(مصر نموذجاً)
الإهـــــداء:إلى رواد القضاء الإداري في اليمن من رؤساء وأعضاء المحاكم الإدارية وكافة الداعين إلى دولة مدنية حديثة والعاملين عليها، الذين يخوضون جميعاً معركة غير متكافئة تدور رحاها في بحر متلاطم من الفوضى وهيمنة مراكز القوى والتخلف والجهل والاستبداد.وإلى قضاة مصر العظيمة - حماة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة في العالم العربي وقضاء مصر العظيم الذي تريد قوى التخلف تقويض صرحه وتهديم بنيانه الشامخ.لا ريب أن القضاء المصري العادي برئاسة المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا ومجلس الدولة أعظم وأكفأ قضاء في العالم العربي.ويعتبر القضاء الإداري - الذي يمثله (مجلس الدولة) ويلتزم فيه الحاكم والمحكوم بنص القانون والمساواة بين الجميع أمام القانون، هو أحد الحصون الحصينة لحماية حريات وحقوق الأفراد والجماعات في مواجهة طغيان وتعسف سلطات الحكم المختلفة في الدولة، والتي نصت عليها الدساتير المحلية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان:((... لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه، وحرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل الدولة، وأن يغادر أي بلاد بما في ذلك بلده، كما يحق العودة إليه، والحق في التفكير والدين وحرية الرأي والتعبير، والاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية)).(من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1948م، في دورتها الثالثة التي عقدت بقصر شايو بباريس).قضاء قوي ومستقل :مضى حين من الدهر كانت فيه كافة أعمال الإدارة المخالفة للقانون وبالذات أفعال الجهات العسكرية والأمنية العلنية والسرية بمنجاة من الإلغاء ووقف التنفيذ، فإن مرد ذلك إلى ان مبدأ الشرعية لم يكن قد اكتمل له أخص عناصره، وهو الخضوع لرقابة القضاء، وعدم وجود قضاء قوي ومستقل، أما وقد اكتمل هذا العنصر في مصر بإنشاء مجلس الدولة ونص القانون الخاص بذلك على سلطة هذا المجلس في إلغاء القرارات الإدارية المخالفة للقانون، ولذلك لا مجال لأن تهدر تلك الرقابة بنص في القانون سواء شمل المنع دعوى الإلغاء ودعوى التعويض معاً أم اقتصر على دعوى الإلغاء فحسب، وإلا كان هذا النص مخالفاً للدستور(1 ).وقد أشاد القضاء الإداري في مصر حتى الآن صرحاً شامخاً من الأحكام التي كان لها وما زال أبلغ الأثر في صون الحريات ورد الحقوق وترشيد الإدارة إلى السبيل السوي والحفاظ على أمن المواطنين.وقد أكد معظم تلك الأحكام أن القضاء الإداري في مصر برئاسة (مجلس الدولة) هو الملجأ والملاذ الحامي للحقوق والحريات.الرقابـــة القضائيـــة :طبيعتهـــا :تعتبر الرقابة القضائية من مقومات الدولة القانونية، لأنه ثبت عملاً أن الرقابة البرلمانية وهي رقابة سياسية لا تكفي، كما أن الرقابة الإدارية على أعمال وإجراءات السلطة الإدارية تجعل الأفراد تحت رحمة هذه السلطة، إذ تقيم منها خصماً وحَكَماً في آن واحد، ومن ثم، كانت الرقابة القضائية هي وحدها التي تحقق ضمانة حقيقية للأفراد حيث يتاح لهم أن يلجأوا إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانات كافية، يطلبون منها إلغاء أو تعديل أو التعويض عن الإجراءات التي تتخذها السلطات العامة بالمخالفة للقواعد القانونية. فالرقابة القضائية، بذلك تمثل أفضل وسائل احترام قاعدة القانون بالنسبة لسائر السلطات لما يتمتع به القضاء من موضوعية في جانب وعدم قابلية أعضائه للعزل من جانب آخر.