سطور .. الجزء الثاني
في اليوم الأول لإقامتي في (حلق الواد) في طابق فيللا، تسكن عائلة المالك في الدور الأرضي منه، هبطتُ للبحث عن ما يمكن أن يؤكل في الصباح، وعلى بعد أقل من عشر خطوات فوجئت بمحل مرطبات و(جاتوه) تديره امرأة في منتصف العمر ومنتهى اللطف والنظافة، بادرتني: مرحبا بيك إيش تحب، قلت ما تشائين. قالت تحب كرواسا، قلت نعم، وكانت أجمل كرواسا أذوقها في حياتي من أنظف يد وأرق امرأة يمكن أن تقابلها في الصباح في مدينة لم يمر عليك أكثر من يوم على السكن فيها. هذه (حلق الواد) التي قررتُ أن أسكن فيها بعيدا عن الكلية وبعيدا عن العاصمة تونس. حلق الواد: ( La Goulee) هي مدينة وميناء تونسي يقع شمال البلاد قرب مدينة تونس العاصمة، وهي مدينة ا اليهودية والمسيحية والإسلام، ويهود حلق الوادي هم أقدم جالية يهودية عرفتها تونس، وموقع سكني أنا وحبيب ورامي أمام دار للمسنين ممن تبقى من اليهود وآثر البقاء في تونس بدلا عن السفر إلى فلسطين. ومثل مافي حلق الواد من تنوع، عربي وغير عربي، تونسي وغير تونسي، كان في بيتنا تنوع لدولتين اليمن وسوريا وفي تونس، لم يكن ذلك الأمر مريحا لأعوان الأمن في المدينة، خاصة في حلق الواد حيث تتواجد آخر جالية يهودية من المسنين، وقد تجلى ذلك الأمر في تأخر إصدار إقاماتنا للعام 1994، حيث بقينا دون إقامات حتى نهاية العام الدراسي. لأن اليمن وسوريا مصنفة في العقلية الأمنية التونسية في أحسن الأحوال دولا حاضنة للإرهاب. لنعد الآن إلى حلق الواد وبناتها وأهلها ومطاعمها وروعة سوق السمك وإنسانيته على الرغم من غلاء الأسعار خاصة بالنسبة لي كعدني ينام ويصحو على وجبة سمك طازج طوال أيام الأسبوع، حيث السمك في مدينتي عدن هو أكل الفقراء، وليس أكل الطبقة الوسطى والأغنياء، ولم أعلم أن السمك أغلى من لحوم الماشية إلا في تونس، لأننا تعودنا إن أرخص الأكل في مدينتنا هو الأسماك لأن عدن شبه جزيرة أجمل من تونس، وأجمل ماخلق الله في الأرض على الأقل بالنسبة لي. في العام الأول كنت أنا وأصدقائي نحس أحيانا بأننا غيرتونسيين بسبب ارتباط كل منا بمدينته التي جاء منها، لكننا بعد ذلك لم نشعر بهذا الإحساس، وحين جاءت بعثة سينمائية فرنسية لتصوير فيلم تونسي فرنسي مشترك تدور أحداثه في حلق الواد، وحجزت عنا الحركة لأيام في الشارع بسبب التصوير والمعدات الفنية الضخمة وتجهيزات الإنارة والتصوير، هذا الفيلم الذي يجمع بين فتية وفتيات من مرجعيات دينية مختلفة لتأكيد التسامح الديني الذي تختص به حلق الواد، أحسسنا حينها بمشاعر الفخر لأننا أحسسنا بالانتماء إلى هذه المدينة هذه الروح التي تسكن فينا. هذه المدينة التي تجعلك تلمس لمس اليد هويتك المنتمية إليها على الرغم من أن وثائق إقاماتنا الرسمية لم تكن تصدر بالسرعة العادية بسبب الحذر الشديد من هذه التشكيلة العربية وفي مكان مواجه لسكن المسنين من اليهود في حلق الواد وربما لأسباب أخرى لكننا لم نكن نكترث لهذا لأننا قد اندمجنا في نسق المدينة وأحسسنا بأنا من أبنائها ولا نحتاج لمثل هذه الوثائق حيث كنّا نفرح لفرحها ونحزن لحزنها. قطار حلق الواد - تونس : الرابط الرئيس بين حلق الواد وتونس وهو القطار، وهذا القطار الرمادي اللون من أنظف وسائل النقل وأكثرها فائدة وانضباطا في المواعيد، وكثيرا ما تشرق الشمس وأنا راكب في إحدى مقصوراته يلفني دفء العمال والطلاب الذاهبين إلى تونس العاصمة ومنها إلى أماكن