مقاربة نقدية في مقال : «إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة»
المقال في بنيته اللغوية والسيميائية قد اعتمد الكلمات الجاهزة والعبارات الفضفاضة والإكليشات المكررة في الرأي العام والمتداولة والمبتذلة من كثرة الاستعمال في الإعلام والرأي العام، من قبيل (الثورة) (النظام) (العملية السياسية)، المبادرة، العنف، الحرب، الزعيم، الانتصار، البلد، الوطن، الفرصة الأخيرة، الوحدة، الأفكار الكبرى، والمشاريع التفكيكية، المثقفين، واليمن، والحصانة.. إلخ من هذه السلسلة من الكلمات والشعارات الجوفاء التي ليست سوى أقنعة ورموز كان يجب عليك سبرها ونقدها، وفضحها وتفكيكها.كما أنـك لم تستخدم في المقال كلمات أساسية ومفتاحية لتشخيص الوضع الراهن يستحيل تجاوزها لمن أراد فهم المجتمع (اليمني العربي) مثل الحداثة والتقليد، الهيمنة والقبيلة، المرأة والحرية، الكرامة، والفقر، والإرهاب والسلطة. بدا المقال بلغته المجازية والبلاغية وكأنـه من عهد الاستبداد والظلام، لا عهد (الثورة) والحرية والشفافية والوضوح التام، مقال مسكون بالخوف والرعب والتردد والحذر من أن يغضب أحدا من القوى القادرة على الانتقام، وهذا ما جعلك تتجنب تشخيص وتسمية القوى المهيمنة في الميدان مكتفيـا بالتعميم والألغاز والإشارات في عبارات مبهمة عن الثورات والعنف والحرب والزعامات أو (ثورات الزعامات، وتضخيم الذوات والأفكار (الكبرى) التي تمتلك قوة في ذاتها)، وحينما تكون الكلمات وثوقية وقطعية فهي تخفي هشاشة لا تصدق، في حين أنـك كنت واضحـا في نقدك وإدانتك القوى والفئات والأصوات والجماعات (الثورية) وغير الثورية، المستضعفة والمقهورة في الجنوب والشمال، بما في ذلك تأويلك القاسي والعنيف للضحايا من الشهداء والقتلى بقولك: (يجب أن نوسع مساحة قراءة المشهد بدلا من اختزاله في جزئية (شهداء وقتلى) من موضوعه الكبير، كي يصبح للتضحية دلالتها العظيمة).جاء ذلك في تبريرك (لحصانة النظام) وكأنـها الإنجاز الأعظم والمواساة الكبرى للضحايا وذويهم؟!!وأنت بذلك وغيره لم تكن ولم تظهر بمظهر المفكر والمثقف المحايد الأمين الملتزم بالانحياز إلى جانب الضعفاء والمعدمين!! والمدافع عن الضحايا.وقد قال باسكال عن حق «لا يستشهد المرء إلا من أجل الأمور التي لا يكون موقنـا بها، فهو يموت في سبيل آراء لا حقائق، في سبيل ما يعتقده لا في سبيل ما يعرفه»، وأنت هنا تمثلت صورة (النبي) المقدس، الذي يواسي الضحايا بالقول : لا تحزنوا إن لتضحياتكم «دلالتها العظيمة»، والسؤال هو ما هي هذه الدلالة؟ وهل هذا هو عمل المفكر أو المثقف؟! أم وظيفة كائن آخر؟.وعلى الصعيد ذاته لم تكن موفقـا في إظهار موقعك السياسي وهويتك المفترضة في مضمار الصراع والتنافس الحاصل، ففي السياسة على المرء أن يحدد مكانه بوضوح، فالمكان هو البعد المميز للعمل السياسي، وقانون السياسة هو أنا في مقابل خصومي، أو نحن في مقابل الآخرين، فليس شخصـا من لا ينتسب إلى مكان، موقع، قوى، أهل، جماعة، ومن يذهب إلى أيما مكان يصبح أيـا كان، لأن التقابل بين داخل «وضعي» وخارج (الخصوم) هو الذي يؤسس في الوقت ذاته هويته ومعناه... وضرورته، ومبرر وجوده وبقائه واسمه وجسمه ووظيفته.