مقاربة نقدية في مقال : “إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة”
سادسـا : في مديح (المجلس الوطني) وإدانة الجنوبيين المنسحبين:لقد كانت صادمة تلك الفقرة التي تمت فيها الإشارة العابرة إلى (القضية الجنوبية) فيما أسميته بالعامل الخامس إذ كتبت “.... في هذه الأثناء أخذت تجليات الموروث التفكيكي الذي خلفه هذا النظام تبرز على ذلك النحو الذي هرعت فيه بعض الجماعات للبحث عن حل لبعض المشكلات بصورة مستقلة عن قضية التغيير (الكبرى) - الهلالان من عندي - لنسمع تحليلات ذات طابع غرائبي مثل أن انتصار الثورة سيضر بالقضية الجنوبية مع ما رتبته هذه النزعة الغرائبية من انشقاق خطير في التلاحم الوطني الذي خلفته الثورة متجاوزة الفواصل التي أنتجتها بسياسات النظام الخاطئة مما أعاد لبقايا النظام قدرا من توازنه الداخلي”.وفي مكان آخر جاء (لقد كانت فكرة المجلس الوطني، مثلا كمشروع تنتظم فيه كافة القوى السياسية... تجسيدا عمليـا لمقاومة ومحاصرة انهيار الدولة.... لكن المشروع التفكيكي كان أقوى عند البعض من هذه القوى التي عملت بكل قوة على تأجيج منطق الحرب باعتبارها الطريق المفضي إلى هذه النهاية بل وانتظرت ذلك وراهنت عليه للأسف.... ولم تجد غير لغة التخوين لتبدو كمن خسر آخر أحصنة الرهان...). غير خاف على أحد من يقصد الدكتور ياسين بقوى (التفكيك) ومشروع التفكيك (الغرائبية) التي راهنت على الحرب لتمرير مشروعها لكنني قبل أن استمر في القراءة أود التوقف عند بعض المصطلحات والكلمات التي وردت هنا، وهي مصطلح (التفكيك) (الغرائبية) و(القضية الجنوبية).لا أعلم هل الدكتور ياسين أخذ مصطلح (التفكيك) من الفيلسوف الفرنسي الجزائري المعاصر جاك دريدا، وهو من يعود إليه فضل صياغته بشكله المفهومي والمنهجي، منذ ستينيات القرن العشرين الماضي، واشتهر بتأسيس اتجاه فلسفي باسم التفكيكية وله عدد من الكتب منها (الكتابة والاختلاف) و(الجنولوجيا أو الكتابة) وغيرهما.ورغم محاولته المستميتة في شرح وتفسير وتعريف المفهوم؛ إلا أنـه مازال مثار جدل واختلاف واسع بين الفلاسفة والنقاد، والتفكيك عند دريدا هو مفهوم منهجي أكثر منه نظري، أي أداة منهجية تخدم وظيفة تفسيرية، بمعنى تفكيك جهاز ما أو آلة ما إلى عناصرها الأولية التي تتكون وتتركب منها، مثل أن تقوم بتفكيك ماكنة السيارة وتعيد تركيبها، حتى تكتشفها في حقيقتها وبنيتها، وهو بذلك مفهوم نقدي في قراءة النصوص وتفكيكها وسبر أغوارها والكشف عن عناصرها الأساسية، لكن ياسين هنا يستخدمه للدلالة على شيء آخر ومختلف كليـا بمعنى تفكيك (البلاد) أو (الدولة) أو “الوطن” أو الإجماع الوطني. وهو بذلك يستخدمه بدلا من مصطلح سابق أطلقه هو أصحاب (المشاريع الصغيرة) و(المشاريع الكبيرة) جاء ذلك بعد انطلاق ثورة المقاومة الجنوبية السلمية في عدن 7 / 7 / 2007م، وفي سياق رؤية وموقف د . ياسين منها وحكمه عليها، وهي الكلمة التي رددها (صالح) في وصف قوى الحراك الجنوبي الداعية إلى فك الارتباط والتحرير والاستقلال وبين المنافحين عن “الوحدة” أو الاتحاد أو الفيدرالية والحكم المحلي واسع الصلاحيات، وهذا أمر مفهوم حينما يأتي من الخصوم، أما حينما يأتي من صاحب الشأن فلم يكن بالحسبان.