عملهم ودراستهم، ولم يكن بعد مقر سكني عن الكلية التي أحضر فيها شهادة الدراسات المعمقة شيئاً سيئاً كما قال لي بعض الزملاء اليمنيين، لأنه منحني هذه الهبة الصباحية التي تتيح لي التأمل في الأوجه المستبشرة الصبوحة وفي مشاهدة الطيور البحرية التي تحتل محمية كبيرة، هي تقريبا على امتداد طريق القطار من حلق الواد إلى تونس العاصمة. هذه الهبة الصباحية اليومية، إضافة إلى ميزة دائمة هي أنني كنت معروفا بين زملائي وزميلاتي بأنني (صاحب حلق الواد) وهي مكانة يعتد بها كثيراً، خاصة في إجازات نهاية الأسبوع. اليوم الذي تتكدس فيه كل سمراوات وشقراوات تونس وزوارها عند البحر، حيث تكون رائحة المكان من رائحة النساء والصبيات تشع بخمرة الحياة، وإذا هفت روحك لمطالعة إحداهن أو التحدث إليها متوددا ببعض الألفاظ الغائمة السكري والأغنيات المعبرة عن الوله، ترد عليك بقولها - بعذوبة لا تحتمل - : (حووت عليك) أي لن تمسني لأنني كالحوت في البحر. أي نعم حورية عليها صلاة النبي. كما أن هذا القطار عندما يبدأ صيف حلق الواد يتحول إلى مولد متحرك يضج بالسماحة ويفتح أفقا جميلا للتعرف على جمال تونس وتنوعها البشري. بالإضافة إلى الوافدين إليها من شرق الأرض وغربها ومن كل ديانات السماء والأرض، وحينها نكون نحن سكان حلق ألواد، حتى من غير التونسيين أبناء المدينة المصطفاة للتونسيين والعرب والأجانب صباحا ومساءً في الصيف. أي نعم نكون نحن أولياء هذا المولد الذي يزار. وبسبب البعد عن الكلية والإقامة في فضاء حلق الواد فأنت تقضي يومك في تونس العاصمة من الصباح إلى المساء. وبهذا تتعاظم علاقتك بالمكتبات وبدار الصحافي ودار الكاتب والمسرح البلدي بالمدينة ومهرجاناته، تتعاظم علاقتك بشعراء ومثقفي المدينة الذين يرحبون بك على الدوام كأنك واحد منهم، حيث تسمعهم ما لديك وتستمع إلى آخر تجلياتهم الشعرية والأدبية، وحين ترجع في آخر الليل تكون جوهرة حلق الواد في انتظارك كالمحبوبة وياسمين بيوتها العتيقة قد فاح وأفرد ذراعيه لاحتضانك كي تنام على صوت موسيقى البحر الأبيض المتوسط. وأهم ما أتذكره أثناء إقامتنا في حلق الواد، هو سقف الحريات الفردية الذي تتمتع به المدينة عن غيرها من الأحياء التونسية، حيث لا أحد يكترث بأحد والشارع ليس ملكا لأحد وشط البحر ليس ملكا لأحد ولا أحد يفرض عليك ما يجب أن تعمل وما لا يجب سوى ذوقك الحضاري وسمو ثقافتك التي تمنعك أصلاً أن تمارس ما يخدش الحياء العام أو ما يؤذي الناظر إليك، مدينة تعلمك فن المعيش مع الآخرين، مدينة هي لك وللآخر في الوقت ذاته سلاما أرض حلق الواد سلاما للناس والمكان سلاما للمحبات التي أحاطت بنا ذات يوم فاسكرتنا حتى الآن، سلاما لجدران البيوت التي تشع بالألفة والتسامح، وترشح بالمحبة، نعم لقد كنت في غمرة إقامتي في هذه المدينة الرائعة سعيدا بما أرى ولم يكن واضحاً -على السطح - بالنسبة لي في تلك الفترة - حجم العسف أوالكبت السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يعانيه الشعب التونسي جراء السمة الديكتاتورية للنظام السياسي في تلك الفترة (حكم بن علي)، لأنني كنت أنطلق في تحليل الأوضاع التونسية من منطلقين، أولهما: واقع الأرقام التي تنشر في الصحف والدوريات، وهي أرقام تؤشر إلى درجة من الرخاء والتقدم الثقافي والنمو الاقتصادي، حتى وإن لم يكن بحجم طموحات وتطلعات الشعب التونسي، وكنت أحس أحيانا بحدس المتخصص ببعض علامات التمويه