عياش علي محمدفيصل علوي والأغنية الوطنية:جاءت ثورة سبتمبر 1962م لتمنح البلاد تغيراً في تركيبة الوعي التقليدي في اليمن، خاصة بعد نجاح الثورة السبتمبرية في إقصاء نظام الحكم الإمامي في اليمن ولم تمض إلا سنة واحدة، حتى قامت ثورة تحررية في اليمن الجنوبية بقيادة التنظيم السياسي الجبهة القومية التي أعلنت عن تأسيسها عام 1963م وقادت كفاحاً سياسياً وعسكرياً ضد الوجود البريطاني، فكانت هذه الثورة اللبنة الجديدة التي قامت على بنيانها التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليمن الجنوبية.ففي هذه المرحلة الثورية.. وجد الفنان فيصل علوي نفسه في معمعة هذا النضال بالكلمة والصوت وتوصل إلى حقيقة أنه بإمكانه أن يرفد الشعور الوطني بغناء وطني يساعد على تنمية الوعي وحب الوطن.وكان مقتل الشهيد عبدالنبي مدرم في عدن إيذاناً بانطلاقة جديدة يقوم بها الشاعر أحمد عباد الحسيني نحو الشعر الوطني ومعه الفنان فيصل علوي فكتب أحمد عباد الحسيني قصيدته التي تتغنى بأمجاد الشهيد (مدرم) حين قال في قصيدته التي عنوانها (الاستشهاد غاية كل مدرم) (1):على عبد النبي الجيد المكرم سلام الله ذي علا جنابهسقط مدرم هنا واشتد من ثم على عنتر وسمعهم جوابهوتوالت الأغاني الوطنية بين الشاعر أحمد عباد الحسيني والفنان فيصل علوي.. الذي اتخذ لنفسه اتجاهاً جديداً في اللحن والأداء فلم يعد يفكر بأي ملحن ينتظر منه تلحيناً للأغنية الوطنية والعاطفية، واعتمد على نفسه في هذا الميدان، حيث أظهرت ألحانه الوطنية وبعدها العاطفية قدرات لحنية تأكد من خلالها أنه أحد الفوارس المنتظرة في مجال التلحين عوضاً عن الصوت الجذاب الذي يمتاز به.وكانت أغنية (سرت ليلة على الفيران حية) هي التفوق الحقيقي.. والموهبة الأخاذة التي دفعته دفعاً نحو النجومية وكانت هذه الأغنية التي جاءت على أثر قصف مدفعي وناري على قصر السلطان في لحج ليلة 13 أغسطس 1967م حين قام مجموعة من شباب لحج بقصف القصر عندما بدأت المحافظات الجنوبية المحسوبة على الأمراء والمشايخ والسلاطين بالتساقط الواحدة تلو الأخرى، بمؤشرات رحيل البريطانيين من عدن والسلاطين والأمراء من الإمارات والسلطنات الجنوبية.وفي صباح ليلة الحدث جاء رجل بالغ من قرية الحبيل بلحج ودخل قاعة المحكمة الجزائية اللحجية وقام بالعبث بالأوراق والملفات والأحكام الشرعية الصادرة بحق الرعية، على مرأى من المتفرجين.. وتحدى الجنود المدججين بالسلاح الذين رفضوا أوامر صدرت من الضباط بإطلاق النار عليه (2).وأمام قوة الحدث، كتب الشاعر أحمد عباد الحسيني قصيدته الشهيرة (سرت ليلة على الفيران حية) تقول كلماتها(3):سرت ليلة على الفيران حية من الهجة ذي حبتهم عشيهمن الشارع صافوهم بالمدافع قلوهم بالبرن ساعة قليهوجاء الفارسي من فجر ربي يروي الشعب آثار السريهوسوى كل شيء والشعب ينظر لأن الدار صوباته نكيهوجندي الجيش والشرطة تعصب رفض يسمع أوامر بربريهوقد كتبت هذه القصيدة صباح يوم الحدث وتم طباعتها وتوزيعها على الجمهور على شكل منشور ثوري، تطلع الأهالي على ما دار في تلك الليلة من أحداث.