تعد البحوث والدراسات البريطانية حول منطقة الشرق الاوسط من المرجعيات التاريخية المهمة والتي لا تقف في معارفها عند حدود قراءة الحدث بقدر ما شاركت سياسة وازمات مراحل في اعادة تركيب ما بدل في هوية الانتماء وحول حدود الجغرافيا من مساحات الى اخرى وادخل افكاراً و اوجد كيانات ما كان لها ان تكون لولا وصول المد البريطاني الى هذا المكان. وتأتي كتابات المؤرخ الاستاذ جون كيلي لتقدم لنا معلومات لها من حيث الاهمية في البحوث التاريخية والسياسية والجغرافية ما يضعها في دائرة القراءة التي تفتح الاحتمالات والتأويل لما جرى في السابق ولما هو قابل للعودة في الحاضر ليس كهوية يطالب بها بل كمشاريع سياسية قد تذهب بهذا المكان نحو اعادة لتشكيل هويته وكيانه وما قدم الباحث جون كيلي يعد من الاسهامات المتميزة الحاضرة مع التاريخ والسياسة في كل المراحل والاحداث. من اعماله في هذا الجانب كتاب ( بريطانيا والخليج العربي 1795-1870م ) الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان جزءين ترجمة محمد امين عبدالله عام 1979م. وكتاب ( الحدود الشرقية لشبه الجزيرة العربية) ترجمة خيري حماد منشورات دار مكتبة الحياة بيروت عام 1971م وكتاب بريطانيا والخليج العربي جاءت الينا نسخة منه مرسلة من سعادة سفير سلطنة عمان في صنعاء الاستاذ عبدالله البادي. اهمية هذا الكتاب العلمية بما حوى من معلومات عن الخليج العربي في فترة شهدت توسع المد البريطاني في تلك المواقع والذي بدخول هذا الزحف الغربي بدأت معالم تتبدل في السياسة وحدود جديدة ترسم هذا الكتاب الذي صدر في بريطانيا عام 1965م ما زال حضوره المعرفي يواكب هذه الحقبة من التاريخ حيث بدأت حالات من فقدان التوازن تتحرك في ارضية هذه المنطقة. من المواضيع التي يقف امامها المؤرخ جون كيلي متوسعاً في سرد الحدث جاعلاً من المعلومة البرهان على موضوعية الرؤية في استشراق آفاق القادم عند تجاوز الحدث لزمن وقوعه وكيف له ان يتولد كحلقات متواصلة أن لم تدرك الاحداث من مصدر افعالها. وما يطرحه علينا الكاتب في الجزء الاول من سفره القيم الخليج في اواخر القرن الثامن عشر الحرب مع فرنسا الوفود الى فارس القرصنة والوهابيون 1800-1818م البحث عن قاعدة في الخليج والحملة على قبيلة بني بو علي 1820-1823م الطريق الى الهند 1826-1836م الازمتان المصرية والفارسية 1837-1840م. اما الجزء الثاني من الكتاب فيقف عند عدة قضايا تاريخية نذكر منها الحرب الفارسية 1856-1857م مسقط البحرين تصاعد عمليات التدخل 1853-1864م مسقط والبحرين - ثمن التدخل 1856-1871م حدود السياسة التركية على سواحل شبه الجزيرة العربية 1873-1880م. يقول المؤرخ جون كيلي عن اهمية موقع الخليج العربي ودوره في صنع التاريخ والسياسة : ( ليس في وسع أي دولة ان تمارس نفوذاً على منطقة الخليج ما لم تكن تلك الدولة تملك السيطرة على البحار. ولم يتسن لآي دولة أن تمارس مثل هذه السيطرة منذ سقوط الخلافة العباسية حتى الان الا في فترتين وفي كلتا الفترتين كانت الدولة المسيطرة من الدول البحرية مملكة البرتغال في القرن السادس عشر والامبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. ولقد كانت السيطرة البرتغالية على الخليج جزءاً من خطة واسعة يعود الفضل فيها الى القائد الكبير الفونسو البكورك وكان الهدف منها الوصول الى جزر الهند الشرقية بالاستيلاء على مداخلها التقليدية - البحر الاحمر والخليج العربي ثم مضيق ملفا عبر رأس الرجاء الصالح حتى مصب نهر تاجوس.