والتدليس في الخطاب السياسي وبعض المبالغات في تقدير حجم المنجز الوطني لكنني أعود وأقول لنفسي: إن تونس أفضل من كثير من الدول العربية على الرغم من أنها ليست من أغنى دول العالم العربي، ففي مجال التعليم مثلا، لا توجد دولة عربية حسب علمي تنفق على التعليم ما تنفقه تونس، قياسا لموازنتها العامة، فهي على سبيل المثال تقدم التعليم للتونسيين والعرب والمسلمين دون رسوم دراسية تذكر بل وتمنحهم في كثير من الحالات السكن الجامعي والمنح المالية وبطاقات التنقل في الشبكة العامة للحافلات التابعة للشركة الوطنية لنقل الركاب في العاصمة وضواحيها، والمطاعم الجامعية التي تقدم وجبات صحية بأسعار رمزية، وهو نظام قد هجرته معظم دول العالم، حيث أصبح التعليم فيها سلعة غالية الثمن لا يصل إليها إلا من لديه ثمنها. والمنطلق الثاني هو أنني قد وقعت في شرك المقارنة بينها وبين اليمن، ولا داعي للاسترسال في هذه المقارنة لأن نتيجتها معروفة للقاصي والداني.وخلاصة القول فالسكن في حلق الواد هو بمعنى من المعاني سكن بين الأهل، وإقامة لا غربة فيها، إقامة تضعف الحنين إلى الدار. لأنها إقامة في الدار. لأن تونس في حلق الواد أو في غيرها من الأحياء كالمروج أو حي التحرير، - وهي الأحياء التي أعرفها كمواطن لا تتركك بدون أصدقاء وأهل، لأن قلبها الحنون لا يحتمل عذابات الغرباء والعابرين. ولشدة الوله الذي سكن في دواخلنا نحن المشارقة القاطنين في حلق الواد في تسعينات القرن الفارط، للقارئ أن يتصور أننا بعد مرور هذا الزمن (1993 - 2012) نلتقي في المقهى الكوني حسب تعبير الشاعر العربي الجميل يوسف عبد العزيز (فضاء الفيس بوك) حبيب الراعي وأنا، مصادفة أمام منظر ليلي مضاء لمدينة (سيدي بوسعيد) التي يدللها التونسيون بـ (سيدي بو، فأقول له: مبارك سالمين يا ألله.. يا ألله، تصور يا حبيب أنا الآن في، وأنا أرى هذا المشهد أعمل في الفصل الثاني من كتاب أيام تونسية بعنوان حلق الواد، فيرد حبيب بتلقائية: حبيب الراعي: الله يا مبارك لا تقلّب المواجع، آه يا حلق الواد ويا شارع روزفلت واللبلابي * والفطاير والحوت شارع بورقيبة آه على أيامنا.وأضيف في حوار داخلي نعم (الكسكسي) وشارع بورقيبة ومهرجانات قرطاج الدولية للمسرح والسينما والأغنية، وأتذكر أنه ذات مهرجان من مهرجانات قرطاج للسينما عرض فيلم (ناصر 56) للفنان العظيم أحمد زكي، وفي العرض الأول الافتتاحي للمهرجان كاد الشارع التونسي بمشاعره العربية والقومية في اكتظاظه بالبشر قبل العرض بساعات أمام سينما (الكوليزي) وسط العاصمة ووسط شارع بورقيبة، أن يفلت من يد وزارة الداخلية، حيث بدأ الشارع يمور ويتوثب لقفزة أخرى في تاريخه النضالي لولا تدخل المشرفين على المهرجان الذين أوقفوا العروض الأخرى للفليم وهو كما أتذكر لم يكن ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، ولكنه كان سيجر المهرجان والشارع معه في حدث آخر مختلف لولا يقظة الداخلية التونسية وحسها الوقائي. وقد كنت حاضرا للعرض الافتتاحي وأحسست بهيجان الشارع وتوقعت حدوث شيء ما. لكنه حسب الماركسية اللينينية عدم نضوج الوضع الثوري، لأن دهاة الحكم في قصر قرطاج ومستشاريهم كانوا يشتغلون ليل نهار لامتصاص النقمة الشعبية من خلال ترشيد العنف والإقصاء والاستبداد.. والعمل على هيكلة الأحياء الشعبية وتزيين المدينة لكي تبدو هانئة ومرفهة، غير أن ذلك كله لم يحجب شعاع شمس الثورة والقهر.