تمثل الرقابة القضائية الحماية الحقيقية للحريات في توافر الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة.والرقابة القضائية لا تخرج عن صورتين أساسيتين:أ - قضاء الإلغاء.ب- قضاء التعويض.وتعتبر الرقابة القضائية أهم الضمانات لحماية الحريات، إذا قامت على أسسها الحقيقية كقيد فعال وأداة مؤثرة لحمل الإدارة على احترام القانون، بإلغاء قراراتها التي اعتورها عيب مخالفة للقانون، أو شابها عيب من العيوب المؤدية للإلغاء، كذلك دعاوى المسئولية من الأفراد للتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم ومست مصالحهم وأثرت فيها من جراء تصرف الإدارة المخالف للقانون والذي رتب الضرر المادي أو المعنوي الموجب للتعويض وفق قواعد المسئولية عن الأنشطة والتصرفات غير المشروعة.وتعرف هذه المسئولية بـ (المسئولية عن المخاطر أو تحمل التبعة).وهي تختلف عن المسئولية التقصيرية والتي ينتج عنها الضرر كنتيجة لتصرف خاطئ من أحد رجال الضبط الإداري أو رجال السلطة وسوء استخدام المرافق العامة، ومع ذلك ففي كلتا الحالتين تتاح الفرصة أمام المحاكم لتباشر رقابتها على أعمال سلطات الضبط الإداري.وفي مصر نجد أن قضاء الإلغاء تقوم به محاكم الدولة منذ إنشائه بالقانون رقم (112) لسنة 1946م.أما في اليمن فلا يوجد حتى الآن (مجلس الدولة) أو محكمة إدارية عليا، ولم يتم إنشاء المحكمة الإدارية الابتدائية إلا منذ فترة وجيزة.وقد ورد في أحد الأحكام الإدارية بشأن صلاحيات الجهات الإدارية ما يلي:والسلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة مع خطورتها أبعد ما تكون عن السلطة التحكمية التي لا تلتزم فيها الإدارة بالقانون، وتضرب به عرض الحائط، فهي لا تعدو أن تكون نوعاً من الحرية لتمكين الإدارة من تقدير خطورة بعض الحالات، واتخاذ الإجراء الملائم لمواجهتها. وهذه تنطبق تماماً على الإجراءات التي تقوم بها سلطات الضبط الإداري في ممارسة نشاطها، وتتمكن من مواجهة الحالات الواقعية التي تعرض لها، ويكون اختيار وقت تدخلها بالإجراء الضابط وتقدير أفضل الوسائل وأجداها لمواجهة هذه الحالات، وفي هذا المجال تكون سلطة الضبط حرة ولكنها في نفس الوقت تكون محاطة دائماً بفكرة تحقيق الغاية من النشاط الضابط وهو النظام العام بأسلوب يكفل تحقق الصالح العام في ذات الوقت، وهذه الفكرة هي التي تغطي جميع أعمال أجهزة الضبط وتهيمن على كل تصرفاتها(2 ).الرقابة القضائية والسلطة التنفيذية :لا مراء في أن رقابة القضاء تعتبر القيد الذي يرد على السلطة التقديرية للإدارة ويقلل بالتالي من غلوائها في ما تصدره من قرارات مؤثرة في الحريات، ولذلك تعتبر الرقابة القضائية قيداً هاماً على صلاحيات وسلطات السلطة التنفيذية التي تؤدي إلى تحكمها في تصرفاتها أو أعمالها التنفيذية.