أما كلمة (الغرائبية) التي ربما استوحاها ياسين من كتاب جديد من سلسلة مجلة “المعرفة” الكويتية، الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب، فهي تطلق لوصف وتمثيل ظواهر أدبية غريبة وغير مألوفة والمثل يقول : “ما غريب إلا الشيطان”، وهذا موقف أيديولوجي متعصب يقسم الناس إلى البديهي المألوف الحق، والغريب الشاذ الشيطان.وكلمة الغرائبية الجديدة أراد بها الانتقاص وتحقير الآراء الجنوبية التي أعربت وأعلنت خشيتها من محاولة تذويب (ثورة المقاومة الجنوبية السلمية) التي انطلقت في 7 / 7 / 2007م كحركة شعبية واسعة للتعبير عن القضية الجنوبية، من ساحة الحرية في خورمكسر، والتي قدمت طوال مسيرتها الكفاحية آلاف الشهداء والجرحى وعشرات الآلاف من ضحايا القمع والسجن والعنف المفرط، هذه الحركة أو ما يسمى بالحراك الجنوبي أعلن منذ بدء انطلاق انتفاضة التغيير في صنعاء في فبراير 2010م تأييده ومساندته لها، ولكن ليس على حساب قضيته النوعية والمختلفة مضمونـا وشكلا، وربما ظهرت هناك مخاوف حقيقية من أن («ثورة التغيير في صنعاء والشمال) لا تخدم القضية الجنوبية”، وهذا ما أثبتته النتائج والمواقف المتحصلة.والأخ ياسين وهو من الجنوب ويمثل الجنوب بحزبه وهويته وأهله وقواه الاجتماعية والسياسية يوجه ضربة قاصمة لذاته وحزبه وتاريخه وشعبه ودولته وقيمه ومبادئه، حينما راح يدين ويشمت من قوى الحراك الجنوبي ومخاوفها المبررة، في الرهان على مخاضات (حركة التغيير في صنعاء) أو قل (قضية التغيير الكبرى) كما يحب هو تضخيم الكلمات على حساب الوقائع والحقائق البسيطة.كما أنـه - للأسف الشديد - في دفاعه المستميت عن مجلس الشيخ حميد وتابعيه وقائد الفرقة، اتهم الجنوبيين المنسحبين وربما كان يقصد آخرين إن دلت القرينة على ذلك، لاسيما الذين برروا انسحابهم من (المجلس الوطني) ومنهم علي ناصر والعطاس وشفيع العبد وهدى العطاس وآخرون من رفاق دربه وزملائه وبلدياته، اتهمهم بالقوى التفكيكية الغرائبية ويشمت برهاناتهم الخاسرة في نشوب الحرب بين الأطراف المتنازعة في صنعاء وهي القوى (الوطنية بامتياز) والتي تحمل وتحمي المشاريع الكبيرة، في نظر السيد ياسين.ربما تعامل الأخ ياسين مع هذه القضية السياسية الخطيرة والحساسة بردة فعل عاطفية انفعالية ضد بعض من اتهموه (بالخيانة) خيانة الجنوب وأهله وثورته وقضيته الجنوبية بالموافقة على كل ما تريده قوى الهيمنة التقليدية في صنعاء من (قيادات الأحزاب المعارضة) الديكورية الضعيفة التي ليس لديها القدرة والإرادة والشجاعة للرفض أو الاعتذار، أمثال العزيز ياسين المحسوبين على الجنوب ( ... ) أو الشمال المقهور الذين كان يضع فيهم آخر رهان من رهاناته المخفقة والمخيبة على الدوام.