والتقط الشاعر صالح نصيب أبيات هذه القصيدة وأضاف بعدها أبياتاً أخرى استكمالاً للقصيدة، وعلى نفس القافية والهدف (4).فقال نصيب:وجاء بعد طفيلي جد أهبل يبا يحكم على لحج الأبيةيباها سلطنة بلغصب ترجع ويصبح شعبنا تحته مطيةقسم بالله أقسمنا جميعاً أن نؤدب أبني الغبيةولما شافها شولا رجع فر لحق أهله بلا صورة رضيةوتفاعل الشاعر أحمد صالح عيسى مع الجو السياسي وقذف بنيران كلماته الوطنية كنيران المدفعية .. وتواصلا مع الأحداث وتساقط المناطق .. كتب (عيسى ) قصائد اعتبرها ثورية ومواكبة لأحداث ثورية إعجابا بصوت المدافع فقال (5):صوت الهون يشجيني عاد البرن لما صوته يدوي رأسي يحن وأمسى الشعب آمن مستقر داري بالقذائف ساري عند من وعند حلول شهر نوفمبر وهو شهر الاستقلال المجيد (الثلاثين من نوفمبر 1967 تغنى الشاعر أحمد صالح عيسى بهذا الشهر الذي جلب الاستقلال فقال:نوفمبر اليوم جانا عود لنا من جديدفيه استعدنا الكرامة وأصبح الكل سيد احرار في الأرض نحيا نحيا على ما نريد حياة تصبح جديدة في مجتمعنا الجديدبل إن الشاعر أحمد صالح عيسى كان أكثر قساوة وحدة عندما قال في قصيدة أخرى:(إن إل أف) مصمم تمسحهم جميع الشيبة المعمم والطفله الرضيعN L F هي تسمية الجبهة القومية اختصار للجبهة القومية للتحريرNational Laberation Front«محاولة من الشاعر أحمد عباد الحسيني لتعديل المزاج الثوري كتب:من الجهاد الاصغر إلى الجهاد الأكبر ومن دماء تتطعير إلى زراعة الأخضروهذه القصيدة يريد بها الشاعر والفنان أن يلفت بها أذهان الناس ويعدل أمزجتهم ويقودهم إلى تفهم المرحلة القادمة وهي مرحلة البناء الوطني التي تمثل أكبر صعوبة من تلك المرحلة التي سبقتها وهي أربع سنوات أنجزت فيها مرحلة التحرير والاستقلال.[c1]محاولة الرجوع إلى الأغنية العاطفية:[/c]في فترة السبعينات من القرن الماضي (70ـ 1980م) شعر الفنان فيصل علوي أن مشروعه في تجديد الأغنية اللحجية قد تعثر وحلت محلة الأغنية الحماسية ،التي تخطت كل المساحات على حساب الأغنية العاطفية ولما كان مشروع فيصل علوي هو نشر الأغنية اللحجية نحو الأصقاع البعيدة فإن هذا يتطلب التقليل من نفوذ الأغنية الوطنية وإعطاء المجال للأغنية التي تغدي مشاعرهم العاطفية (السلمية) وتتواصل مع مرحلة البناء الوطني القائم آنذاك. إلا أن طموحه بتفعيل الأغنية العاطفية اصطدم بظروف خارجة عن إرادته .. أجبرته على التعاطي مع الشعراء الذين لا يزالون يعيشون على قيد الحياة .. وهم الذين بقيوا في الساحة الأدبية أمثال:الشاعر صالح نصيب، عبدالله هادي سبيت، أحمد صالح عيسى ، أحمد عباد الحسيني، عبدالله سالم باجهل، أحمد سيف ثابت، عبدالله الشريف، السيد صالح أحمد صالح اللبني .أما الشعراء الذين نقشوا بقصائدهم وألحانهم أروع وأعذب القصائد والألحان إما توفاهم الله أو هاجروا إلى أوطان أخرى ،أو تزهدوا ونأوا بحياتهم عن ملذات الدنيا.