وذلك يؤكد ما للضمانة القضائية ورقابتها على إجراءات سلطات الضبط من علاقة وطيدة بحماية الحريات ضد عسف هذه السلطات من الاعتداء عليها بإجراءاتها المغرضة أو المخالفة للقانون أو تلك التي تهدف إلى غاية يشوبها البعد عن المصلحة العامة أو الغاية المتوخاة من الإجراء، وهذا يضفي على الحرية هيبة تكتسبها من تقدير المشرع والسلطات لها.إن رقابة القضاء هي رقابة مشروعية في أساسها الأول تهيمن بها على تصرفات الإدارة المقيدة، لأن هذه التصرفات يجب أن تسير وتحيا في النطاق القانوني الذي رسمه المشرع، ولا تمتد هذه الرقابة إلى تقدير ملاءمة الإجراء أو القرار فذلك يتنافى مع حرية الإدارة في مباشرة سلطتها التقديرية، إذا توافرت الظروف والضوابط القانونية أو المعقولة التي تسمح بإجرائه، ويهدم استقلالها في تقدير مناسبات القرار الإداري وملاءمة إصداره وهو أمر تأباه قواعد القانون الإداري التي استقرت على أنه لا وسيلة للتعقيب على هذه السلطة إلا بعيب إساءة استعمال السلطة ولهذا كانت العيوب الملازمة لاستعمال السلطة المقيدة هما عيوب الشكل والاختصاص ومخالفة القانون، في حين أن العيب الملازم لاستعمال السلطة التقديرية هو عيب الانحراف. ولذلك نجد أن السلطة التقديرية لا تقبل المد أو الجزر أي الأخذ والرد( 3).إلا أن هذا لا يعني أبداً أنها سلطة مطلقة وأن الرقابة القضائية تكون في هذه الحالة منعدمة، بل إن الرقابة القضائية موجودة دائماً على جميع التصرفات الإدارية لا تختلف في طبيعتها، وإن تفاوتت فقط في مداها، وهي تتمثل في هذا المجال التقديري في التحقق من أن التصرف محل الطعن يستند إلى سبب موجود مادياً، وصحيح قانوناً وأنه صدر مستهدفاً الصالح العام، ومن ثم فإنه في صور هذه المبادئ يتعين النظر في مشروعية القرارات الصادرة من الإدارة مهما كان استنادها إلى سلطتها التقديرية التي لا معقب عليها.ولذلك نجد أن سلطة الرقابة القضائية على السلطة التقديرية لسلطات الضبط الإداري على درجات مختلفة، وقد أوضح مجلس الدولة المصري حدود هذه الرقابة ومداها في العديد من أحكامه التي أصدرها خلال الفترة من إنشائه حتى الآن والتي استقرت الآن من خلال مبدأين أساسيين:المبدأ الأول: أنه في حالة عدم وجود نص قانوني محدد للاختصاص تكون السلطة المخولة أصلاً للإدارة وبطبيعة الحال هي سلطة تقديرية، وفي هذه الحالة لا يستطيع القاضي ناظر النـزاع إلا أن يتعرض لها من ناحية تجاوز السلطة أ والتعسف في استعمالها، ويكون عرضة للإجراء المعروض من ناحية:1 - أسباب القرار أو الإجراء بفحصها من الناحية القانونية.2 - اسبابه من الناحية الواقعية.3 - ومن ناحية ما إذا كان القرار ينطوي على تعسف في استعمال السلطة. والرقابة محصورة في النقاط الثلاث السابقة.المبدأ الثاني: أنه في حالة السلطة المقيدة وفي حالة وجود نص قانوني أو لائحي يلزم سلطة الضبط مراعاة شروط معينة عندما تمارس سلطتها المخولة لها، فإن سلطتها تكون مقيدة بما جاء بهذه النصوص من شروط، وفي هذه الحالة يجب على القاضي أن ينظر الدعاوى الخاصة بتجاوز السلطة وأن يبحث فيما إذا كان الشخص الذي قام بالإجراء قد راعى جميع شرائطه أم لا. وقد يصل عند التحقيق إلى التأكد أن جميع الشروط الواجب توافرها قد روعيت عند إصدار ذلك القرار ودون الوصول إلى عرض مسائل تدخل في نطاق السلطة التقديرية لمن قام بالإجراء.