لكن هل يجوز أن يعبر المرء عن نفاد صبره وقلة حيلته معتبرا ذلك برهانـا نظريـا أو موقفـا سياسيـا إستراتيجيـا؟!.في السياسة هناك فرق بين أن يجبر المرء على قبول الأمر الواقع ويوافق على أشياء لا تعبر عن قناعاته وبين أن ينذر ذاته لتبريرها والترويج لها وإدانة المخالفين لها حتى وإن كانوا من أقرب المقربين له والمراهنين عليه وعلى موقفه وذكائه، فما الذي أبقيت لك يا دكتور من قوة سياسية وأوراق تفاوضية تستند إليها وعليها في اللحظات الحرجة، ولا أعتقد أن ثمة شخصا آخر لديه من أسباب الرفض والاعتراض مثل ياسين.. وبأي ثمن يمكن لسياسي أن يتخلى عن كل عناصر قوته ومرتكزات موقفه وكأنـها لم تكن؟، بل ويدينها ويعارضها ويشمت بها وكأنـها الخصومة المحتملة حينما يضع نفسه في موقف الضد، ألم يكن بإمكانك غض الطرف عن انسحاب رفاقك القدامى من (المجلس الوطني) إن لم يكن بمقدورك تبريره والدفاع عنه كما فعل الشيخ حسين الأحمر؟، ألم يكن بإمكانك استشعار مخاوف أهلك ومواطنيك في الجنوب المنهوب من (الثورة التي سوف تقضي على قضيتهم)، ومن غيرك يمكن أن يفهمهم ويتحسس ويقدر مشاعرهم حتى وإن كانت أوهاما وهذيانات غرائبية كما تقول؟!، بل ذهبت إلى التشكيك بنواياهم ومراهناتهم على الحرب بين أطراف الصراع في صنعاء لتنفيذ مشروعهم التفكيكي.. ألست بذلك تؤكد التهمة الذريعة التي شنت الحرب تحت رايتها (حماية الوحدة من انفصال) وسحق عناصر الردة والانفصال، والأصل والفرع، وأنت هنا في موقف (وشهد شاهد من أهلهم)، لقد أكدت تأكيدا قاطعـا أن الجنوبيين هم أصحاب مشاريع تفكيكية وأن الشماليين هم أصحاب مشاريع وطنية جامعة، وأنت بذلك بررت حرب 1994م ومنحت شرعية للحروب القادمة من صنعاء التلاحم والانتظام الوطني ضد الجنوب التفكيكي الغرائبي الشيطاني.سابعـا: في إدانة المثقفين المخالفين:قبل أن نقف عند المثقفين نشير إلى تلك الفقرة الدالة “إن تفجير حرب الحصبة بالعدوان على آل الأحمر .. بما يحمله هذا العدوان من مغزى”، وهي الإشارة الوحيدة في المقال التي ذكر بها اسم طرف من أطراف اللعبة بـ (آل الأحمر) في حين أنـه طوال المقال لم يذكر أو يحدد أي قوة أو طرف بالاسم والمعنى، وهذا رمز بالغ الدلالة.ويخلص في بنده السابع للحديث عن المثقفين بقوله “بقاء قطاع واسع من المثقفين والنخب خارج (العملية الثورية)” ولا يقصد مثقفي (النظام) بل “أولئك الذين ظلوا ينتظرون تطور الأحداث ويفلسفون المسألة من زاوية مختلفة.. عمل بعض هؤلاء على (تصغير الأحزاب) والقوى السياسية والثورية بشكل عام بالمقارنة مع الرئيس.. حيث يتحول قطاع من نخب الفكر والثقافة إلى أدوات استبداد قمعية أشد خطورة من الجلادين أنفسهم..إلخ”.هكذا ينتهي ياسين بعد أن أسقط من حسابه وذاكرته واهتمامه النصف الإنساني جدا والمستهدف “الأول من كل الثورات أي (المرأة) أسقطها من الوجود والحضور في الواقع والخطاب، وكأنـها لم تكن بعد الذي كان، بل أغرقها في ظلام النسيان، بل وأدانها في سياق إدانته للأصوات (الغوغائية الصاخبة المتطرفة) وهي الكلمة التي وصفت بها جموع النساء الثائرات في (الثورة الفرنسية) من قبل كتاب (الثورة المضادة).