فهذا الفنان فضل محمد اللحجي لاقى حتفه عام 1967م برصاص مجهولين في مدينة المنصورة (عدن ) والفنان أحمد يوسف الزبيدي هاجر في عام 1965م، إلى المملكة العربية السعودية ليحيا فيها ويؤسس حياته الجديدة في وطن جديد ، بعد أن عانى الأمرين وترك مسقط رأسه لحج ليحرم الجمهور من صوته الرخيم . أما الفنان صلاح ناصر كرد فقد وافته المنية في 1966م على ساحل أبين بعد تعرضه لحادث مروري وهو ذاهب وبمعيته عدد من الفنانين والمطربين الذين توفوا معه في الحادث .. ومنهم من جرح نتيجة انقلاب السيارة التي كانت تحملهم .. وكانوا يهمون بإقامة حفل فني في أبين لكن الأجل عاجلهم بالموت.. وهكذا بدت الساحة خالية إلا من عدد من الشعراء والملحنين يعدون بالأصابع.أما الشاعر عبدالله هادي سبيت فقد غادر الساحة الفنية هو الآخر، وكرس حياته للتزهد.. فقد غادر موطنه لحج إلى دولة الكويت ثم عاد إلى محافظة الحديدة وبعدها استقر في مدينة تعز إلى أن وافاه الأجل..(6)وتوفي الشاعر أحمد عباد الحسيني في السبعينات من القرن الماضي على أثر حالة مرضية طارئة نقل على إثرها إلى مستشفى الحوطة حيث فارق الحياة هناك ، وغادر قبلهم الأمير عبده عبدالكريم عام 1967م الحوطة مفضلا العيش في المملكة العربية السعودية .. إلا ان العيش فيها لم يطب للأمير عبده عبدالكريم . . فكان يرسل قصائده و ألحانه إلى الفنان فيصل علوي لتلقى الترحيب العاطفي عند الفنان فيصل علوي وعند الجمهور المحب لأغاني الأمير عبده عبدالكريم ثم استقر في تعز حتى عام 1990م ليعود إلى مسقط رأسه لحج حيث لاقى ربه.. وأمام هذه الظروف لجأ الفنان فيصل علوي إلى الشعراء المتواجدين في لحج صالح نصيب،أحمد صالح عيسى ، عبدالله سالم باجهل ، سالم علي حجيري ،السيد صالح أحمد صالح اللبن،مسرور مبروك ،أحمد سيف ثابت ،عبدالله الشريف. وطلب منهم أن يوا فوه بالقصائد العاطفية، كالتي كان يسمعها منهم من قبل..لكنه اكتشف ان حال هؤلاء الشعراء قد تغير سلبيا بحكم الظروف التي واجهتهم عقب الاستقلال الوطني والتنمية فتعثرت حياتهم الاجتماعية وعاشوا حياة معسرة وقاسية .ومع ذلك تحولوا إلى كتاب كلمات تترجم حالاتهم الاجتماعية ومعاناتهم . فالشاعر صالح نصيب الذي كانت قصائده تملأ الدنيا بالعاطفة والحنية والحنان وهو الساحر في أوصاف العيون والقد والقامة وكانت قصائده تضاهي قصائد المشاهير من الشعراء العرب فانظر إلى قصيدته (إلا يا نجمة الفجر)ويشرح للندى والزهر حبي للجمال ويشكي للشفق ظلمي وتعذيب الليالتخايل في الدجى شعره يداعبه النسيم يرفرف فوق أكتافه وعنقه المستقيم وفي قصيدته ( أخاف ) يقول :مادام ربي كساك هذه الصفات الجميلةوفضلك عن سواك ارعى لزلي جميلة وكم خاطب الشاعر صالح نصيب الليل في قصائده حين يقول:كم يقل لي الليل يا ولهان توب كم يقل للعين لا تبكي ذنوب قال يكفيها شكا قال يكفيها بكا قال يا ما ناس من قبلك شكت ظلم القلوب أجبرت الحقائق الواقعية الشاعر صالح نصيب على التحول حيث أصبح يستعرض حالته الاجتماعية ويكتب القصيدة التي يعيشها على الواقع ،لا بالطريقة التي كان يعيشها من قبل (أيام النهضة الفنية ) التي جاءت على قاعدة وبنية زراعية منتجة وأخاذة وحياة كريمة. والفرق بينهما أن وقائع الحياة الأولى زمن النهضة الفنية كانت مبنية على قاعدة سليمة ومتوازنة في الزراعة والحياة الاجتماعية .. وبين القصيدة ونظرائها من البساتين والمروج الخضراء والمياه الدفاقة ، وفوقهما النظام والقانون أما