وترتيباً على ذلك فإنه في الحالات التي يتعين فيها توافر شرط أو عدة شروط قانونية يكون القاضي ملزماً بفحص وتقدير الأسباب التي تبديها سلطة الضبط القائمة على الإجراء لمعرفة ما إذا كانت الأسباب التي قام عليها الإجراء مطابقة للقانون أم لا، وعما إذا كانت هذه الأسباب بطبيعتها تبرر اتخاذ الإجراء على النحو الذي صدرت به أم لا.وفي خصوص تصرفات الإدارة في مجال الضبط الإداري الماسة بالحريات العامة، فإنها تخضع لرقابة القضاء، وخاصة من ناحية ضرورة اتخاذ الإجراء مداه، وقيامه على أسباب صحيحة يراقب القضاء وملابساتها للتأكد من مدى موافقتها لظروف الحال.غاية القرارات الإدارية ويلاحظ أن سلطة الضبط غير مُلْزمة بتسبيب قراراتها ما لم يلزمها القانون بذلك والمفروض في هذه الإجراءات أنها تبتغي المصلحة العامة وعلى من يدعي العكس إقامة الدليل، إلا أنه قد يستخلص هذا الدليل من مناسبة إصدار القرار الذي قام الإجراء ارتكاناً إليه والظروف المحيطة والنتائج المترتبة عليه، وعدم تسبيب القرار أو اشتراط تسبيبه لا يعني أن سلطة الضبط مطلقة أو تحكمية، بل إن سلطتها مقيدة بأن يكون حدها الضابط هو الصالح العام. فالإجراء الضبطي إذا لم يشتمل على ذكر لأسبابه التي استند إليها يفترض فيه أنه قد صدر وفقاً للقانون وأنه يهدف إلى تحقيق الصالح العام والنظام العام. وهذه القرينة التي تصحب كل إجراء ضبطي لم تذكر أسبابها. وتبقى قائمة إلى أن يثبت من يدعي عكس ذلك ببيان حقيقة ما ادعاه وسنده، ويكون للقضاء كامل السلطات في تقدير الدليل الذي يقدمه المدعي بهذا، وذلك عن طريق اعتبار الدليل الذي قدمه من ادعى عدم سلامة الإجراء كافياً، على الأقل، لنقل عبء الإثبات من المدعي إلى سلطة الضبط.وفي رقابة القضاء على أسباب إجراءات الضبط الإداري كضبط الكتب والمطبوعات، فإنها تكون خاضعة لرقابة المحكمة لتعرف مدى صحتها من حيث الواقع ومدى مطابقتها للقانون نصاً وروحاً، فإذا استبان لها أنها غير صحيحة واقعياً وأنها ليس لها ما يبررها، أو أنها تنطوي على مخالفة للقانون أو على خطأ في تطبيقه أو تأويله، كان الإجراء معيباً مستحق الإلغاء لانعدام الأسس التي يقوم عليها، فلا غرو إذن أن تتولى المحكمة رقابة الأسباب التي تستند إليها سلطة الضبط في اتخاذ إجراءاتها سواء اشتملت عليه الإجراءات ذاتها أو ما أدلت به سلطة الضبط تعليلاً للإجراء.وهذه الرقابة تجد حدها الطبيعي في التحقق مما إذا كانت النتيجة التي انتهى إليها القرار في هذا الشأن مستخلصة استخلاصاً سائغاً من أصول تنتجها مادياً أو قانونياً أو كان تكييف متولي الضبط للوقائع على فرض وجودها مادياً لا ينتج النتيجة التي يتطلبها السبب فيكون الإجراء معيباً.مبرر الضبط الإداري :الإجراء يجب أن يكون مستنداً إلى دواع قامت لدى سلطة الضبط حين قامت به وإلا كان فاقداً ركناً أساسياً من أركانه وهو سبب وجوده ومبرر إجرائه ويعد، من ثم، إجراء معيباً، فإذا تكشفت هذه الدواعي بعد ذلك على أنها هي التي دعت سلطة الضبط للقيام بالإجراء واتخاذه، كان للمحكمة بمقتضى رقابتها أن تتحرى مبلغها من الصحة فإن ظهر أنها غير صحيحة فقد الإجراء الأساسي الذي يجب أن يقوم عليه وكان مشوباً بعيب الانحراف ومخالفة القانون.