مقاربة نقدية في مقال : (إشكاليات من واقع ثورة الفرصة الأخيرة) للدكتور ياسين نعمان
جاء مفهوم (ثورة) متسقـا مع الفكرة التي تقول بأن مسار التاريخ بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تمامـا، قصة لم ترو سابقـا ولم تعرف قط على وشك أن تظهر.هذا الظهور الجديد الحديث للناس هو الذي حتم صياغة كلمة جديدة للتعبير عن التجربة الجديدة أو دفع إلى استخدام كلمة قديمة بعد شحنها بمعنى جديد كليـا، هذه الكلمة هي “ثورة” بعد شحنها بمعنى جديد.وأحيلك هنا إلى بعض المراجع التي قد تساعد في فهم (الفكرة والسياق) روجيس دوبريه، نقد العقل السياسي، حنة أرندت في الثورة، رينيه جيرار، العنف المقدس، تيد روبرت غير، لماذا يتمرد البشر؟وفي السياق ذاته تأتي عبارة (واقع ثورة الفرصة الأخيرة) لتزيد المشهد ضغثـا على أباله، إذ لا تكتفي بتأكيد الزعم بأن (ثورة وقعت) هنا في صنعاء القديمة، بل هي ثورة واحدة من سلسلة مستمرة من ثورات سابقة لم يتم اقتناص فرصها الكثيرة، وما يميز هذه الأخيرة أنـها تقدم (الفرصة الأخيرة)، التي يجب اقتناصها من قبل (القوى السياسية)، لكي لا تضيع، وهذا هو ما يعتقد الأخ ياسين بأنـه وآخرين قد أجادوا فعله، في ذهابهم إلى الرياض للتوقيع على (المبادرة الثورية) جدا، التي منحت (النظام الذي نادى الشباب بسقوطه) (حصانة) كاملة من أي سؤال أو نقد أو حساب أو عقاب!وكلمة (الفرصة الأخيرة) المستخدمة هنا في غير موقعها، قد رددها العزيز ياسين أكثر من مرة في مناسبات سابقة - على ما أذكر -.وفي سياق مواعظه الأخلاقية ومناشداته المتكررة لأصحاب الأمر والنهي والسلطة والسلطان، للخروج من “عنق الزجاجة”، وهو بذلك بدأ وكأنـه لا يفهم السياسة التي هي أولا وقبل كل شيء علاقات قوة وصراع وتنافس وقتال بين الناس، ليس فيها لا (مشاريع صغيرة ولا مشاريع كبيرة) و(لا فرصة سابقة ولا أخيرة)، بل هي لعبة قوى ومصالح ورغبات وأهداف وغايات بين جماعات وأطراف وقوى فاعلة ومحددة تتصارع على الدوام من أجل امتلاك الخيرات والمقدرات والفوز بما تستطيع من ممكنات وعناصر القوة والسلطة والنفوذ.ولما كنا نعرف أن سلطة الكلمات والخطابات لا تكمن في ذاتها بل تأتي من خارجها، من قوة المتكلم وقدرة صاحب الخطاب، فإن قول نعمان بـ (الفرصة الأخيرة) يبدو نافلا وهشـا؛ لأن صاحبه لا يمتلك القوة التي تجيزه وتحقيقه، ومعنى السلطة في منطق السياسة هو من (يقول ويفعل)، فإذا قال معلم لتلميذه المهمل أمنحك الفرصة الأخيرة لكان لقوله معنى، وإذا قال علي محسن الأحمر، أو حميد الأحمر، للدكتور ياسين مثلا أمنحك الفرصة الأخيرة لإثبات ولائك، لكان للكلام وزن، وهذا هو ما فهمه القطري من قول مندوب روسيا في الأمم المتحدة! ياسيد ياسين سعيد نعمان فعلى أي نحو من الأنحاء يمكن لنا فهم معنى (الفرصة الأخيرة) التي منحت فيها قوى الهيمنة التقليدية في المملكة العربية السعودية أرفع جائزة ممكنة غير مسبوقة لأسوأ وأفسد وأشر (نظام حكم) ، أي (الحصانة الثورية) اليمنية البرلمانية، من المساءلة والملاحقة عن الجرائم المرتكبة.