سطور
علي الذرحانيفي البداية لابد من تحديد مفهوم الثقافة لأن تحديد المفاهيم والمصطلحات من البداية يفضي إلى نتائج سليمة وواضحة في النهاية، ورد في مقاييس اللغة لابن فارس أن الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة ترجع إليها الفروع، وهو إقامة وتسوية اعوجاج الشيء فيقال:ثقفت القناة إذا قومت عوجها. والذي تقوم عوجه قد ظفرت به وامسكته، وثقف الرمح: أي قومه وسواه. وثقف الولد هذبه وعلمه فتهذب وتعلم فهو مثقف.والمثقف هو الحاذق والفطن للكلام وفهمه بسرعة. والثقافة: التمكن من العلوم والفنون والآداب وغيرها، إذاً فالمثقف هو المعلم لأنه يمتلك المعرفة والمعلومات وسعة الاطلاع ويحل المشكلات وهو تربوي لأن التربية سلوك متحضر ومهذب ووسيلة لنقل الثقافة وذات تأثير، والثقافة بمعنى آخر هي ترشيد للوحشية بداخلنا والمثقف يساعد في القضاء على السلوكيات الخاطئة التي تحول دون تقدمنا ويعمل على صون الذات والهوية الوطنية ويعمل على القضاء على الرؤية الأسطورية وعلى الإدراك الوهمي للعالم والقضاء على تزييف الوعي أو تضليل العقول ينبغي اليوم أن يقدم المثقف قبل السياسي وأن يكون القلم قبل الهراوة والكتاب قبل السيف، إن المثقف كالمبصر وسط العميان..قال تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (وهل تستوي الظلمات والنور) والذي لديه ثقافة واطلاع يستطيع اتخاذ القرارات بوعي وحكمة ومسؤولية لأنه قوي الإرادة وواثق من نفسه ولديه بصيرة وحس انتقادي وتخيل مبدع بالإضافة إلى العلم والمعرفة ويملك الفطنة والذكاء الكافي للإحساس بعلاقات الأشياء وكنهها وجوهرها والمثقف هو الإنسان العبقري الذي يضيف إلى الطبيعة شيئاً بغية تحوير عطاءاتها واغنائها وتنميتها، وتراث هذا المثقف يمثل المظهر القومي والنفسي والوجداني والمادي لأسلوب الحياة. وثقافة المثقف هي التي تصوغ حياتنا وتحدد واقعنا وترسم مستقبلنا والمثقف الحقيقي هو الذي يدعو إلى العدل والمحبة والحرية والسلام ونبذ العنف والإرهاب والتمزق والشتات وتأتي أهمية دور المثقف في المجتمع من كون ثقافته تعبيراً عن مجمل الوجود الفكري والأخلاقي والمادي والمذاهب القيمية وأساليب الحياة التي تميز حضارة من الحضارات، وأي نهوض بالثقافة وبالمثقف يؤدي إلى تحسين الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية وربما يؤدي إلى تبني حلول سياسية واقتصادية واجتماعية يكون من شأنها اصلاح شامل في هذه المجالات جميعا وللمعرفة والثقافة سلطة وقوة فلو استطاعت الدولة النهوض بالثقافة لاصبحت دولة قوية (استقلالا وتقدما) والثقافة ليست حشوا للادمغة بالمعلومات او الاطلاع فحسب، بل هي كما ذكرنا آنفا سلوك حضاري مهذب يطمح الى الرقي والتغيير وإثارة الرغبة في التساؤل والحوار والابداع من هنا تأتي أهمية دورها الريادي كوظيفة اجتماعية.والتنمية الثقافية وسيلة لايقاظ الوعي الاجتماعي في تحطيم قيود الفقر والتخلف التي تقيد الانسان، وتوجه تطوير العلم والتقنية ووسائل الإنتاج وتضع حدا للازدواجية بين الحداثة والتقليد والمدينة والريف، وعلى الدولة ان تقوم بواجباتها نحو الثقافة والمثقف والمهم ان تتمكن من المحافظة على الحريات وصيانتها وان تنسق بين كافة المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم والاعلام والفنون وان تصون التراث الثقافي في وجه عمليات