اما سيطرة بريطانيا على الخليج فقد تمت بطريقة عشوائية وفي حين دخل البرتغاليون الخليج رافعين الاسنة والحراب لفرض سلطانهم عليه جاء البريطانيون في البداية كتجار مغامرين يبحثون عن التجارة والثروة ولم تتحقق السيطرة الكاملة للانجليز على الخليج الا بعد انقضاء قرنين من الزمان وكنتيجة لسيطرتهم على الهند وما ان ولى الربع الثاني من القرن التاسع عشر حتى كانوا سادة الموقف في الخليج ومنذ ذلك الوقت فرض البريطانيون وصايتهم على هذه المنطقة. قبل قرون عديدة من وصول البرتغاليين كان الخليج واحداً من اهم المعابر التجارية في آسيا وعن طريقه كانت تمر منتجات الهند والصين والارخبيل الشرقي الى الاسواق في ايران والشام والعكس من ذلك كانت تعبر السلع الواردة من الجزيرة العربية وايران و اوروبا من هذا الطريق نفسه الى الهند والشرق الاقصى. كما قامت و ازدهرت على ضفاف الخليج كثير من المدن التجارية المعروفة كالبصرة والبحرين وصراف وقيس وهرمزه و بوشهر غير ان هذه المدن سرعان ماسقطت واندثرت تحت ضغط الاحداث التي توالت على المنطقة مثل ثورة القرامطة وسقوط الخلافة العباسية وغزوات المغول وقيام امبراطورية صفوي في ايران.وقد طواها الفناء نهائياً عند اكتشاف البرتغاليين للطريق البحري الى الهند في نهاية القرن الخامس عشر ، ومنذ ذلك الحين تحولت جميع الطرق التجارية الرئيسية التي تربط اسيا باوروبا الى الجنوب بعيداً عن منطقتي الخليج العربي والبحر الاحمر أي عبر المحيطات الجنوبية ورأس الرجاء الصالح.ولم تستأنف مسارها القديم الا بعد شق قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.اما فيما يختص بالمدن والدول التي نشأت على شواطئ الخليج فقد كانت نهاية القرن التاسع عشر بمثابة كارثة كبرى لتلك الدول اذ ان وجودها وازدهارها كطريق دولي للتجارة اخذ يعتمد على علاقاته التجارية بالشام وأسواق البحر الابيض المتوسط وما ان جرد الخليج من هذا الدور حتى سقط في قبضة السيطرة البرتغالية التي استمرت زهاء قرن من الزمان وهكذا اصبح للسفن البرتغالية السيطرة على مياه الخليج كما كان ولاة البرتغال هم الذين ينظمون الحركة التجارية في المنطقة).حتى نهاية القرن الثامن عشر لم تتجاوز المصالح البريطانية في منطقة الخليج العربي المستوى التجاري فقد اصدر الشاه عباس مرسوماً عام 1616م منحت على اثره شركة الهند الشرقية البريطانية حق التعامل مع فارس ( ايران) وفي شهر يناير من عام 1617م جاءت الى ميناء حاسك على ساحل مكران اول شحنة من البضائع الانجليزية وفي وقت لاحق من السنة نفسها اقامت بريطانيا ورشتان للشركة نفسها في كل من شيراز واصفهان كما انشئت ورشة ثالثة في اصفهان عام 1619م. عندما ظهرت بريطانيا على مسرح الاحداث في منطقة الخليج العربي كان النفوذ البرتغالي في طريقه الى الزوال فقد صفي وجوده في البحرين من قبل قوات الشاه عباس الاول في عام 1602م وفي رأس الخيمة بين عامي 1619و 1620م . عندما عجز الشاه عباس عن اخراج البرتغال من هرمز بفعل افتقاره للقوة البحرية الضاربة اقترح على البريطانيين تنفيذ مثل هذا العمل ولقد وجدت الفكرة موافقة من مجلس ادارة شركة الهند الشرقية ونفذ الهجوم البحري في شهر يناير عام 1621م وقام به الاسطول البريطاني اما قوات الشاه عباس فقد قامت بالهجوم على التحصينات البرتغالية الضخمة وبعد حصار دام شهرين ونصف سقط هرمز وفي هذا كانت نهاية الوجود البرتغالي في الخليج. وعلى جانب آخر من احداث تلك الفترة