وبعد أن يتهم ويدين ويسفه (قوى الثورة) الرافضة للمبادرة والحصانة، وبعد أن يدين ويسخر من قوى الحراك الجنوبي والمنسحبين من (المجلس الوطني) ومعظمهم من الجنوبيين والممثلين لقوى الثورة الصادقين أمثال أحمد سيف حاشد وعبدالباري طاهر وبعد أن يشطب (القضية الجنوبية) من شرعيتها وخصوصيتها النوعية، ومن ثم يشطب الجنوب كله.. ينتهي إلى إدانة جموع المثقفين الذين نظروا للمسألة (وأنا منهم) رغم أنني لا أحب التبجح بصفة المثقف ولكنني أقر بأنني ومازلت ممن (فلسفوا) المسألة من زاوية مختلفة، وممن يعتقدون بغياب (الأحزاب) واختفائها في مشهد صراع القوى التقليدية المهيمنة الراهن في صنعاء، الذي أخذ يتنضد أمام أبصار العالم وينضح بما فيه من فاعلين ومؤسسات وأفعال وممارسات وعلاقات وقيم وخطابات ورموز ليس من بينها ما يوحي أو يشير إلى جود وحضور وفاعلية أي ملمح يدل على أثر الرموز والأنماط والمؤسسات الحديثة، الدولة والجمهورية والنظام والقانون والديمقراطية (الوحدة) و(الأحزاب) والبرلمان.. وكل ما يتصل بالحداثة والتحديث الذي توهمناه منذ منتصف القرن الماضي، إننا وبعد كل حساب لم نجد فيما يتمخض الآن من نتائج وخلاصات وتجليات شديدة الحضور والظهور في المشهد الراهن هنا والآن لا نرى إلا السياسة التي هي هي سياسة كل الأزمان، وقد تعرت عن كل حلتها الزائفة وأقنعتها البراقة، نرى تلك القوى التقليدية البطريركية المهيمنة الراسخة الجذور في أعماق البنية الاجتماعية التاريخية منذ آلاف السنين، القبيلة والعسكر والإمام، وهي بكامل عريها وقوتها وعنفها. أما (الأحزاب) يا دكتور ياسين (أحزاب السلطة والمعارضة)، التي أغضبك (تصغيرها) وتقليل أهميتها، التي يفترض بها أن تكون مؤسسات حديثة فلا غرابة أن نجدها وقد انكمشت وتلاشت واختفت بـ (لا حول لها ولا قوة) كما تختفي بيوت الرمل من الشاطئ، إلا من كان منها مرتبطا عضويـا بالمؤسسة التقليدية السياسية الاجتماعية والأيديولوجية مثل (حزب الإصلاح)، والمؤتمر نسبيـا، وهذه مسألة يطول شرحها، وليست موضوعنا هنا، ومن الذي يتحدث عن (الاشتراكي) أو (الناصري) في وسط هذه الجلبة الكاشفة، فقط أردت أن أناقش العزيز ياسين في إدانته “للمثقفين المستقلين” أو حسب قوله “الذين ظلوا ... يفلسفون المسألة من (زاوية مختلفة)” انظر هنا كيف أن ياسين (المفكر الحداثي) لم يشر طوال مقاله لا بالتلميح ولا بالتصريح إلى القوى والنخب السياسية والاجتماعية التقليدية المتخلفة البالغة التأثير والفعل في إعاقة وعرقلة حركة المجتمع ونموه وتقدمه، والتي لا يساوي دور المثقفين المفترضين شيئـا يذكر إزاءها، في حين أنـه شدد النقد النكير على ما يعتقد أنـهم من المثقفين (المخالفين) بل اتهمهم بتحولهم إلى (أدوات استبداد قمعية أشد خطورة من الجلادين أنفسهم)!!