وأنت يا أخي وفي مقالك هذا بالذات لم تعلن موقعك ومكانك وهويتك السياسية المعروفة للجميع، بل حرصت على إخفائها وظهرت بصورة الأب الراعي والمصلح العام والوسيط الموفق بين الأطراف السياسية المتصارعة في صنعاء بل وقفت في موضع الخصم المعادي لأهلك وناسك وشعبك وقواك الاجتماعية التي أتيت منها، وحسبت عليها في الجنوب والشمال، وأعلنت براءتك منها والوقوف في صف خصومها الفعليين والافتراضيين، ولا يضع المرء ذاته في أي مكان حين لا يعارض شيئـا، وليست وظيفة الجماعة أن تفكر في ذاتها، بل أن تطرح ذاتها، وتؤكد حضورها وتقاتل من أجل مصالحها وغاياتها ورهاناتها.وأنت يا عزيزي مع من وقفت؟، لو قلت مع (الشعب) أو (اليمن) أو (الوطن) فهذا هروب طفولي من تحمل مسؤوليتك السياسية تجاه من يجب عليك تمثيلهم وحماية مصالحهم، والدفاع عنها وتعزيزها وتبريرها وتقويتها في كل حال من الأحوال.إنني هنا لا أشكك بنواياك فربما كانت طيبة وربما لم تكن تقصد ما فهمته أنا من خطابك، لكن غموضك وعدم إعرابك عن موقفك والتباس موقعك هو ما جعلني أفهمك على هذا النحو، إنني أزعم فهم المواقع السياسية من مواقف وخطابات أصحابها مهما حاولوا تقنيعها وإخفاءها، وهذا هو ألف باء السياسة والأيديولوجيا، وبما أنـه ليس من وجود ولا من ممارسة سياسيين إلا «بأيديولوجيا وتحت تأثيرها»، كما يقول التوسير، فإنـه لا يبحث عن فهم النظام السياسي في ذاته بل في الأيديولوجية، وليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم السياسي بل وجودهم الاجتماعي الذي يحدد هذا الوعي، وحيثما تختلج (نحن) فستكون أيديولوجيا، لأن ولادة أيديولوجية معناها ولادة جماعة.[c1]ختامـا[/c]يا دكتور ياسين، لقد أردت إنسانـا بلا عدوان، وتاريخا بلا حرب، وسياسة بلا عنف، وأفكارا تمتلك قوتها في ذاتها، وثورة بلا صخب، وتغييرا بلا تهديم، ومعارضة بلا اعتراض، وربما حلمت بنساء بلا أمعاء وحمل بلا دنس، وولادة بلا ألم، وانتصار بلا ثمن، وقضية جنوبية بلا ملامح، وشعب بلا مصالح، ومواقف بلا رفض، وتفكير بلا فكر، وقوى بلا زعيم، وحداثة بلا تحديث ومدنية بلا تمدن، وديمقراطية بلا مؤسسات، ودولة بلا سيادة، وسلم بلا قوة، ومثقفين بلا موقف، وفكر بلا نقد، وحصانة بلا اعتراض، وسلطة بلا مسؤولية.. إلخ.لكن ما أردته أو ترغب فيه يا أخي ليس من هذا العالم، عالم الفعل والانفعال والتدافع والتنافس والتغالب والتقاتل والصراع، عالم الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وكم يتطلب أدنى تفكير من شقاء، كم تتطلب فكرة واحدة من ميتات حقيقية، وكم تتطلب (اليمن) من ثورات وحروب!.وإلى متى يا دكتور ياسين سعيد نعمان نظل نتصرف كالنعام تغرس رأسها في الرمل اتقاء العاصفة؟ يقول المستشرق جرترود بل: «كم ألفـا من السنوات بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في «حالة حرب» دائمة) سيخبرنا أولئك الذين سيقرؤون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنـها تعود إلى أولهم، لكن العربي عبر القرون كلها لم يشتر حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبدا، ومع ذلك فإنـه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي»، ينظر إدوارد سعيد، الاستشراق (ص 237)، إنني وأنا اقرأ مقالك «الإشكالي» تذكرت ما كنت قد قرأته في كتاب الاستشراق من أحكام المستشرقين وتمثيلهم «للعقل» الشرقي، التي جهد إدوارد سعيد لتفنيدها ونقدها من وجهة نظر الفكر النقدي الرصين، أمثال نصوص الإنجليزي دنكان ماكدونالد الذي كتب: «إن الفرق الجوهري في العقل الشرقي ليس سذاجة التصديق للأشياء اللامرئية، بل عدم القدرة على بناء نظام يتعلق بالأشياء المرئية» سعيد ص (238).