فسلطة الضبط الإداري لها أن تختار وقت تدخلها ولا جناح عليها في ذلك وحسبها أن يكون لهذا التدخل ما يبرره ويرتكن عليه بلا معقب عليها ما دام إجراؤها قد خلا من إساءة استعمال السلطة وما لم يحدد القانون ميعاداً لإصداره، ولها - بما لها من سلطة تقدير مناسبة اتخاذ الإجراء - أن تترخص في تعيين الوقت الملائم لإصداره وبلا معقب عليه، شريطة أن يكون محققاً للهدف منه وهو الصالح العام ولا يخل بالحقوق المكتسبة للمواطنين والأفراد أو يهدف لتحقيق منافع ذاتية لهم.غير أنه حين يكون الإجراء مشوباً بإساءة استعمال السلطة فإنه مما يمهد لإعطاء الفرصة لقبول هذا الطعن أن يكون الإجراء بادي العِوَج غير ملائم ولا مناسب لظروفه. وهنا ومن هذا الطريق يملك القضاء أن يحمل سلطة الضبط الإداري على تصحيح إجراءاتها إلى حد السلامة كما يملك أن يحملها على حسن التنفيذ تحقيقاً للغاية المنشودة، وهي الصالح العام وسلامة الجماعة.القضاء والتعويض عن الإجراء الإداري المخالف:وفي قضاء (مجلس الدولة) المصري يلاحظ أن أحكامه اقتصرت في تقدير مسئولية سلطات الضبط الإداري على أساس من قواعد نظرية التعسف في استعمال الحقوق الإدارية ولم تراقب السلطة التقديرية لهيئات الضبط الإداري إلا في حدود الانحراف بها، فهي ترتكن في حكمها بالتعويض إلى أن القرار قد صدر بغير مبرر شرعي. وجرت في غالبها على تطبيق قواعد أحكام القانون المدني على دعوى التعويض سواء من حيث مدة التقادم أو قواعد المسئولية.واتجهت إلى تطبيق أحكام المادة (172) من القانون المدني والتي يجري نصها على أن تسقط بالتقادم دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بالضرر وبالشخص المسئول عنه، وتسقط هذه الدعوى في حالاتها بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع.قرر (مجلس الدولة) المصري أن دعوى التعويض عن هذه الجرائم لا يتقيد بالقيد الزمني لسقوط الدعوى المدنية.كتعويض الأشخاص الذين تم تعذيبهم في المباحث العامة أو السجون أو غيرها.ويرتب المجلس مسئولية الإدارة الموجبة للتعويض على أساس أن الأصل في مسئولية الإدارة عن قراراتها أنها لا تسأل عن القرارات التي تصدر منها إلا في حالة وقوع خطأ من جانبها، ولم يرتب مسئولية الإدارة دون خطأ. ويتمثل خطأ الإدارة الموجب الحكم بالتعويض الآتي:أولاً : أن تكون هذه القرارات غير مشروعة ومشوبة بعيب أو أكثر من العيوب التي نص عليها قانون مجلس الدولة.ثانياً : أن ينجم عن الخطأ ضرر.ثالثاً : وجود رابطة السببية بين الخطأ والضرر الحادث، فإذا برئت من هذه العيوب كانت قرارات الإدارة مشروعة ومطابقة للقانون، ولا تسأل الإدارة عن نتائجها مهما ترتب عليها من أضرار أصابت الغير ارتكاناً إلى انتفاء ركن الخطأ.ص (110 - 112) :وقد أوضحت محكمة القضاء المبادئ السابقة في حكم لها على النحو التالي:((إنه من المقرر فقهاً وقضاءً أن مبدأ المشروعية يقوم على وجود قواعد تلتزم جهة الإدارة باحترامها ومراعاتها في نشاطها وتصرفاتها، وهذه القواعد تملي على الإدارة قيوداً لصالح الناس.