المهندس البريطاني رولاند وزوجته جوان وأبنهما بيتر مع مجموعة من ابناء الضالع في العام 1964م
بحث وترجمة/ بلال غلام حسينلا يخفى على المتابع لسير الأحداث بكل أنواعها من دور في تاريخ الشعوب والمجتمعات، ولو أمعنا النظر في ثنايا الأحداث التاريخية الكبرى لوجدنا أن الإنسان لعب دوراً كبيراً على مر العصور في صياغة هذا التاريخ وأحداثه ولو بحكاية، أو زيارة مكان ما. إن التاريخ يحفل بالكثير من الأحداث بين طياته ولكي نستعرض كل تاريخ الشعوب فلابد لنا من سردها في موسوعات ضخمة، وما أنوي كتابته لكم اليوم هو عن حقبة معينة من تاريخ عدن ، حقبة جميلة ومميزة سطر التاريخ كل تفاصيلها لتعلم للأجيال المتعاقبة. في الحلقة الجديدة من «صفحات من تاريخ عدن » سأعرض اليوم قصة سردها التاريخ حدثت تفاصيلها في مدينة الضالع وعن كرم أهلها، وأهل الجنوب هم أهل كرم وحضارة. حلقة اليوم هي سرد لذكريات من الأرشيف البريطاني ذكرها أثنان من الضباط البريطانيين من فوج الكتيبة الاسكتلندية الخاصة بالملك، برحلة قاما بها من عدن إلى الضالع في العام 1906م. وفي طي هذا الموضوع سوف نتكلم عن ضيافة حاتمية تحكيها أسرة بريطانية تم استضافتها في بيت أمير الضالع في فترة ما. وتوجد بين طيات هذه القصة الكثير من التفاصيل البسيطة ولكنها مثيرة للاهتمام من خلال وصف دقيق لمدينة الضالع أثناء تلك الرحلة للحياة العسكرية في تلك الفترة. يتحدث الضباط عن زيارتهم بالقول : ((كان معسكر الكتيبة يقع على بعد ميل واحد من قرية الضالع حيث يقيم الأمير في موقع يسمى الزريبة وكان سبب وجود ذلك المعسكر هناك لحماية الحدود من الأتراك الذين كانوا يحتلون اليمن آنذاك. كانت بوابة القرية تغلق في الساعة السادسة والنصف مساءً، ولا يسمح لأي شخص بالخروج بعد ذلك الوقت. والضالع هو الاسم الأصلي للمدينة، و أميرها شخص ودود وهو المسئول الأول تحت الحماية البريطانية. بنيت المدينة على رأس وادي وبني محيطها العام بطريقة تشكيلات دفاعية. تعتبر الضالع غنية بالمزارع وتكثر فيها الآبار، وعلى بعد عشرة أميال توجد هناك محطة إرسال على ارتفاع 6000 ألف قدم ويعمل بها 28 رجلاً تحت إمرة ضابط الاتصال.
صورة نادرة لعائلة أحد الضباط البريطانيين في الضالع
من أكتوبر إلى شهر مارس من كل عام يكون المناخ في الضالع شديد البرودة ومن أبريل إلى يونيو يكون الجو فيها شديد الحرارة والأشهر من يوليو إلى سبتمبر تكون فيها الأمطار غزيرة. التربة في الضالع هي من نوع خاص، حيث تجف سريعاً في الشهور الثلاثة الأولى من العام يناير،فبراير ومارس تكون الحدائق فيها غنية بالخضروات الوفيرة وذات نوعية ممتازة وتكون زراعة الخس فيها من أفضل الزراعات. كانت بقية المخيمات العسكرية تتواجد في الشيخ عثمان نوب الدكيم سيد علي حردبة والملاح. كانت مخيمات الشيخ عثمان من أفضل المناطق راحة، حيث كانت توجد الكثير من الحدائق الفسيحة والمناسبة للرحلات والنزهة. وكانت هناك عدة طرق ممهدة بين المخيم والأخر وتوجد بها إمدادات المياه الضرورية. ومن جهة أخرى وفي فترة ما تم دعوة عائلة بريطانية من قبل أمير الضالع وكان رب الأسرة يعمل مهندساً إنشائيا مع السرب 5004 البريطاني، والذين كانوا مخيمين بالقرب من مدينة الضالع، وقد قدم رب الأسرة إلى الضالع لتوسعة مدرج مهبط الطائرات في جحاف. يقول الطفل بيتر سارداً القصة من خلال كلمات طفولية بسيطة عن هذه الدعوة قائلاً: (( بعد المرور من خلال الممرات الضيقة والمظلمة لمنزل زعيم القرية وصلنا إلى داخل حرمً منعزل خاص بالنساء بينما أُخذ والدي إلى حجرة الضيوف الخاصة بالرجال ربما لمضغ القات أو لتدخين المداع. كانت الغرفة الخاصة مليئة بالنساء اللاتي يرتدين الملابس السوداء وكن يتحدثن بشكل مبهم وبدا الموقف وكأن القرية بأكملها حضرت لهذه المناسبة النادرة ويبدو أن بعض النساء لم يسبق لهن بأن شاهدن امرأة بيضاء البشرة في حياتهم.
الضالع في العام 1906م
رفع الكثير من النساء المتواجدات النقاب عن وجوههن وأخرجن أيديهن من طيات لباسهن الأسود لتمتد إلى والدتي لتحسس بشرتها البيضاء مصاحبة بابتسامات وضحكات وكأنهن يتأكدن من أنها امرأة حقيقية. لم يكن يجري بيننا أي حديث نظراً لفرق اللغة،ولكن أخبرنا المترجم الخاص والذي كان موجوداً في حجرة الرجال بأنهم كانوا يتساءلون كم من الإبل والماعز كلفت والدي لدفعها كمهر لأمي. قُدم لنا الشاهي بنكهة النعناع وأعطيت لنا فاكهة الكمثرى النادرة كضيافة خاصة وكان ذلك كافياً لإرضاء معدتي حيث أنني كنت جائعاً. وكما جرت العادة من قبل هؤلاء الأشخاص الكرماء عند توديعهم للضيوف هي تقديم العطايا من باب الكرم لذا قُدمت لي ولوالدي هدية قيمة عبارة عن جنبية وأعطيت لوالدتي قطعة قماش فاخرة محلية الصنع. قد يتساءل القارئ ما دخل هذه القصة بالتاريخ أقول لم يوثق التاريخ هذه القصة من باب العبط ولو كانت كذلك ما كان المؤرخون حفظوها في كتبهم وأرشيفهم، نظراً لأن القصص الإنسانية تلعب دوراً في تاريخ الأمم، وهي سنة كونية ولأن البشر هم من يصنعون التاريخ وليس مهماً بأن يكون هذا التاريخ عبارة عن قصة حدثت مع طفل صغير، ولكن الأهم هو بأن العلاقات البشرية تكون عبرة لمن سوف يأتي من بعدهم)). وبهذا نأتي إلى ختام موضوعنا المختصر وإن ذلت هذه القصة على شيئ فإنما تدل على كرم أهل الضالع وبساطتهم في التعامل مع ضيوفهم حتى لو كانوا غرباء. ولهذا ذُكرت سطور هذه القصة في أرشيف عدن التاريخي.