سطور
[c1] الثورة التونسية يناير 2011 : [/c]وأنا مندمج في كتابة هذه السطور في العام 2011م وبالتحديد في شهر يناير، وبالذات وأنا منكبّ على تأليف الصفحة الأخيرة من الجزء الأول، شاهدت عبر القنوات الفضائية خبرا مصورا حول حادثة الشاب محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه بعد أن أحس بالذل والمهانة في بلده وهو يجر عربة خضار ليبيعها في مدينته (سيدي بوزيد) المدينة التي قد تعرض فيها البوعزيزي أكثر من مرة لمضايقات أعوان البلدية، أو (مسان الكرامة) كما تحدثت والدته في التلفزة بعد وقوع الحادث، تلك المضايقات التي قيل إنها توّجت بإهانته من قبل امرأة تعمل في بلدية المدينة. أحسست في داخلي بأن هذه الحادثة لن تمر مرور الكرام، لكن بعد المسافة الزمنية بين المرحلة التي أكتب عنها وعام حريق البوعزيزي لم تمكنني من التنبؤ بأن ثورة الشعب التونسي قادمة إلا بعد أن رأيت الرئيس المخلوع (زين العابدين بن علي) يقوم بزيارة إلى المستشفى الذي يرقد فيه البوعزيزي قبل أن يسلم روحه الطاهرة إلى بارئها، رأيت (الرئيس بن علي ) في هيئة رجل مسه الخوف والإحساس بالذنب، رجل ضعيف أمام قوة البوعزيزي المحترق، وبعدها شاهدته أيضا يخطب في الشعب قائلاً : بالتونسية ( توه فمهتكم) وكان يتوسل شعبه من خلال تلك العبارة التي تنم على أنه ساقط لامحالة، وان فهمه للشعب التونسي قد جاء متأخرا، وان عهده أوشك على الانتهاء وأنه لم يعد حامي الحمى والدين كما كان يقول في واحد من أهم شعاراته أثناء الحملات الانتخابية السابقة. في إشارة صريحة وواضحة بأنه لن يسمح لحزب النهضة الإسلامي أو أي حزب آخر غيره من الأحزاب القومية، أن يحقق أدنى حضور في العقل التونسي، لأن الرئيس هو من سيحمي الوطن والدين. تلك المشاهدات التلفزيونية والمتابعات الإخبارية وتداعياتها نقلتني مباشرة إلى مدينة (حلق الواد )، المدينة التي أقمت فيها أكثر من عامين، وهي المدينة البحرية التي لا تبعد كثيراً عن محيط ‘القصر الجمهوري’ في ضاحية قرطاج. وهو قصر مطل على البحر، يربض على مساحة واسعة من أجمل وأنظف الأماكن في التراب التونسي محاطا بأشجار النخيل الباسقة وعدد مهم من الآثار الرومانية، وهو مكان يسهل منه الهرب والمغادرة بحرا أو جوا لقربه من الميناء والمطار. مما لا شك فيه أن حدوث الثورة التونسية في عام كتابتي لهذه المذكرات قد يؤثر في بعض صياغاتها، لكنني سأحرص كل الحرص على أن لا تتداخل الأحداث المعاصرة مع ما أسرده في هذا السفر إلا في حدود ما تقتضيه الضرورة الفنية أوما تفرضه ميولي المحبة أصلا لهذا الشعب الكريم. فاندلاع الثورة التونسية وتذكري لمدينة (حلق الواد) المجاورة (لقرطاج) قد أسهما في أن انتقل مباشرة إلى الفصل الثاني من هذا المصنف، تحت عنوان (حلق الواد).[c1]ميناء حلق الواد خريف 1994م [/c]كانت الحرب اليمنية - اليمنية قد وضعت أوزارها في 7-7-1994 وأسفرت عن اجتياح قوات ما سمي حينها ‘بقوات الشرعية’ لكامل ارض الجنوب، ومُني الحزب الاشتراكي اليمني(شريك الوحدة) وما تبقى من نصف جيش جمهورية اليمن الديمقراطية بعد عدد من الخيانات من الداخل بهزيمة أدخلت الوحدة اليمنية في أسوأ مراحلها بعد أن تعرض الجنوب للنهب والتدمير الممنهج ؛ في هذا الشهر غادرتُ تونس إلى القاهرة والتقيت بعائلتي هناك في إجازة لمدة شهر، عائلتي المكونة حينذاك من زوجتي وبناتي (مي ورانية وريم فقط). بعد شهر حاولت فيه أن أمسح عنهم غبار الحرب التي عانوا منها كثيراً في عدن، عدن التي كان يقال عنها أثناء الحرب بأنها خط أحمر، وهو الأمر الذي لم يحدث، عدت إلى تونس لأبحث عن سكن وشريك من الزملاء لكي نقتسم معاً إيجار السكن. وشرعت منذ اليوم الأول لعودتي إلى تونس في متابعة إعلانات الجرائد المحلية المتضمنة ‘مساكن للكراء’، وفي الأثناء قرأت إعلانا عن طابق فيللا للإيجار في مدينة (حلق الواد) نصحني بعض الزملاء اليمنيين بأن لا أسكن في حلق الواد لأنها بعيدة عن موقع الكلية، ولكنها كانت بالنسبة لي قريبة من القلب، فهي ميناء مثل مدينتي (عدن) أختها التي اشتاق إليها كثيراً، وخاصة بعد أن عانت ماعانته من ويلات ودمار على الرغم من أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم (391) الصادر في 29 يونيو 1994 بشأن المسألة اليمنية يشددّ أثناء اشتداد المعارك على ضرورة أن تكون عدن خارج مرمى النيران من قبل القوات البرية والبحرية والجوية.في مطلع سبتمبر 1995م استقر بي المقام في عروس المتوسط (حلق الواد) مع صديق من حمص، رسام وشاعر وشخصية في غاية الرقة والأدب، يدعى حاليا بعد مرور أكثر من سبعة عشرة عاماً، الدكتور والفنان التشكيلي العربي المعروف والأكاديمي حبيب الراعي، ولعلاقتي بحبيب الراعي قصة سأحاول أن أسردها باختصار: جاء الطالب السوري حبيب الراعي من سوريا بملابسه الشتوية في شهر نوفمبر 1993، متأخراً عن موعد الدراسة بشهر تقريباً، آخر المبتعثين من الجمهورية العربية السورية إلى تونس، وكان مضطربا لهذا التأخير، وليس له معرفة دقيقة بالموفدين من الجمهورية العربية السورية، وكنت وحيدا في غرفتي بالمبيت الجامعي في (باردو) فسكن معي لأن الغرفة التي أسكنها مخصصة لشخصين، وكانت من محاسن الصدف أن نسكن معاً، لأننا قد أنسنا لبعضنا وتآخينا وقضينا كامل فترة الدراسة في تونس معاً. ومازلنا على اتصال وثيق حتى الآن، وهو يعمل حالياً أستاذا في إحدى الجامعات الأردنية. حلق الواد: ليست بقعة عادية في التراب التونسي، فرائحتها تضوع بالمحبة منذ أول يوم للسكن فيها، نعم لقد كانت مساءآت حلق الواد تذكرني بمساءآت عدن، المدينة الأم التي صنعتني، كانت (حلق الواد) حضنا رؤوماً لكل ساكنيها، ولأنها كذلك فقد ابتلعتني أنا وصديقي حبيب الراعي وصديقنا السوري الآخر الذي انضم إلينا من حصين البحر السورية، صديقنا رامي عيسى الطالب في معهد التنشيط الثقافي، وهو أصغرنا سنا وأكثرنا مكرًا وطيبة.