمع من الأعماق، لتذكره بخواطر الإثم، ومشاعر المنكر، وفيها يقول القرآن الكريم «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد»(ق، 16).والنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها لوما شديدا على ارتكاب الشر والتقصير في عمل الخير، وتندم على ما فات وتحاسب عليه، والإمام الحسن البصري يقول: «إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟، ما أردت بحديث نفسي، وان الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه» فالنفس اللوامة إذن نفس متيقظة دوما، خائفة باستمرار، حذرة مما تفعل تتلفت حولها،وتتدبر أمورها وتسائل ذاتها في كل وقت وحين: أين أنا من الطريق المستقيم؟.ثم نأتي الى النفس المطمئنة وهي تأتي في الذروة وفي القمة، والطمأنينة هي السكون بعد الانزعاج،واليقين بعد الارتياب، الرسوخ بلا اضطراب، لأنها نفس آمنت بالله واعتصمت بحبل الله ولجأت الى حمى الله، ومن كان كذلك فقد استوى على الصراط المستقيم. وهو الذي قال فيه الله تعالى في كتابه الكريم: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب» (الرعد 28).وهذه النفس المطمئنة الموقنة الراضية بالله والراضية عن الله، يناديها ربها باكرم نداء وألطف دعاء، فيقول لها: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي» (الفجر، 30).ومتى يناديها هذا النداء الحلو والجميل النبيل ؟إنه يناديها يوم الهول الأعظم وفي وقت الكرب الأكبر، ومن ثنايا الرعب المزلزل الذي يصوره صوت الله تعالى بقوله: «كلا إذا دكت الأرض دكاً دكا،وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان،وأنى له الذكرى، يقول يا ليتني قدمت لحياتي، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد» (الفجر، 21 - 26) ومن خلال تلك الاهوال الثقال ينبعث ذلك الصوت الإلهي الرحيم ليقول :( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك رضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) ( الفجر 30) وبعد أيها الإخوة المسلمونهذه خمسة أصناف من النفوس ذكرها القرآن الكريم ، وكل صنف منها له طعم خاص ومذاق متميز ، يختلف عن الأصناف الأخرى ولا شك أن شر هذه النفوس هي النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى الضلال ، المحرضة لصاحبها على الانحراف والاعتساف، وأن خير هذه النفوس هي النفس المطمئنة الموقنة الراضية وبينهما مراحل ومنازل ودرجات.فالإنسان الغافل الضال حينما تدركه الرحمة بعد طول شقاء ينازع نفسه ، ويقاومها لينقلها من منبت السوء إلى منبت الخير قدر طاقته، فهو ينقلها من منزلة الأمر بالسوء إلى أخف منها، وهي منزلة التسويل بالشر، تم يعود إلى منزلة أخف، وهي منزلة الوسوسة بالإثم ، تم يعود فيزكي هذه النفس، ويوقظ فيها صوت الضمير فإذا هي نفس لوامة تفكر وتتدبر وتعتبر فتزدجر ، ثم تبلغ القمة، فإذا هي النفس المطمئنة التي لا تزلزلها الأهوال ولا تؤثر فيها الشدائد ، ولا تزحزحها الأزمات مهما عظم شأنها. مثلها الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في أحرج المواقف ، والذي قال فيه القرآن الكريم « إلا تنصروه فقد نصره الله ،إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار ، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم » ( التوبة).هذه نفوس خمس، نفس أمارة بالسوء ونفس مسولة للشر ونفس موسوسة بالإثم ، ونفس لوامة على التقصير ونفس مطمئنة برضوان اللهفليت كل واحد منا يسأل نفسه: أين نفسي من هذه النفوس هل هي في المقدمة أم هي في المؤخرة ؟ أهي صالحة للاستقامة أم أنها فقدت الأمل والرجاء؟ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا في إصلاح نفسه فكان يدعو ربه ( اللهم أجعل من نفسي نوراً) وكان يستعين بالله من انحراف النفس ، فيقول (اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) ويقول اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع) وغيرها من الأدعية المأثورة.فإذا كان هذا هو شأن رسول الله المبعوث رحمة للعالمين ، فكيف يكون شأننا نحن الراتعين في الضلال المبين؟