لقد كان وضعك في ليلة التوقيع (على المبادرة) في ديوان الملك عبدالله، يثير الشفقة والحسرة، إذ ربما كنت الوحيد من بين شهود الزور الذين طلب منهم التوقيع، الغريب عما يدور، غريب غربة مركبة، غريب الذات والجسد، غريب المصلحة والهوية، غريب الوطن والأرض، وقد كنا نأمل فيك وحدك أن تعتذر عن التوقيع، وألا تخذل قيمك وتاريخك وذاكرتك وهويتك وأهلك وشعبك وضميرك وماضيك ومسقبلك بالتواطؤ المهين والمخزي حينما نهضت بخطى متثاقلة لتقابل ممثلة المؤتمر أمة الرزاق وزيرة الشؤون الاجتماعية للموافقة والتوقيع على هذه (...) . فما الذي يميزك الآن عن بن دغر الموقع باسم النظام، أي باسم صاحب سنحان الأحمر الباهت، وأنت توقع باسم صاحب عمران، حميد الأحمر الأصلي.كان يمكنك أن تحتفظ بموقف “مجبر أخاك لابطل” وتكتفي بصورة التجهم والسخط والتبرم التي ظهرت بها في مشهد التوقيع، التي جعلت كثيرين يتعاطفون معك حينذاك.وقد كان لصمتك وتجهمك بالغ الأثر، أما أن تنذر قلمك وفكرك وتاريخك لتسويق وتبرير هذه (المبادرة) التي ليس لك فيها “لا ناقة ولا جمل”، فهذا لعمرك وضع يعي قوة التمييز والحكم. كتب عبدالكريم الخيواني في مقال (عبدربه والنتيجة المستحيلة) : “أيـها الموقعون على المبادرة، يا دكتور ياسين وأنت الحصيف كيف يمررون كل هذا عليك وتكون غطاء لمثل هكذا تصرفات، وأنت مكان الشكوى من بداية الثورة، كنت ضامنـا للتغيير، فصرت ضامنـا للقوى التقليدية والمستبدين الجدد، يا دكتور حجم خيبتي بك وغيابك عما يحدث بقدر حبي واحترامي لك”.صحيفة “الأولى” العدد “353” الأحد (26 فبراير 2012م ( ص 5).وأنا هنا أقول كان بإمكانك الخلود إلى الصمت والاكتفاء بأضعف الإيمان، الرفض بالقلب، ولكنت حافظت على ما تبقى لك من ود واحترام، أما أن تطلع علينا عند الذي كان بهذا الخطاب الصادم والمحتفى به بشكل مبالغ عند (المصدر) وأصحابها، والمذيل (بكلمة للتاريخ) فهذا لم يكن بالحسبان يا دكتور ياسين سعيد نعمان، إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب في بعض الأحيان!ثالثـا : قراءة سريعة للخطاب (المقال) :استهل الخطاب بعنوان فرعي رقم (1) (الفكرة الثورية لا يجب أن تنتصر بالعنف)، وهذا تناقض صارخ مع العنوان الذي أكد “واقع ثورة الفرصة الأخيرة”.هل نحن بصدد “الفكرة الثورية، أم واقع ثورة” أليس هناك فرق شاسع بين الفكر والواقع، بين “واقع ثورة” و”فكرة ثورة” وهل يمكن تجريد الفكرة عن سياق تحققها وتجسدها في عالم الممارسة المتعينة المشخصة.ألسنا بإزاء تبسيط وتزييف وهروب من مواجهة الوقائع في منابعها وشروطها وأسبابها الحقيقية الواقعية إلى فلك الأفكار والهذيان الذي يتحدث عن كل شيء ولم يقل شيئـا يمكن الإمساك به والبناء عليه.وهذه الإستراتيجية الهروبية النكوصية المثالية الأخلاقية لا تليق بسياسي ومثقف يساري يفترض أنـه يستلهم المنهج الجدلي التاريخي الذي لا يحكم على الناس مما يقولونه أو يعتقدونه عن أنفسهم، بل وفقـا لما هم عليه في عالم الممارسة، وفقـا لأفعالهم وسلوكهم ووجودهم الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي يحدد وعيهم وأفكارهم.