ومع ذلك فإن حماية حرية الأفراد والناس ينبغي ألا تنسينا حاجة الإدارة إلى قسط من الحرية يكفل لها حسن إدارة المرافق العامة، ولئن كان من الضروري الحيلولة دون استبداد الإدارة مع الأفراد، فلا بد أيضاً أن نحرر الإدارة من طابع الآلية والجمود وأن نجنبها ما استطعنا طريق روتينها الإداري العقيم، وعلينا ألا نغل أيدي عمالها ونميت فيهم روح التصرف الحسن والتدبر المعقول بل علينا أن نشجع فيهم ملكة الخلق وروح الابتداع والابتكار، ذلك ما دفع القضاء والفقه بل والشارع من بعدهم في فرنسا وفي مصر وغيرها من الأمم التي بلغت شأواً يذكر في جمالات القانون الإداري ونظمه إلى الأخذ بمذهب ضرورة بعدهم بعض امتيازات من شأنها خلق موازنة عادلة بين الصور التي فرضها مبدأ المشروعية على حرية الإدارة حماية لحرية الأفراد من جهة وبين ضرورة تخليص الإدارة من طابعها الروتيني الآلي ضماناً لحسن سير الإدارة وسلامة تشغيل دولابها من جهة أخرى. فجاءت الموازنة المنشودة بمنح جهات الإدارة قسطاً متفاوتاً من الحرية في صورة امتيازات متنوعة في مقدمتها السلطة التقديرية تحررها من مجرد تنفيذ القوانين ولوائحها مراعاة لحسن مقتضيات العمل وما تتطلبه الحياة الإدارية من ضرورات، فللجماعة مصلحة مؤكدة في ألا ترى الإدارة آلة صماء عمياء، بل لها مصلحة جدية في أن ترى الإدارة مزودة بقدر من الطاقة لتواجه كل حالة بما يلائمها تحقيقاً لإشباع الحاجات لزيادة الإنتاج وللمصلحة العامة. فالسلطة التقديرية إذن لازمة لحسن سير الإدارة لزوم السلطة المحددة لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وإذا كانت السلطة التقديرية تقوم على الإطلاق بمعنى أن الإدارة تكون في ممارستها للسلطة التقديرية بمنجاة من كل رقابة قضائية إلا إذا دفع بأن الإدارة قد استعملت سلطتها التقديرية لتحقيق غرض غير مشروع أو لم يجعله المشرع من اختصاصها فإن قضاء هذه المحكمة قد خرج على هذه القاعدة في مجال قضاء التعويض، وكذلك وضع بعض الضوابط للإدارة في مجال قضاء الإلغاء، فقضت بأنه في غير الأحوال التي تقيد فيها سلطة الإدارة التقديرية بنص في قانون أو لائحة أو بمقتضى قاعدة تنظيمية عامة التزمتها فإنه يصبح التقدير من إطلاقات الجهة الإدارية تترخص فيه بمحض اختيارها فتستقل بوزن مناسبات قرارها وبتقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة إصداره بما لا معقب عليها في هذا الشأن ما دام لم يثبت أن قرارها ينطوي على إساءة استعمال السلطة، وشرط ذلك أن تكون جهة الإدارة قد استحدث اختيارها من عناصر صحيحة مؤدية إلى صحة النتيجة التي انتهت إليها))( 4).الدفاع عن الحريات :كان لمجلس الدولة المصري وهو من أعلى الهيئات القضائية الإدارية وما يزال مواقفه المشرفة في حماية مكاسب الحرية والدفاع عنها والتصدي لمن يحاول انتهاكها أو النيل منها، وفي سبيل ذلك وضع القواعد والنصوص المنظمة لها في قالبها الصحيح مع إرساء قواعد وأسس راسخة لمفاهيم سليمة لأنواع من الحريات وقواعد أساسية لتنظيمها بما يكفل حمايتها في نطاق القانون وصالح المجتمع.وقد أصدرت محاكم (مجلس الدولة) العديد من الأحكام الضامنة للحرية مقررة أن فرض القيود على نشاط معين من الأنشطة إنما يتمثل في تنظيم هذا النشاط وترتيب أوضاعه ورسم السبل الواجبة الاتساع في ممارسته بحيث تجري تلك الممارسة في إطار منضبط تتحقق فيه الغاية المنشودة مع هذا التنظيم ويمتنع معه كل جنوح أو شطط.وعملية التنظيم هذه تجد حدها الطبيعي في بقاء النشاط مباحاً، ولا يمكن أن تتجاوز ذلك إلى تحريم النشاط كلية وإلا كان ذلك من قبيل مصادرة النشاط والتغول على الحرية.