وقائع الحياة الجديدة بعد الاستقلال فقد انقلبت وتحولت الأرض المعطاء إلى أرض لم تجد الفلاح الذي يزرعها، والقرية المنتجة أصبحت تستهلك ما يأتي لها من التعاونيات الزراعية فالبيض والدجاج واللحوم أصبحت تستورد بدل ما كانت القرية هي مصدر تلك السلع والمنتجات.. وأصبح الفرد يلاقي غذاءه ومعيشته بالبطاقات وهذه أعطت انطباعات بعدم الوفرة والتعثر في كل شيء بعد أن كانت لحج تعرض فيها منتجاتها من الخضار والفواكه والرياحين وهذا أعطى فرقا واضحاً فيما كان من ماضي المروج التي أنطقت الشعراء وبين الحاضر الذي أهمل فيه كل شيء .. لهذا أصبح الشعراء أسرى الحياة الواقعية. وأنتجت هذه المرحلة شعراً من النوع غير المألوف وهذه أمثلة من المعاناة: الشاعر صالح نصيب يقول: عرفت الناس إلا انته مكاني أجهلك فؤادي الذي عذبته مكانه يسألك منوه ذي زيف الأسباب ومن في المحبة عاب أنا البادي وإلا انته . إلى أن يقول : أنا يومي بلا بكرهوليلي ما طلع له نهار قضى إنصافكم أمره لك الجنة ونا لي النار وفي قصيدته ( طريقي شوك ) يقول نصيب : طريقي شوك مليانه ورودي جد ظمآنة وروحي جفت أفنانه بلا أوراق أغصانه وانسامي التي أمست توا نسني إذا هبت شذاها فج ما شانه إلى أن يقول:أنا بحري بلا أمواج وأجوائي بلا فجاج أنا مأوى بلا سراج وجدول ماؤه أجاج وانظر إلى قصيدته ( الرمزية ) هذه : أنا بلا ناس بلا انته بلا انتم عذبتي أحساس له أنتم تجاهلتم وذقت ظلمكم حالي لأنه فيه آمالي تترجى عدالتكمإلى أن يقول : أنا أمسي بلا غابر يصحي غفوتي وأيامي بلا حاضر يردد غنوتي إذا ما جارت الأياموناءت لذة الأحلام أنا مالي سوى انتم واختتم قصائده، بالملامات، حيث وضع اللوم على الجميع الذين تناسوا قدره ومصيره.. وحذرهم بأنهم سيذكرونه يوماً ما لكن بعد ما تكون هذه الذكرى لا فائدة منها حيث يقول: باتذكروني ولكن بعد لا جدوى لذكريباتذكروني ولكن بعد عشرتكم لغيري باتندموا حيث لا ينفع ندم باتفهموا بعدما جرحي التئم كنتم تفرحوني واليوم تنسوني باتذكرني 2- على هجرانكم صممت على جفواكم قدمت بعيد عندك أنا قاسيت مر الظنا انتوا تعيشوا الهنا[c1]هوامش [/c]الشهيد عبدالنبي مدرم: قتل في عدن (كريتر) بأيدي آخرين وبعدها أثار مقتله نزاعاً مسلحاً مع الجبهة الأخرى المنافسة للجبهة القومية. 2) أحمد عباد الحسيني من مواليد حارة دار عبدالله الحوطة وهو أحد القاديين تنظيم الجبهة القومية 3) الحبيل ..قرية بها بساتين مجاورة للحسيني 4) تم حذف بعض الأبيات التي لا تتناسب مع هذه المرحلة. 5) الفارس :اسم الرجل البالغ الذي عبث بالمحكمة ومواثيقها باعتقاده أن تلك الأحكام كانت جائزة على المجتمع.(6) الفنان أحمد يوسف الزبيدي الذي غنى روائع الفن اللحجي ،ترك لحج مسقط رأسه ورحل إلى مصر ليشتغل كمغن في كابريه بمصر ثم تركها ليرحل إلى السعودية ثم عاد إلى عدن على أثر دعوة رسمية وجهت إليه للمشاركة في احياءحفلات وطنية. وتم استضافته في فندق (جولد مور) ثم زار مسقط رأسه لحج ليوم واحد بدعوة من الفنان فيصل علوي ، بعدها عاد إلى السعودية إلى أن توفاه الأجل.
|
ثقافة
ذكرى رحيل الفنان فيصل علوي الثالثة 2 – 4
أخبار متعلقة