التاريخية حول العلاقة بين الخلافة العثمانية ومنطقة الخليج العربي وتوسع النفوذ البريطاني يذكر الباحث جون كيلي قائلاً: ( يعود تاريخ العلاقات الانجليزية التجارية مع تركيا العربية الى عام 1640م غير ان المركز لم يتأسس بشكل دائم في البصرة قبل عام 1723م. وباغلاق مركز الشركة في بندر عباس تحول التمثيل من البصرة الى درجة وكالة واسند اليه الاشراف على نشاط الشركة التجاري في الخليج وبعد مضي عام على هذا اعلن الباب العالي اعترافه بالوكالة التي تحولت الى قنصلية ولم تقرر الشركة الانسحاب الكلي من الاسواق الفارسية عندما تم اغلاق مركزها هناك فقبل عامين من اغلاق المركز في بندر عباس بدأ البحث عن ميناء آخر على الساحل الفارسي يصلح لاقامة المركز فيه. وفي اوائل عام 1762م اقترح الوكيل السياسي في بندر عباس اتخاذ المحمرة مقراً للمركز المذكور وفي يوم 12 - ابريل سنة 1763م عقدت اتفاقية مع الشيخ ناصر حاكم المحمرة يسمح للشركة بموجبها انشاء مركز تجاري في ميناء المحمرة. وقد تم اعتماد هذا المركز كمركز تجاري قانوني بعد ثلاثة اشهر من ذلك التاريخ وذلك بموجب قانون الامتيازات الاجنبية الذي اصدره الشاه كريم خان الحاكم الجديد لفارس وبصدور هذا القانون اصبح للشركة الحق في اقامة المركز واي مبان اخرى تابعة له سواء في المحمرة او ميناء اخر من الموانئ الفارسية كما اصبح لها الحق في انشاء التحصينات اللازمة لحماية هذه المراكز. وتضمن القانون اعفاء الشركة من الرسوم الجمركية على وارداتها الى البلاد بل وخفضت هذه الى 3% فقط . الى جانب منح الشركة حق احتكار استيراد المنسوجات الصوفية الى فارس وتخول حكام الاقاليم الفارسية سلطة مساعدة الشركة في استيفاء ديونها من الرعايا الفرس وحماية السفن والشحنات التجارية كما سمح للشركة بأن تتولى بنفسها محاكمة العاملين فيها عن أي مخالفات مدنية او جنائية يقترفونها وفي مقابل هذه الامتيازات اشترط كريم خان بان توافق الشركة على استيفاء اثمان مبيعاتها او بعض هذه الاثمان مقابل سلع فارسية وبأن لا تحول اثمانها بالعملات النقدية فقط وبأن لا تقدم الشركة أي تأييد او مساعدة للمتمردين على سلطة الشاه او الى خصومه). في عام 1795م احتلت الجماعات الوهابية منطقة الاحساء حتى تتوسع سيطرتهم على المناطق الوسطى والشرقية من شبه الجزيرة العربية وكانت تلك القوة المذهبية وعلى مدى السنوات الخمس عشرة التي جاءت بعد ذلك العام في طريقها للمد خارج حدود نجد وقد انطلق هذا التوسع غرباً الى الحجاز والاماكن المقدسة وشمالاً الى العراق وسوريا وجنوباً الى الامارات الساحلية على الخليج الفارسي.لقد اثار هذا النفوذ سلطان الدولة العثمانية والغرب وكلف ولي مصر بالقضاء على هذا التوسع الذي اخل بالوضع السياسي والعقائدي في تلك المناطق اما في الشرق فقد دفعت اعمال القرصنة البحرية الحكومة البريطانية في الهند الى التحرك لوضع حد لتلك الاعمال التي تلقى الدعم من الدولة الوهابية على الساحل العربي. غير ان تلك الدولة الناشئة كانت لا تملك قوة التماسك الداخلي والى الوحدة والتركيب الصحيح لقيادة العمل السياسي فانها لم تتمكن من صد الهجمات والعمليات التي بدأت ضدها وما ان جاء عام 1818م حتى انهارت تلك الدولة بعد ان وجهت لها ضربات من جيوش والي مصر وفي الخليج العربي اخذت هذه الاعمال التي كان الوهابيون وراءها تقض مضاجع الحكومة البريطانية تماماً مثل تهديدات نابليون فإن القلق على امن الهند قد ارغم البريطانيين على دخول هذا الصراع