قراءة: دينا نبيل 3 - عبور الأنا النسوية إلى الجماعية:عند تناول الأدب النسوي لقضايا المرأة ، فإن أحد أهم الأهداف ليس مجرد نقل حالة فردية في المجتمع، وإنما هي تعبر ذلك الجسر من أجل تخليص جماعتها من السلطة المزيفة ، فتكون ( الشخصية في النص تلخيصا للأنثى في المجتمع الشرقي بكل ما يحيط بها من أعراف وتقاليد حاصرتها وحاصرت وظيفتها الحياتية في جانب ضيق محدود ، لذلك فكان تمرد الأنثى داخل النص السردي النسوي انتقاما لملايين النساء المعذبات عبر القرون ، أو انتقاما لملايين النساء المخدوعات بالسلطة الذكورية المتعالية ) ، فبالتالي هي لا تبحث عن خلاصها الفردي وإنما هي أشبه بمن يقود حركة تبصرة غيرها من النساء بحقوقهن وأدوارهن في الحياة والأخذ بأيديهن إلى الطريق من جديد.وفي (عيون المها) تعتبر البطلة نموذجا شرقيا صميما منذ نعومة أظفارها حتى بلوغها ثم زواجها ، فتمثل بذلك تلك الفئة الغالبة التي قولبها المجتمع ورسم لها أطرا تعسفية ما أنزل الله بها من سلطان، بل وفيه أحيانا انتهاك لحرمة الشرع ، وحتى عند ظلمها والتجني عليها لم تجد من يسعفها أو يأخذ لها حقها حتى وإن كانت أمها شريكتها في المعاناة :(أما أهدتك إلى أمه جارية؟؟ أما أعادتك إلى بيتك ذات ليلة عاصفة بالثلج والدموع، وجسدك المتورم يئن من سطوة يده، أما أرجعتك بذلقائلة: بيتك هو قبرك، لن تغادريه إلا بعد الموت، وكيف نظر بشماتة مفضوحة إلى انهيار آخر خط لمناعتك!!!).فقد بدأت القصة بتسليط الضوء على فتاة نمطية خاضعة تماما لأعراف المجتمع، ثم ( فقدت الثقة والإيمان بالأطر الثقافية القديمة التي حصرتها بالهامش وضيقت عليها الخناق )، فعاشت الظلم والمعاناة.4 - حرية الحركة: يميل أسلوب السرد النسوي إلى التداعي الحر حيث لا يلتزم الكاتب بالتسلسل الزمني المنطقي للأحداث الذي يسير معتمدا على المقدمات والنتائج، فيتحرر السرد من القيود الزمنية بالتردد بين الوراء والخلف، ولا شك أن هذا أقرب إلى الواقعية إذ أن الأحداث في عقل الإنسان لا تسير بشكل مطرد متسلسل . وهذا يشبه ما يعرف بالمونتاج الزمني حيث ( يظل الشخص ثابتا في المكان على حين يتحرك وعيه في الزمان ) ، وهذه التقنية لا تؤثر على الحدث الرئيس بالقصة وإنما هي مساحة أكبر للشخصية للتحرك وأخذ عمقا أكبر .وفي (عيون المها) كان لتقنية الاسترجاع - ( أن يترك الراوي مستوى القص في الزمن الحاضر ويروي بعض الأحداث القديمة ثم يعود للحاضر ) - الدور الكبير في التعريف بشخصية البطلة وتصوير مدى القهر الذي شعرت به والذي أدى لظهورها أشبه بالمغيبة عقليا في أول القصة :(حسنا سأستدعي خوافي ذاكرتي من رماد الأيام، لأعرف من كان سببا في قتل بريقك، ها أنا أعود إلى الوراء، أطوي بساط العمر..).