نجمي عبدالمجيدعلى تعاقب مراحل التاريخ الإسلامي ظل السعي لمحاربة الإسلام والحضارة الإسلامية من أعراض الحركات والمذاهب الهدامة التي توالى ظهورها مع تصاعد الفتن والعقليات العاملة على نشر عقائد وأفكار تهدف إلى حرف العقل الإسلامي عن حقائق هذا الدين الذي أسس حضارة كبرى غيرت مجرى التاريخ الإنساني.وقد تعددت الفرق وأصحابها ومانشروا من مذاهب وتصورات بين أمة الإسلام، وماعملت هذه الأحداث من أزمات وتصدع في بنية الوعي الفكري، تداخلت فيه المؤامرات والاجتهادات الضالة ساعية لضرب وحدة أمة الإسلام ، غير أن الإسلام ظل قوة لن تقهر وأظهر من حجة المنطق في الرد على أباطيل خصومه ما كسر شوكة تلك الفئات، وكان لعلماء الإسلام في مختلف العلوم مواقفهم الخالدة بما تركوا من معارف وكذلك قادة الأمة، ما عزز قوة الإسلام من تلك الحركات والمذاهب المتصارعة مع دين الحق حتى اليوم.تذكر لنا مصادر التاريخ عدة مذاهب وحركات حاربت الإسلام والحضارة الإسلامية على مدى حقب متعددة، فكانت في مراحل تشهد من الصعود والمد ما يوصلها إلى قوة الصدام والتحدي وفترات يعصف بها الضعف والتراجع وإفلاس أفكارها، غير أن هذا لم يسلمها إلى الصمت الأبدي بل ظلت عقائد وأفكار أصحابها تعمل عبر التخفي، وتلون مواقفها وإعادة قراءات أحداث المراحل وإفراز ما يوافق الحقبة من تخيل يسير مع نفسيات العامة من الناس التي تدخل في إطار هذه المعتقدات دون أن تدرك أن لها من المآرب ما يهدم دين وحضارة امة.يقدم لنا الباحث الدكتور قحطان عبدالرحمن الدوري في كتابة (الحركات الهدامة في الإسلام ـ الراوندية والبابكية) الصادر عام 1989م عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد. دراسة لها من مصادر التاريخ وتصارع الأفكار ما يوضح لنا عدة مشاهد من أعداء الإسلام الذين سعوا إلى تحريف حقائق هي من ثوابت الأمة في العقيدة، والذهاب بها إلى تناحرات لم تحصد منها غير الانقسامات والخراب وسفك دماء الأمة التي اعزها الله بقوة الإسلام وتحويل وحدتها إلى فئات ومذاهب وفرق تتصارع على أوهام سعى أتباعها إلى إحلالها محل الحق الإلهي، ومن تاريخ العصر العباسي يقدم لنا الكاتب تلك العبر والدروس التي تفسر رغبة أعداء الإسلام في هدم هذا الدين العظيم ومحاربة أمته، وكيف تنتهي تلك المفاسد إلى السقوط والضياع أمام قوة الإسلام.يقول الدكتور قحطان عبدالرحمن الدوري: (الراوندية من فرق الغلاء، الذين تستروا بالإسلام، وأبطنوا آراءهم الفارسية وديانتهم المجوسية.ولم تكن الفرص مواتية لهم لإظهار ما اعتقدوه بصراحة أول الأمر أمام الرأي العام، لذلك اتخذوا طريق التمويه والتظاهر بالطاعة العمياء للخليفة والحب المفرط، فأظهروا للناس أنهم يعبدون أبا جعفر المنصور، وزعموا: انه إلهم، الذي يطعمهم ويسقيهم، ويحييهم ويميتهم .. إلخ، اعتقاداً منهم أن ذلك يذينهم من المنصور وحاشيته.وربما تابعهم في ذلك بعض البسطاء، فالقوا بأنفسهم من قبة قصر المنصور كأنهم يطيرون، فماتوا.وتحت ستار ادعائهم عبادة الخليفة، قالوا بالتناسخ فأنكروا البعث والنشور، واستحلوا الحرمات.