وهذا ما يدعو كما يقول (إلى قراءة أوسع لسبر غورها اجتماعيـا وسياسيـا ونفسيـا)، يقصد (ظاهرة المثقفين المخالفين وموقفهم المتخاذل من الثورة المباركة، أي الثورة المبادرة الحصانة)!وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن (المثقفين المفترضين) لأنني مازلت أشك بوجود المجال الثقافي الذي يسمح بظهور وبنمو وازدهار دور ومكانة اجتماعية مقدرة ومعترف بها في مجتمعاتنا العربية للفاعلين الممتهنين للثقافة كوظيفة ذات سلطة فعلية أو رمزية، ومن ثم فإن إطلاق صفة (المثقفين) أو (المفكرين) في واقعنا التقليدي يفتقر إلى كثير من الصحة، فهو مجاز أكثر منه حال، فلا توجد شريحة متجانسة ومحددة وواضحة يمكن أن نطلق عليها هذا الاسم، إذا كنا نعرف عن ماذا نتحدث. في السياق ذاته، يغدو القول (بنخب الفكر والمفكرين) يادكتور ياسين في مجتمعنا من قبيل مغالطة الذات وشطحات الخيال المنفلت من الرشد والتعقل، فليس لدينا في بلاد (اليمن السعيد بجهله) شخص يحمل صفة المفكر الحقيقي غير المفكر الدكتور أبوبكر عبدالرحمن السقاف، هذا إذا كان للكلام معنى! ولم أكن أتمنى عليك وأنت الرجل الحصيف أن تقبل لنفسك التبجح الأجوف، الذي وسمتك به صحيفة “المصدر” في التقديم حينما وصفتك وعرفتك بـ “المفكر العميق” فما هكذا تكسب وتمنح الألقاب والأسماء والصفات، لاسيما وأنـك معروف بالتواضع والنزاهة وتعلم أن مرتبة المفكر العميق دونها خرط القتاد، ومكانة لا يبلغها إلا من نذروا حياتهم وكياناتهم للفكر والتفكير النقدي المنتج المثمر الخلاق، فليس من يكتب كتابا أو مقالا أو حتى عشرات الكتب والمقالات يحظى بهذه المكانة العالية، حيث (تلقي الأيائل قرونها).يقول جورج أورويل إن “اللغة المستخدمة في السياسة - وهذا يصدق، مع بعض التنويعات، على جميع الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية - ترمي إلى أن تكسو الأكاذيب ثوب الصدق فتجعل من الأوهام والأحلام حقائق جديرة بالاحترام وتظهر الأهواء الخالصة بمظهر الأفكار المجردة والكبيرة الأجسام الصلبة)، ولا أعتقد بأنـك ترضى لنفسك هوية لا تدعيها، لاسيما ونحن نعلم أنه لا يزال التساؤل قائمـا عن وجود المفكر أو المثقف أو المستقل أو من يمكن إطلاق هذه الصفة عليه، وأعني به من يعمل بذاته ولذاته أي - كما يقول إدوارد سعيد - إنـه شخص لا يتقيد بما يدين له من فضل إلى أي جهة أو مؤسسة أو إلى الأحزاب السياسية والهيئات المهيمنة. وفي توقعاتنا لما يكون عليه خطاب أو قول المثقف لنا: لا بد من الإجابة عن هذا السؤال هل الذي نقرؤه أو نسمعه رأي مستقل، أم يمثل حكومة من الحكومات أم قضية سياسية ذات تنظيم معين أم جماعة من جماعات الضغط واستمالة الآراء؟