كما أن تعبير (لا يجب أن تنتصر الثورة بالعنف) هو مثالية أخلاقية مفرطة، لا تنتمي إلى حقل السياسة الذي ليس فيه (يجب) و(لا يجب) بل ممكن وغير ممكن!السياسة هي حقل ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون يا ياسين، وقانون السياسة أفعل ما بوسعي فعله لا ما أريد وأرغب فيه والطامة الكبرى كانت فيما استهل به هذا المقال بالحديث عن حرب (نظام علي صالح فيما يسمى الانتصار الذي حققه في حرب 1994م على الجنوب الذي كان بداية نهايته).ثم راح يتحدث عن الحروب التي تضخم الأشخاص على حساب “الفكرة” التي يحاربون من أجلها والتي تصغر وتتلاشى وخاصة “الأفكار الكبرى... ذات البعد الإنساني التي تتناقض من حيث مضمونها الأخلاقي مع الحروب”.وذهب إلى القول بأن الفكرة الإنسانية الكبرى “يمكن لها أن تتحقق بقوتها الذاتية في الإقناع والتغيير من داخلها”.وهنا لا بد لنا من التوقف بعمق، هل من الجائز الحديث عن (أفكار كبرى) و (أفكار صغرى)؟ وكيف يمكن قياس ذلك، وهل سمعتم عن فكرة تقاس بكبر أو صغر حجمها، هذا لم أسمع به أو أطلع عليه في حياتي، وأتمنى من الأخ ياسين أن يذكر مصادره الفكرية، أم أنـه بعد أن أطلق عبارته المسجوعة المشاريع الكبرى (الكبيرة) و(المشاريع الصغيرة) قد استهوته هذه الكلمات الفضفاضة الخاوية من المعنى والدلالة.وهنا يذكرني قول روجس دوبريه : “إن في مكنة الفرد أن يتصور من “المشاريع” ما شاء أن يتصور، حتى وإن كانت مشاريع قوانين، أما المجتمعات فلا تعرف سوى “تحولات” تتحكم بها في نهاية المطاف قوانين ليست تعبيرا عن إرادة الشعب، وإنما هي علاقة مستمرة بين عدة سلاسل من الظواهر) ينظر نقد العقل السياسي ص (33).لما كان مرور هذه الفقاعة الصابونية دون نقد أو تمحيص هو ما شجع د . ياسين على الحديث عن أفكار صغرى وكبرى، في حين أننا نعلم ونعرف أن قيمة وجدارة وقوة أي فكرة من الأفكار لا تقاس ولا تكون بمدى حجمها من حيث الكبر والصغر، بل بقوة وفاعلية وقدرة حاملها المادي من القوى الاجتماعية القادرة على تحويل هذه الفكرة أو تلك إلى مؤسسة أو ممارسة مادية مفيدة ونافعة ومنتجة وفاعلة ومثمرة في الحياة المباشرة، وما أصح القول بأنـه ليس في وسع فكرة ميتة، من خارج الحياة أن تنتج حتى فكرة موتها، وكل فكرة تنشئ ذاتها بإنشائها شبكة حواملها، وإذا كان من السذاجة الطفولية أن يعبر المرء عن حالة عجزه ونفاد صبره معتبرا ذلك برهانـا نظريـا؛ فإنـه من حقنا أن نتساءل مع العزيز ياسين عن (الفكرة التي تتحقق بقوتها الذاتية) اعطني فكرة واحدة كبرى أو صغرى تحققت بقوتها الذاتية، منذ هابيل وقابيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟؟! وهل تمتلك الفكرة في ذاتها ولذاتها (قوة ذاتية) في الداخل ومن الداخل، هذا رأي واعتقاد ساد ثم باد في الأزمنة البدائية، عهد ما قبل الكتابة، زمن السحر واللاهوت والأسطورة، وهو خاصة تميزت بها الثقافة الشفاهية التي تعتقد بأن الكلمات والأفكار تمتلك قوة سحرية ذاتية قادرة على الفعل والفعالية والتجسد، بل كان الاعتقاد بسحرية الكلمات المنطوقة لامتلاكها قوة صوتية حسية، أما الأفكار التي هي كائنات رمزية مفهومية بالغة التجريد فلا أعتقد أن ثمة من قد زعم أو قال “بقوتها الذاتية” قبل ياسين سعيد نعمان، وهذا ينجم باعتقادنا من استمرار تأثير الثقافة الشفاهية في المجتمعات التقليدية، التي لا تزال تخلط بين الكلمات والأشياء، بين الحقائق والأفكار، بين الدال والمدلول، بين المنطقي والتاريخي، بين السحر والعلم.