فيرتب المتلقي الأحداث في ذهنه ثم يستقرأ من خلال التسلسل الزمني لها مقدار الظلم الذي وقعت تحته البطلة ، ولا شك أن لهذه التقنية في هذه القصة بالتحديد الدور الأكبر في استجلاب تعاطف المتلقي مع البطلة ، وبالتالي تنجح الكاتبة في إثارة مشاعر القارئ وتوجيهها ، ولا شك أن لهذه التقنية الدور الهام في خدمة القصة القصيرة حيث التركيز في الأحداث.5 - الأنثى تستأثر بالسرد: تستحوذ الأنثى في هذا النوع من السرد على إنتاج مسرودها ؛ فــ ( لا تترك لغيرها من الشخوص المشاركة في إنتاج السرد إلا بقدر محدود ) فلها السيطرة المطلقة على السرد ومن ثم على زاوية النظر إلى مجريات الأحداث والشخوص .وفي (عيون المها) تعتمد الكاتبة على المنولوج الداخلي ، وهو ( سرد تلتزم به كتابات روائية للكشف عما يدور في نفوس شخوصها خارج التراتبات ، مستغلا في ذلك التداعي والمناجاة) ، فيأخذ السرد ( قطاعات مختلفة في أزمان مختلفة .. معتمدا على تداعي المعاني في الزمن ومقارنة المرء بنفسه في مختلف الفترات) ، وقد كان رائد هذا الاتجاه هو مارسيل بروست في رائعته ( البحث عن الزمن المفقود ).لم أر إلا أطياف ألوان، في سيرك استعراضي، يصفقون له بدهشة، لروعة إتقانه.. كان اسمي مها، هذا ما أذكره، أملأ الدنيا صخبا، وحيوية، كنت الأجمل، أين أنا؟؟؟كذلك اعتمدت الكاتبة الرواية بضمير المتكلم على لسان البطلة المشاركة في الأحداث ، فتروي الأحداث من وجهة نظرها هي، ورغم ما قد ينسب من نسبية وضيق أفق لهذا المستوى من السرد إلا أنه يحمل مصداقية عالية لدى المتلقي وإذابة الفوارق بين المتلقي والشخصية، بل يكاد يكون قد ألغى المؤلف، وتلجأ إليه الكاتبة خاصة إن كان استثارة تعاطف المتلقي مع البطلة مطلوبا (أشاهدك الآن وأنت تنكمشين في زاوية السرير، حائرة ترتعدين، لما احمرت وردتك، و تقاطرت ندى على الملاءة البيضاء، خبأتها مرتجفة الأضلاع، تسألين أمك عنها بصوت مخنوق، فتخفيك خلفها وراء جدران من الثلج. و بدأت تاريخا جديدا، كأن دربك قد تحول إلى نفق مرعب، تخافين ألغامه كلما تحركت.ولما زفتك إلى فارسك، طلبت إليكأن تبدلي جلدك على عتبة داره، لتلبسي ظله).ثانياً : أبجدية الجسد:يمتاز السرد النسوي بتوظيف الجسد الأنثوي باعتباره الوجود المادي للمرأة، فلا أقدر على الحديث عن جسد المرأة إلا هي، ومن ثم ( عني السرد برصد الآثار النفسية المنعكسة على الأنثى سلباً أو إيجابا في كلا الحالتين)، فلا يهتم السرد بذكر تفاصيل شكلية جوفاء لا علاقة لها بالفكرة الرئيسة، وإنما التركيز على أثر النفسية على الجسم الخارجي. وفي (عيون المها) كان التركيز في بداية على القصة على الحالة النفسية المدمرة للبطلة وتأثيرها على جسمها، و( يلاحظ أن الأثر السلبي كان ارتباطه ألصق بالجسد البيولوجي الفطري وبخاصة في المراحل العمرية الفارقة في حياة الأنثى )،(من هذه التي تقف أمام عدسة التصوير؟؟ تطلق ببلاهة ضحكة مزيفة، تواري خلفها الدموع ؟؟).