ولما حانت فرصتهم هاجموا الخليفة المنصور، قاصدين قتله ـ وهو ربهم كما ادعوا ـ ليحققوا بذلك أمرين:أولهما: إعادة ملك الأكاسرة، الذي أزاحه العرب.والثاني: إبعاد الإسلام، عقيدة ومنهاجاً، من حياة الناس والذي لولاه ماذهب ملك الساسانيين، وإعادة المجوسية ومبادئ مزدك وماني.وشانهم في ذلك شأن الحركات الهدامة السياسية والدينية التي ظهرت في بلاد فارس، كحركة سنباذ وبابك الخرمي والمقنع والأفشين والمازيار وأمثالهم ممن قصد الهدف المذكور.هم فرقة من أهل خراسان وغيرهم، واختلف المؤرخون في من تنسب إليه هذه الفرقة على أقوال:إنهم أصحاب أبي هريرة الراوندي وسموا بالهريرية.-2ينسبون إلى أبي الحسين عبدالله الراوندي وقال ابن علي الزنجاني: هو أبو الحسين احمد بن محمد بن يحيى بن محمد ابن إسحاق. ولعله هو المقصود بعبدالله الراوندي داعي الدعاة العباسيين في خراسان، الوارد ذكره في كتاب أخبار الدولة العباسية.-3هم أصحاب أبي القاسم بن راوند.-4هم أتباع أبي العباس الريوندي.وقد يكون هؤلاء من رؤسائهم، فنسبوا إليهم، وراوند: بلدة قرب قاشان واصبهان).تلك الحالات هي بعض ما جاءت بما كتب التاريخ حول عقائد وحركات هدامة سعت إلى ضرب قوة الإسلام كدين منزل من عندالله ومسخ عقول الناس من خلال تسخير العقيدة لخدمة الغرض السياسي.لقد كانت تلك الفرق الضالة تواصل عملها في زرع عقائدها المدمرة، ولم تقف عند مرحلة بل ظلت تتواكب مع الفترات الزمنية هادفة إلى شق صفوف أمة الإسلام وتدمير حضارتها فكان الفكر جزءاً من أخطر أسلحتها التي سخرتها في هذه المعركة.وعن مآربهم الهدامة يقول الكاتب: (واتخذوا أيضاً من الجانب الاقتصادي ماأعانهم على تحقيق مآربهم الخبيثة، فاستغلوا أمر الإسلام الناس بالمساواة في الحقوق والواجبات والعدالة في تنظيم الزكاة والغنائم والضرائب كالجزمة والخراج واتخذوا كيفية القيام بجبايتها إنفاقها، مجالاً للنقاش فكانت سبباً لإثارة القلق والاضطراب، واختلاف الثغرات لينفذوا منها إلى مايريدون، واتخذوا أيضاً عقيدة القضاء والقدر سبيلاً لتجميد إرادة الإنسان وحريته.فجهم بن صفوان وهو من الجبرية يقول: لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم، فإنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال.فإذا كان الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له فما فائدة بعثة الأنبياء، والثواب والعقاب، والجنة والنار؟فقول الجبرية يضع الإنسان في غير موضعه الذي أراده الله لة .هكذا سعت عقائد الهدم إلى هز عقيدة المؤمن باركان التوحيد، وإخراجه من طاعة الله إلى انحراف العصيان والتمرد، وكأن الحياة لا تكون إلا بالعودة إلى جاهلية العقل والنفس وإغراق الذات في شهوات الحياة طالما الفرد لا يملك مقدرة الاختيار والتفريق بين الحق والباطل، وفي هذا هبوط لمنزلة الإنسان الذي جعل له الإسلام كياناً وفكراً ومكانة توضح له سبل المعرفة والتفريق ومقدرة التعامل مع الأسباب وعوارضها.