التغريب والتشويه، وان تقوم بدور الوسيط الطبيعي في ابداع الثقافة واستيعابها وان تكون حافزا لاعطاء الاشكال الثقافية وظيفتها الانسانية في تنمية الافراد والشخصية الانسانية وتحقيق الديمقراطية الثقافية، وان تعمق هذه الدولة من أواصر الترابط العضوي الوثيق بين السياسة والثقافة وتفعيل القطاع الثقافي في مجال ادارة شؤون البلاد وتحقيق التنمية الثقافية التي هي غاية التنمية المتكاملة باعتبارها وسيلة لتوسيع واصلاح مفهوم اقتصادي كلي للتنمية بدلا من قيام هذه الدولة بوضع العقبات والعراقيل التشريعية والسياسية أمام سلطة وحرية الثقافة والمثقف والحرية اساس لكل ابداع ثقافي وان أي اصلاح ثقافي لا يواكبه اصلاح في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو اصلاح محكوم عليه بالفشل لكن الدولة التي تنتهج التعسف والقمع والحد من حرية المثقف المعارض او المفكر المستقل لخوفها من سلطة المعرفة والعلم والثقافة والتأثير في الناس تلجأ الى اسكات صوت هذا المثق والمفكر وتعمد الى تهميش دوره الريادي والمؤثر ما يضطره الى الأغتراب والانزواء والتقوقع والاحباط واليأس والهروب من سلطة الحكومة والعرف السائد وسلطة الفكر الماضوي واحيانا تلجأ بعض الدول التي تخاف من المثقف او المفكر الى محاولة استمالته السياسية عن طريق منحه إغراءات مادية وسلطوية كأن يكون مستشارا او موظفا حكوميا واحيانا يتضاءل الدور السياسي لهذا المثقف وهذا ما هو حاصل في زماننا ويمثل أهم الظواهر البارزة في الحياة الثقافية والسياسية والفكرية فيهاجر هذا المثقف هجرة داخلية انزوائية ويغادر دوره القيادي والطليعي في المجتمع والقبول بدور قاعدي مثل أي مواطن آخر، واحياناً يهرب المثقف الى الأمام والقيام بعملية متواصلة لجلد الذات والادعاء انه يريد القيام بدور ما لكن المجتمع بحسب اعتقاده يعاني من مشاكل كثيرة وهو أي المجتمع في تصوره يعاني من حالة مرضية مثل سيطرة القبيلة أو العسكر على حركة التغيير في المجتمع ناهيك عن وجود فجوة واسعة بين السلطة والمثقفين وإذا قدر للمثقفين الدخول في معمعان العمل السياسي عبر العديد من الأحزاب والحركات والمنظمات السياسية كانوا قصيري النفس وكانوا متطهرين إلى حد كبير، وبعيدين عن الانغماس في الحياة اليومية لمجموع الشعب، وأجادوا التنظير من فوق ومن أبراجهم العاجية ولذلك سرعان ما تراجعوا إلى الوراء لأنهم اكتشفوا خطأً صغيراً هنا أو هناك أو لان أحلامهم لم تتحقق سريعا ولان ما تصوروه من انجازات لم يقع لان من طبيعة الإبداع الثقافي أن يكون في صراع مع القيم السائدة لأنه يتطلع إلى التغيير نحو الأفضل بينما العرف والسياسة والفكر الماضوي يتسم بالثبات والمحافظة على الأوضاع الراهنة كما هي والتعلق بالماضي وتثبيته من اجل ذلك كله تحتكر السلطة كل مصادر المعرفة في المجتمع لصالح الطبقة المسيطرة و ترسيخ معنى الإجماع الذي يركز على ما تراه النخبة الحاكمة وإقرار معنى اليقين الملازم لآراء هذه النخبة والتضحية بمبادئ الحرية والديمقراطية والتسامح، والمفروض أن يشارك المثقف في صنع القرار السياسي بوصفه خبيراً أو مستشاراً مستقلاً كما لابد من أن يستفيد أي نظام سياسي من خبرة المثقف وعلمه لا أن يخاف منه او يقف عائقاً أمام قيامه بدوره الفعال داخل المجتمع أو يتم تحويله إلى ظل للسياسي أو مطية أو بوق أو دوشان .