ثم لا تلبث أن تنقل الجانب الآخر والوجه الآخر الضاحك لها لما كانت صغيرة قبل أن يضيق عليها الخناق :”مهلا ..وجدت هنا صورة تشبهني، صبيةحلوة تتأبط كراساتها بثقة، رأسها مرفوع،عيناها الواسعتان تنغرسان في المدى بثبات، تمشي فاتحة يديها للسماء، تحت المطر، على رأسها قبعة صوفية زرقاء.فتطرح الحالتان ثنائية ( الكبت - الانطلاق) وكيف ربطت الكاتبة بينهما وبين تعرف البطلة على هويتها ، فانطلقت من حالة أشبه بالضياع النفسي والتيه العقلي عن شكلها الحقيقي والذي أدى إلى فقدانها ذاتها حتى ظهرت أشبه بالمريضة العصابية، وما أن تعرفت على صورتها القديمة حتى وصلت إلى هويتها التي تاهت عنها.ثالثاً : اللغة والأسلوب: بعد أن زالت الحدود بين الأجناس الأدبية ؛ فصارت تحمل النصوص النثرية صفة شعرية، وصارت تحمل النصوص الشعرية صفة نثرية، إلا أن تركيز الأولى يكون على الحدث، بينما يكون تركيز الثانية على الصورة، وتتميز لغة السرد النسوي ( بانتقالها من التداولية إلى الشعرية، وتكثر هذه الدفقات في مواقف المشاعر والحوار العاطفي والتأمل ) ، فتركز على اللغة ذات المستوى المجازي ،فتنتقل من ( (اللغة المرآة) التي لا تتعدى مدلولاتها المعجمية إلى لغة مفجرة للدلالات تطرب النفس وتخدم القصر في القصة القصيرة ) (قلبها مبرمج النبض، وغناؤها جنائزي اللحن، ورقصها فوق الجراح .. إنه منطفئ، والشعر خامد الأنفاس، في ليل بارد العتمة، وغصن البان يتعكز على أعمدة من دخان الوقت).فهنا استعارات موحشة الأطراف تنقل الدفق الشجي الذي اجتاح البطلة ، وهنا مهارة الكاتبة في نقل التصوير وبالتالي التحكم في مشاعر المتلقي ، فهي تعلم متى تجعله يضحك ومتى تجعله يبكي وتعتمد اللغة في ذلك على القيمة البصرية ، فتحول المعنوي إلى حسي مرئي، مما يجعل الصور قريبة ملموسة لدى المتلقي خاصة وإن كانت الصور متوالدة(..نكزني، هذا حقي يا مجنونة، ورشقني بأشواك لسانه، المزروع بالصبار، أصابني في مقتل، صرخت أدفعه عني كمسخ ). ويظهر الالتفاف في السرد من خلال انحراف الأسلوب عن الطريق العادي المألوف :(لا تخافي صغيرتي ، أعرف أنه قد فتح باب غرفة النوم، أعرف نداء الضوء الأحمر الخافت لشهريار، لن أتركك الآن، سوف أتشاغل عنه، وأعد كوبا من الشاي لي ولك، نحتسيه معا على الشرفة، لقد اشتقت إليك، لن أغادرك، انتظريني) فليس الالتفات مجرد انتقال من المتكلم إلى المخاطب أو العكس، وإنما يشمل تنوع زمن الأفعال بين الماضي والمضارع والمستقبل، كذلك الاختلاف في الضمائر، ولهذا الالتفات الدور في كسر الرتابة وجذب انتباه المتلقي، وهذا بدوره ضروري في إقناع القارئ بالقضية الرئيسة المطروحة في النص واللعب على أوتار المشاعر والاستعطاف ليتم الإقتناع التام بما يطرحه الكاتب.
|
ثقافة
قراءة قصصية: السرد النسوي في (عيون المها) للأديبة إيمان الدرع 2-2
أخبار متعلقة