وبقدر ما يتعاظم الجزع الذي تحدثه ظاهرة من الظواهر يكون الإنسان أقل قدرة على ملاحظتها بشكل صحيح والتفكير فيها بشكل موضوعي واتباع الطرق الملائمة لبنائها ووصفها ومراقبتها وتفسيرها وفهمها وتوقع مآلاتها ، (وق د تكون مقاومتنا النفسية لفكرة ضرورة وجود معرفة موضوعية سليمة للذاتية الجماعية نابعة من حالة جزع آخر وأخير، هي حالة خيبة الأمل، وإننا لنرغب في الاحتفاظ بالخلوة الأخيرة للرقى والتعزيمات المؤذية أي نرفض أن نجرد من مسنا الأخير)، حسب دوبريه ربما كان هذا السبب الذي يفسر هذيان الأمين العام للحزب الجريح، ورغبته في الاحتفاظ (بالخلوة الأخيرة) و(المس الأخير!)، أليست هذه العاطفة البائسة والرغبة الحميمية الثاوية في غياهب اللاشعور السياسي «لقيادة الحزب الاشتراكي اليمني» التي لم تستطع حتى الآن، وبعد مضي نصف قرن من الخيبات والمآسي والانكسارات أن تصوغ رؤية متبصرة ومتحررة من الشعوذة والهذيان لوصف «الحكاية الكبرى»، وتقييمها تقييمـا نقديـا أمينـا، فالانفعالات والشهوات لا تفسر شيئـا أبدا، إننا بأمس الحاجة إلى نقد الذات، نقد الذات الجماعية ونقد الماضي وفهم الحاضر.ودعني أقول لك إنني أقدر ما تشعر به وما عبرت عنه في قصيدتك (رسالة على عجل) في مأرب برس 27 ديسمبر 2011م، وهي قصيدة لا تخلو من الشعر والشاعرية الأدبية الإبداعية وما أودعته فيها من شجن وإحساس بالخيبة والتشاؤم بقولك :عاث الفساد بأرضنا وغدا بأعلى منزلةوتبعثرت أخلاقنا حتى غدت كالمزبلةالساهرات عيوننا لم تكتشف ما المشكلةعقولنا تائهة وفعلنا ما أعجلهمبرمجون على الضياع كل يراقب أجلهتتفجر الأحزان في أيامنا .. كقنبلةوفي لحظة انسد الأفق والوعي الأسيان تذكرت الماضي القديم لعلك تجد فيه الحل السحري لهذه المعضلة:قالت وقد سارت بعيدا في خطى مهرولةأنتم بلاد حكمة.. آبارها معطلةواقعكم حزن، وماضيكم يدين المرحلةهل آن للماضي أن يبعث.. ويرفع مشعلهلابد من تغيير خط السير، أو تغيير حل المسألةربما كانت هذه الخاطرة الشعرية أصدق تعبير عن مكنونات ذاتك المثقلة بالأحزان والآلام، أكثر بكثير من المقال الآنف، لكنك وأنت تبحث عن أفق للخروج من المآزق لم تجد بارقة أمل تلوح في المستقبل، ولم تلمح بشارة واعدة يحملها الحاضر، فاستدرت بوجهك إلى الخلف ونظرت إلى الماضي السحيق لعلك تجد فيه ما يشفي الغليل، معولا في ذلك على الحديث الشريف:(الإيمان يمان والحكمة يمانية)، وهي عبارة لم يتم التأكد من صحتها العلمية بأدلة وبرهان من التاريخ والآثار، فعن ماذا تبحث يا دكتور في ظلام التاريخ الدامس، والتاريخ مثل النهر لا يستحم بمياهه مرتين!؟أليس الأجدر بنا أن نفهم حقيقة وضعنا كما هو بالفعل ونتقبله بما فيه، لكي نتدبر أمرنا فيه بلا وهم ولا سحر ولا تهوين ولا تهويل، فإذا تقبلنا ذاتنا كما نحن حينئذ فقط نستطيع أن نتقدم إلى الأمام، أما لو أمعنا في مغالطة وطننا نبيع الأوهام ونسوق الأحلام فلن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.وتقبل مني فائق التقدير والاحترام، والله من وراء القصد.