من الفرق التي يقف عندها الكاتب قحطان عبدالرحمن الدوري، البابكية المنتسبة إلى بابك الخرمي وهي حركة تصارعت مع الدولة العباسية من خلافة المأمون سنة 200 هـ حتى خلافة المعتصم سنة 222هـ واعدم بابك الخرمي في 4 صفر سنة 223 هـ وقد عرفت بلاد فارس قبل دخول الإسلام إليها بتعدد المذاهب والمعتقدات الدينية.ومنذ مقتل القائد الفارسي أبي مسلم الخراساني على يد الخليفة أبو جعفر المنصور، عرفت تلك البلاد عدة حركات في خراسان، غير أن الهدوء كان يشمل الأقاليم الفارسية كلها، ماعدا اذربيجان التي عرفت توسع لمذهب المزدكية، ومابعدها من المقاطعات التي توجد في جنوب بحر قزوين حيث لم ينتشر فيها الإسلام انتشاراً واسعاً، وان خضعت للسلطان العربي.سعت البابكية إلى ضرب الخلافة العباسية وتوسيع دائرة الصراع معها، كما سعت إلى هدم أركان السلام من خلال مازرعته من أفكار وعقائد تدعو الناس إلى الخروج على ثوابت الإسلام، وقد ذكر الكاتب من وقائع تاريخ بابك الخرمي وحركته الهدامة بعضاً من مجريات الأحداث وحول ذلك يقول:(خرج بابك الخرمي على المأمون والمعتصم بالبدين (البلد) من أرض الران وأذربيجان.وتضافرت أسباب عديدة دعته إلى القيام بحركته هي: 1ـ أن أكثر الخرمية كانت ببلاد خراسان والري وأصهبان وأذربيجان وكرج أبي دلف والبرد، الموضع المعروف بالرد، والورسنجان، ثم ببلاد الصيروان والصيمرة واريوجان من بلاد ماسبذان، وغيرها من تلك الأمصار وأكثر هؤلاء في القرى والضياع.ويعرف بخراسان وغيرها بالباطنية. بل إن تسمية أذربيجان تعني بين النار، أو خازن النار، لأن اذر اسم النار بالفلهوية، وبايكان معناه الحافظ والخازن.ورجح ياقوت هذا المعنى على غيره قائلاً: وهذا أشبه بالحق وأحرى به، بيوت النار في هذه الناحية كانت كثيرة جداً.وهي بلاد فبتنة وحروب، ماخلت قط منها، فلذلك أكثر مدنها خراب وقراها يباب. كانت قوى العباسيين منهكة بسبب الحرب الأهلية، وكانوا مشغولين بالثورات في مصر وسورية والعراق، وبالحرب مع البيزنطيين.وهذه الأوضاع كانت عاملاً أساسياً في نجاح البابكية العسكري).وحول عقائدهم الهدامة التي سعوا لإشاعتها بين الناس يقول الكاتب: (وكان من عادة بابك: أن يعقد فيمن معه من الخرمية، ويضع الخمر بين يديه يشربها، والحرب مشتبكة.وحين كانت استعدادات الافشين وقواده جارية لقتال بايك، كان الخرمية بين يدي بابك يشربون النبيذ، ويزمرون بالسرنيايات ويضربون الطبول.وللبابكية في جبلهم ليلة عيد لهم يجتمعون فيها على كل أنواع الفساد.قال الغزالي: وقد بقي من البابكية جماعة، يقال: أن لهم ليلة، يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم، ويطفئون سرجهم وشموعهم ثم يتناهبون النساء، فبشب كل رجل إلى إمراة فيطفر بها.ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد، فإن الصيد من أطيب المباحات.وقد ذكر هذه الليلة عند الجماعة الباقية من البابكية بجبال البد السمعاني وابن الأثير، وذكرها ابن الجوزي والديلمي، وذكر هؤلاء أن هذه الليلة هي سنوية.قال الديلمي: وهذه الليلة هي المشهورة بليلة الإفاضة في كثير من نواحي الباطنية باليمن.