وليست الفكرة تحديدا ذاتيـا، بل لها المادية الموضوعية لمسار تنظيمي (فالناس يفكرون من أقدامهم) ولأن الأخ ياسين المفكر “الأيديولوجي” يحاول إثبات ما يستحيل تحقيقه في عالم ما تحت فلك القمر، عالم الفعل وانفعال عالم الناس الأحياء الذين يسعون إلى تحقيق مصالحهم في التاريخ الذي يصنعونه بأنفسهم، ولكن ليس على هواهم بل في ظل ظروف معطاة وشروط مسبقة، حيث الأموات يتشبثون برقاب الأحياء وينبغي ربط زوال انتفاخ مختلف الخطب الثورية “اليسارية” بأنـها كانت حقـا ونهائيـا مجرد خطب، حتى لدى أشد الناس تمسكـا باستقامة الرأي، كانت الرمزية الإدراكية المنتفخة ضحية استعمال طوطي بدون عشيرة يقول دوبريه : (يمثل الإنسان الاشتراكي) بالنسبة إلى سابقيه المباشرين “إنسان الغاب” و”الإنسان العاقل” عيبـا خطيرا في التكوين، إنـها مشطور شطرين، ومن لا يفكر فيما يقوله لا يريد أن يعرف شيئـا ممن يقول ما يفكر فيه، وهو يجعل من هذه الإزدواجية الحميمة معقد فخره الذي ينتهي عنده وجداناه الخير والشرير بالاختلاط، ويضيف بعض الوقحين أن “الإنسان الاشتراكي” أصبح أحفورا مؤلمـا يسخر شرفه في سبيل أن يغدو بائسـا، في حين يكون عهد الماسوشية قد انقضى” ص 36.أوردت هذه الفقرة المستلة من كتاب نقد العقل السياسي للمفكر الماركسي الفرنسي روجيس دوبريه ليس بنية الانتقاص أو الشماتة ممن ينتمون (للحزب الاشتراكي) فأنا كنت واحدا منهم ولازلت أكن لهم كأشخاص بالغ الود والتقدير، مع أنني على قناعة بأنه ليس لدينا من (الاشتراكية) إلا اسمها بدون أدنى محتوى، ولكني هنا أرمي إلى نقد الأفكار والاعتقادات والأوهام التي نطلقها على عواهنها بدون حس نقدي أو حذر حدسي، والناس يسلكون وفقـا لما يعتقدون فإذا كانت معتقداتنا صحيحة فإن النتائج سوف تكون طيبة والعكس صحيح، وقد صدرت مئات الكتب النقدية الماركسية في هذا الشأن والدكتور ياسين وبعد هذا الزمن الطويل من الهزائم والاخفاقات والانكسارات والكوارث التي لحقت بنا بسبب الخرافات (والأوهام الكبرى) وبعد سقوطها المريع، لا زال مصرا على تسويق الأوهام وتبرير الخذلان، وترديد الكلمات ذاتها.إذ أنـه أراد في حديثه عن العلاقة بين (الفكرة الكبرى وتضخم ذات الزعيم بسبب الحرب)، القول إن (فكرة الوحدة لا علاقة لها بما حصل منذ عام 1990م حتى اليوم في الجنوب، دولة وشعباً وثقافة وهوية وقدرات، من جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، التي ارتكبتها قوى الهيمنة التقليدية الشمالية ضد دولة المؤسسات الجنوبية الحديثة، وتركتها بعد حرب 1994م، إثر بعد عين وخرائب أطلال، في حين أنـه لا زال يردد أقنوم (الوحدة) المهزومة.