لم يظهر إلى الآن مشروع سياسي عربي ناجح إلى آخر الشوط لأسباب كثيرة منها أن السياسة في العالم العربي يمكن أن يمارسها أي شخص بغض النظر عن مقدراته وكفاءته وإخلاصه حتى ينضوي في إطار المشروع الفكري- السياسي الواحد أناس كثير ممن لا يؤمنون به، فالقومية العربية مثلا انضوى تحت إطارها من ليسوا بقوميين، ولم يتدرجوا في مبادئ التربية القومية الصارمة والقاسية، ومثلها الماركسية انضوى تحتها من ليسوا بماركسيين، إن لم يكونوا كلهم -بمن فيهم قادتهم كما في اليمن الديمقراطية سابقا- ليسوا بماركسيين بالمعنى الكامل للكلمة إذ ظل الواقع يفرض نفسه عليهم بإشكالاته ونزعاته القبلية والمناطقية وموروثاته ومعتقداته بدءا من أساليب التربية والتعليم التي تلقوها في طفولتهم، وانتهاء بطبيعة علاقاتهم الأسرية والاجتماعية. ولعل هذه الحالة تتكرر مع الإخوان المسلمين بدخول عناصر كثيرة إليهم في زخم السياسة لاسيما في ظل وصولهم إلى السلطة في بعض الأقطار العربية، وثمة فرق بين الإخوان كتنظيم صارم ودقيق، والإخوان المسلمين كنظام سياسي. تتحقق مبادئ المشروع الفكري- السياسي إلى حد كبير في الأجيال الأولى عادة ثم تبدأ الانتكاسات لأكثر من سبب منها أن التوجهات المدرسية (المبدئية والحزبية) سرعان ما تضطرب في معمعان الواقع، وتقلبات المصالح، والصراعات السياسية، والمنافسات الشخصية، وظهور بعض النزعات الديكتاتورية، والاختلافات الزمنية بين الأجيال، وظهور مبادئ مختلفة وتطورات عالمية، الأمر الذي يتطلب دينامية تغيير وبناء مستمر في النظرية تتفاعل مع التغيرات الحاصلة بمرونة، وإلا فإن الانهيار حاصل بالضرورة، ولعل أوضح مثل عالمي على ذلك هو انهيار الاتحاد السوفيتي بعد سبعين عاما من قوته العظمى! وهو ما استطاعت الصين الشعبية تجاوزه انطلاقا من تكيف مبادئ الحزب الشيوعي الصيني مع التغيرات الرأسمالية المعاصرة في ظل العولمة إلى درجة أن غدت المنافس الخطير لأمريكا والغرب الرأسمالي، إن لم تحتل قيادة العالم الاقتصادية في العقود القليلة القادمة كما تشير الدلائل إلى ذلك. إن المشروع النظري- السياسي للدولة قد يصل إلى حد الجمود غير أنها تظل تدافع عنه بقوة السلطة كما حدث للاتحاد السوفيتي الذي أخذ في التآكل أمدا طويلا منذ عهد ستالين قبل أن ينهار في آخر الثمانينيات من القرن الماضي، وكما يحدث في سورية اليوم التي تحافظ على مبدئها بقوة السلاح، من غير أن تقدر على تنشيطه حيويا مع الواقع ومستجداته على مختلف الصعد. أما اليمن فلم تنشأ فيه المبادئ بشكل مباشر، لا المبادئ القومية، ولا الناصرية، ولا مبادئ الإخوان المسلمين، ولا البعث، ولا السلفية، فضلا عن الماركسية، وهي وإن ظهرت فيه بقوة أحيانا فإن القوى القبلية وعوامل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي تعمل على إضعافها ربما أكثر من أي بلد عربي آخر، وعادة ما يكون عدد المنظريين لهذه المبادئ قليلا في اليمن إن لم يكونوا غير موجودين أصلا، ويرتبطون بمرجعياتهم الفكرية في الخارج، الأمر الذي يزيد المبادئ النظرية- السياسية ارتباكا من جهتين: جهة تخلف المجتمع، وجهة عدم مركزية القيادات أو كونها تبعا. ولعله من هذا المنطلق عرفت اليمن التشكيل السياسي المكون من لفيف غير متجانس كالمؤتمر الشعبي العام الذي يضم عناصر من أحزاب مختلفة وحزب (الاصلاح)، في دلالة واضحة على هشاشة المبدأ الذي يمكن التراخي عنه أو حتى التضحية به أمام بريق المصالح السياسية والنفعية، وهي حالة براجماتية تترك أثرها السلبي -فضلا عما سبق- على طبيعة السياسة المعاصرة في اليمن.
السياسة العربية.. المشاريع والإجراءات
أخبار متعلقة