وبالتالي لا جدال في أن النتائج المترتبة على كفالة حق التقاضي تعتبر دعامة أساسية من دعامات ضمانات الحرية، خاصة وقد استقر في الوجدان القانوني للمجتمعات الإيمان بأن للفرد الحق في أن يجد قاضياً ليفصل في الخصومة بينه وبين الغير حتى ولو كان هذا الغير هو السلطة الحاكمة نفسها والتي لا يجب أن تحصن بنص في قانون أو لائحة أي عمل يمس الحرية أياً كانت (من قريب أو بعيد) ضد حق رفع الدعوى ضدها إلغاء أو تعويضاً والتي طالما كانت تصدر تحت عبارة الحماية وتحصين القرار دون حق في الاعتراض أو التظلم أو مجال لتصحيح قرار خاطئ.وبالتالي فشعور المواطن بوجود قاض يفصل في خصومته ويبحث شكواه يصبح مجالاً لجو الحرية والذي لا ينفصل عنها أبداً.وكفالة حق التقاضي التي يقررها المشرع ضد الإجراءات الضبطية المخالفة لأحكامه إنما تتضح أكثر من خلال التعرض لمفهوم الضمانة القضائية باعتبارها من الوسائل التي يمكن للأفراد بمقتضاها إيضاح اعتراضهم على الإجراءات المخالفة للتنظيم التشريعي أو اللائحي للحرية أو المتصلة بغيرها من الأمور المرتبطة بمصالحهم أمام السلطة القضائية المختصة.وهذا إنما يعني تطبيقاً لمبدأ الشرعية من خلال تأكيد الحق في إلغاء الإجراءات المخالفة للقانون والتي تعد في ذاتها مخالفة من السلطات الضابطة لإدارة السلطة، والمتمثلة في التشريع، وهذا يؤكد أن كفالة الحرية إنما تتأتى من خلال اتباع الإدارة لمقتضيات التشريعات التي ضمنت تلك الحرية.وليس ثمة شك في أن مثل هذه الرقابة القضائية أمر مرغوب فيه بل واجب لازم للاطمئنان على صدور الإجراءات الضابطة مطابقة لإرادة المشرع، مراعية لحقوق الأفراد الواردة فيها كافلة لممارستهم لها. وهذه الرقابة تتفق أيضاً مع منطق القانون باعتبارها تعبر عن تنازع اتجاهين قانونيين أحدهما مرتبط بالحق والآخر مرتبط بقانونية الإجراء، وعلى القاضي، وفق طبيعة وظيفته، أن يفض هذا التنازع عن طريق قيامه بتغليب القاعدة القانونية السليمة ووضعها موضع التنفيذ، محققاً بذلك الهدف والغاية من النص عليها وتضمينها الإجراء، فهي مكنة تحقق للأفراد الحماية والمواجهة بالوقوف أمام القائم على الإجراءات باحتمال إبطال الإجراء أو إلغائه مع ما يترتب على ذلك من آثار.فالضمانة القضائية إذن لها علاقتها الوطيدة بالحرية وضمانها ضد عسف الإدارة من الاعتداء عليها بإجراءاتها المغرضة أو المخالفة للقانون، الهادفة إلى عناية يشوبها البعد عن المصلحة العامة، وهو يضفي على الحرية هيبة تكتسبها من تقرير المشرع والسلطات لها بإبطال أي تصرف من الإدارة يصدر على غير هدى من النصوص ولو لمصلحة محققة أو غاية سامية، وما دامت تغاير ذات المصلحة أو نفس الغاية التي قصدها المشرع بنصه على وجوب انتهاج تلك الإجراءات المحددة لوضعها موضع التنفيذ( 5).هوامش :- (1 ) د. حسني درويش عبدالحميد، م. س.، ص (10 - 11).( 2) مجموعة أحكام المحكمة الإدارية العليا، الطعن رقم 748/ 16 ق، جلسة 5/5/1974م، السنة التاسعة عشرة، ص (121).(3 ) د. حسني درويش، م. س.، ص (91 - 92).(4) حكم محكمة القضاء الإداري المصرية، جلسة 25/2/1969م.(5 ) د. حسني درويش، (القضاء حصن الحريات)، م. س.، ص (116).