فالمثقف دائمـا ما يتاح له الاختيار التالي: (إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء، والأقل تمثيلا في المجتمع، ومن يعانون من النسيان والتجاهل، وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء والمهيمنين. ولا يشوه أداء المثقف أو المفكر في الحياة العامة شيء قدر ما يشوهه (التشذيب والتهذيب)... والانفعالات الوطنية والشعارات الجاهزة أو الردة والنكوص بعد حين مع تضخيم الذات). إدوارد سعيد المثقف والسلطة.. (ص 35).وعندما يصبح الـ “من أين يتكلم” هو السؤال التمهيدي نكون في غمرة السياسة، الكون الذي يكفي المكان فيه لفرض الهيمنة والترويج لها وتبريرها وتسويقها بالباطل قبل الحق.وهل يليق بمن يعتقد ذاته مفكرا أو مثقفا أن يتهم أشباهه (المخالفين) له في الموقف والرأي بأنـهم (أدوات الاستبداد) لمجرد كونهم تريثوا في إطلاق الحكم على الحديث الوليد (أو فلسفوا المسألة من زاوية مختلفة)؟! كما أنـك يا دكتور منحت فئة المثقفين دورا وسلطة حينما شبهتهم بـ (الإمام أحمد) واتهمتهم (بلعب دور التيئيس للجماهير من انتصار الثورة).وهل تعتقد أن (للمثقفين) مثل هذه السلطة المؤثرة القادرة على التأثير والتحكم بالجماهير؟ أم أن السلطة الرمزية هي للمهرجين والدوغمائيين ووعاظ السلاطين الذين يبسطون هيمنتهم الواسعة على كل المشهد (الثقافي والأيديولوجي والأدبي) في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ولم يتركوا هامشا ولو ضئيلا لما يفترض أنـه المثقفون الذين لم يسمح لهم السياسيون بالظهور والتعبير عن ذواتهم المغيبة، وحينما يكون السياسي هو المفكر والمثقف والأديب والواعظ والكاتب والخطيب والمصلح والإعلامي والثوري والحزبي والمعارض والحاكم والقاضي فما الذي يبقى للآخرين من حاجة ووظيفة وسلطة، ولا سلطة إلا بوظيفة ولا وظيفة إلا بحاجة، وأنت بهذا الخطاب القاطع المانع الواثق قد منحت ذاتك سلطة أبوية شاملة في توزيع (النخب المثقفة من المستقلين إلى شطرين (نحن) و(هم).أصحاب الثورة والمتشبكون بها المؤمنون بما تعتقد أنه الحق، والمخالفون لهذا الاعتقاد وهؤلاء الأخيرون هم الشياطين.أخي العزيز ياسين إن ظهورك في صورة المفكر والمثقف العمومي في الشأن العام في حين أنـك شخص يشتغل بالسياسة ويحتل موقع هرم طرف من أطرافها أميناً عاماً لحزب سياسي، شاهد وموقع على (الاتفاقية الخليجية)، هذا الوضع المزدوج هو الذي جعلك تتخبط في جملة من المتناقضات والمواقف المضطربة في هذا المقال (الإشكالي) الذي لم ندرك رأسه من رجليه، فإذا كنت تعتقد بأنـك قد تمثلت صورة المثقف والمفكر العميق، فأرنا فكرة واحدة مما أتيت به جديرة بالاعتبار الفكري، فكل ما كتبته هنا ليس بأكثر من دفاع وتبرير وترويج (للاتفاقية الخليجية) المصنوعة من قبل قوى الهيمنة المحلية والإقليمية والدولية، بزعامة إمبراطورية الشر الولايات المتحدة الأمريكية، والدول القوية، فهل من الجائز لمن يدعي صفة (المفكر) أن يصطف إلى جانب الأقوياء ضد الضعفاء مهما كانت الأسباب والظروف.فضلا عن أنـك لم تظهر أي نوع من التعاطف الأخلاقي أو الحس النقدي لتفهم مواقف وحساسيات المعترضين والمخالفين لك.