ثم أن بابك من الخرمية، ولقبه الخرمي ينبئ عن ذلك والخرمية صنفان: الصنف الأول:كانوا قبل دولة الإسلام، كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات، وزعموا أن الناس شركاء في الأموال والنساء.ودامت فتنة هؤلاء إلى أن قتلهم انو شروان في زمانه.والصنف الثاني: الخرمدينية، ظهروا في دولة الإسلام، وهم فرقتان بابكية ومازيارية، وكلتاهما معروفة بالمحمرة.وذهب إلى نحو هذا التصنيف ابن النديم، حيث ذكر أن الخرمية صنفان: الخرمية الأولى: ويسمون المحمرة، وهم بنواحي الجبال، فيما بين أذربيجان وأرمينية وبلاد الديلم وهمدان ودينور منتشرو، وفيما بين أصفهان وبلاد الأهواز، وهؤلاء أهل مجوس في الأصل).عرف الإسلام منذ ظهوره حركات هدامة هدفت إلى ضرب هذا الدين عبر الفتن والانقسامات المذهبية وتصارع الفرق وتوظيف الغرض السياسي لمصلحة الفردية، وبت روح الشك في العقيدة بين الناس، وكما عرف التاريخ شخصيات لعبت في هذا المسار دوراً خطيراً، وقد ذكر الأستاذ محمد عبدالله عنان مؤلف كتاب (تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة. الصادر في عام 1926م عن احد الغلاء الذين حاربوا الإسلام قائلاً: (كان أول من أشهر معول الهدم على هذا النحو الشامل رجل لعله أعظم هدام وأذكى متآمر عرفه التاريخ.ذلك الرجل هو عبدالله بن مينون القداح، وهو ابن فقيه ملحد من جنوب فارس هو ميمون بن ديصان وكان ابن ديصان أمام جماعة من الملاحدة يزيفون الأحاديث وينشرون في العامة مبادئ الإنكار والهدم والإباحة ويظهرون في الوقت نفسه تشيعاً لآل البيت حجباً لحقيقة مقاصدهم، وتعلم دعاتهم الشعوذة والكيمياء، وتفرقوا في الأنحاء يدعون كل طائفة بما يناسب ميولها وعقليتها، ويظهرون للعامة في ثوب الورع والزهد.ونشأ ابنه عبدالله منذ حداثتة في جو المبادئ الحرة، والتعاليم الفلسفية والمادية وتفقه في جميع الأديان، وكان شديد الإلحاد والإنكار، غير انه ادعى اعتناق مبادئ الشيعة الإسماعيلية وزعم انه وقف على الإسرار الروحية والعلوم الخفية التي يقول الإسماعيلية إن إمامهم إسماعيل علمها لابنه محمد المكتوم. فذاعت دعوته في جنوب فارس حوالي سنة 260هـ ـ 874م والتف حوله الإسماعيلية،ولم يلبث أن قبض على ناصية الحركة الشيعية.ولم تكن دعوته إلى إمامة إسماعيل وبنيه إلا قناعاً يستتر وراءه، وقد كانت غايته الحقيقية بث التعاليم المادية، فنشط إلى إدماجها في مذهب خاص، ونظم طائفة الباطنية إلى جمعية سرية هائلة ذات مراتب سبع. وقد وصف العلامة دوزي برنامجه المدهش).الدراسات التاريخية في هذه الاتجاهات تظل تطرح علينا حقائق ومعارف حول صراع الإسلام مع الحركات والمذاهب الهدامة منذ القدم وحتى اليوم.وهذا يدل على أن معركة الإسلام مع هذه الفئات ليست وليدة فترة بل هي على مدار الحقب التي تفرز كل مرحلة منها حركات ومذاهب تسلك لزرع الفرقة والتناحر سبلاً متعددة وأفكاراً مختلفة الغاية منها شق وحدة الأمة الإسلامية وتدمير ركائز دينها، وفي هذا صراع تظل فيه العقيدة سلاح المحارب والحق هو الغالب.
|
ثقافة
صراع الإسلام مع المذاهب والحركات الهدامة
أخبار متعلقة