السياسي في هذه المنطقة حفاظاً على مصالحهم . وحول هذا الصراع الذي اخذ في التوسع الى مناطق عديدة يقول جون كيلي( تعرض العراق التركي فيما بين 1795-1798م الى حملات عسكرية عديدة من الوهابيين ولم يكن في مقدور سليمان باشا الذي كان يعاني من المرض ان يعمل شيئاً لوقف غارات الوهابيين على العراق حتى خريف 1798م عندما اضطر بأمر من الباب العالي وضغط اعيان البلاد الى تجهيز حملة عسكرية الى الاحساء وكان على رأس الحملة رئيس ديوانه علي باشا الذي زود بالاوامر للتوغل الى الدرعية وتدمير المناطق الوهابية وفي شهر سبتمبر 1798م غادرت قوة من الجنود الاتراك بغداد وفي البصرة انضمت اليها بعض وحدات من القبائل يقدر عددها بعشرة آلاف مقاتل من مناطق المنتفك والشمار والظافر وقد تحركت هذه القوة الى الاحساء مع مطلع العام الجديد وقد قامت اولاً بفرض الحصار على قلعة الهفوف في الاحساء ولكن الحامية صمدت ضد المحاصرين وبعد شهرين اضطر علي باشا الى رفع الحصار عن الحامية والعودة الى البصرة وخلال تراجعه من شمال الاحساء التقى عند آبار التاج شمال احساء بقوات من الوهابيين يقودها سعود بن عبدالعزيز النجل الاكبر للامير الوهابي. وبعد مواجهة استمرت بضعة ايام تخللها تبادل الحوار بين الطرفين تم الاتفاق بين الامير سعود وعلي باشا على هدنة مدتها ست سنوات وقد اصطحب علي باشا في عودته الى بغداد مندوباً عن الوهابيين كلف بالتصديق على المعاهدة. وبعد عام واحد من ابرام تلك المعاهدة استأنف الوهابيون غاراتهم على العراق وبنهاية عام 1800نقضوا تلك المعاهدة نقضاً تاماً وقد تضاعفت غاراتهم خلال شتاء سنة 1800-1801م وانتهت بمجزرة رهيبة واعمال للسلب والنهب في كربلاء وكان ذلك في ربيع 1801م ففي صباح يوم 20-8 ظهرت فجاة قوة من الوهابيين تقدر بـ (12) الف رجل امام المدينة وقد صادف ان كان معظم السكان خارج المدينة في النجف لتأدية الحج وقد انقض الوهابيون على المدينة من المدخل الغربي واندفعوا الى ضريح الامام الحسين حيث عاثوا فيه ساباً ونهياً وتدميراً كما دمرت نصف القبة الذهبية لضريح الحسين “ رضي الله عنه “ ثم انتقل الغزاة الى الاحياء الاخرى من المدينة وعملوا فيها سلباً ونهباً وقتلاً وكانوا يقتلون كل من يصادفونه ويدمرون كل شيء امامهم وفي الساعة التاسعة من ذلك اليوم انسحب الوهابيون حاملين معهم الكثير من الغنائم التي استولوا عليها الى جانب الاسرى تاركين المدينة وراءهم حطاماً و انقاضاً تضم تحتها مالا يقل عن 5 آلاف قتيل). في التاريخ لا تسقط اهمية الحدث بتقادم الزمن بل منها ما يظل تحت ستائر الحقائق حتى يأتي ظرف في حقبة تعاد فيه ترتيب المواقع بشكل مغاير عبر ازاحة ما ظل قائماً لفترات من الدهر. والقيمة الموضوعية لهذا الكتاب بما حوى من معلومات ما زالت تمتلك المقدرة على قراءة تاريخ منطقة الخليج العربي من الرؤية البريطانية التي لم تكن مجرد حالة في مرحلة من الزمن ولكنها كانت مشاركاً فاعلاً وصانعاً لما ظهر من دول ومصالح وثروات كان لليد البريطانية الدور الاكبر في رسم الحدود عبر الصحراء وهذا ما يعطي لكتابة الانجليزية في هذا المضمار مكانة قيادة الفكر نحو التعامل مع تاريخ هذه المنطقة والذي ما زال حتى الان هو دائرة مصالح وصراعات وبرنامج عمل دولي لا تنفصل مياه بحاره عن منابع نفطه ومن هنا علينا ان نعرف ما هي السياسة وماهو التاريخ في جزيرة العرب.
|
ثقافة
المؤرخ البريطاني جون كيلي.. وكتابه (بريطانيا والخليج العربي 1870-1795م)
أخبار متعلقة