وفي تمييزه بين الحرب والزعيم والفكرة أراد القول بأن (فكرة الوحدة الكبرى) ذات البعد الإنساني، لا صلة لها بما تم في الجنوب والشمال، وهو قول طالما سمعته يتردد كثيرا من قبل عدد واسع من الأشخاص بوعي أو بدونه، وهو كلام لا يصمد للنقد السليم، إذ يستحيل فصل الفكرة عن سياق تحققها، مهما كانت عظمتها فكما يقول ميشل فوكو في علاقة المعرفة بالسلطة “لا شيء تحت الستار” كل ما يقال أو يفعل في لحظة ما هو كل ما أمكن رؤيته وخبرته وتجربته، و(الوحدة التي تمت في 22 مايو 1990م حتى اليوم هي التي تجسدت في عالم الممارسة وخبرناها بحواسنا وجلودنا ومن يحاول أن يفصل “الوحدة اليمنية” عن سلطتها وقوتها التي تحققت بها، هو من يحاول أن يتصور “ابتسامة بدون وجه” أو يتخيل الروح بدون جسم).غير أن الخطير بكلام ياسين هنا لا يقتصر على ذلك بل في قوله : “إن الذي انتصر في حرب 1994م هو شخص علي عبدالله صالح الذي هزم هو (الوحدة)، وهو بذلك كان أشد عنفـا وقسوة وظلمـا وجورا، من كل أشكال العنف الذي يعتقد أنـه يدينها، أنـه بهذه الكلمة الرهيبة التي ترى أن الحرب 1994م كانت هزيمة (للوحدة السلمية الطوعية) قد ارتكب عنفـا رمزيـا لا يقارن حينما أسقط من ذاكرته وخياله وضميره دولة شعب الجنوب الذي يقدر بخمسة ملايين من الأطفال والنساء والشيوخ وجميع فئات الشعب، الذين كانوا وحدهم لا غيرهم ضحايا (الوحدة والحرب والانتصار) هم لا غيرهم من هزموا ولا زالوا يرتعون تحت هذه الهزيمة الساحقة بفعل سياسات حزبهم الحكيمة!أما (الوحدة) التي تتباكى عليها، يا أخي، فليست بأكثر من مجرد راية حرب لا تمتلك قلبا أو عيونا أو ضميرا أو جسما يحس ولا يصح القول فيها (هزمت أو انتصرت)، وهذا استمرار لأسطورة تصوير التاريخ بالكائن الحي الذي يكتب ويعاقب ويرحم ويسير!!كما أن الذي انتصر في الحرب ليس علي صالح الزعيم بل القوى التقليدية في الشمال وأنصارها ومن السذاجة أو الزيف تبسيط ظاهرة (الحرب) وهي الظاهرة الأبرز في التاريخ بصراع بين أفكار وزعامات متضخمة وإفضاءات”، فالزعيم هو مظهر هامشي من مظاهر الحروب والانتصارات والهزائم، إن الأمر المهم هو تلك القوى والأسباب والحوامل المادية التي جعلت الحرب ممكنة والزعيم ممكن و(الحرب هي سياسة بوسائل أخرى) كما يقول الألماني فون كلوزفتز في كتابه (فن الحرب).كما أن تعميم الأحكام الكلية بشأن الحرب والذوات والأفكار (على الأفراد والدول والحركات الشعبية والثورات والعمليات الاجتماعية المصاحبة) هو تعميم جائر، حسب (بوبرت غير في كتابه (لماذا يتمرد البشر)، فضلا عن كونه خاطئاً وزائفاً ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، وهذا ما أوقعه في تناقض واضطراب، فهو إذ قرر الزعم بأن الثورة (لا يجب أن تكون عنيفة) يعود ليزعم (بأن ما يعد كارثيـا هنا هو أن المزاج الثوري بطبيعته يعج بعناصر العنف)!كما أن الإدانة الأخلاقية بل الصوفية للعنف والحرب هو تعبير عن رغبة وحلم وأمل ورجاء بتاريخ بلا حروب وثورات بلا عنف وتغيير بلا ثمن، وفردوس بل عمل وإنسان بلا عدوان ولا غريزة ولا فطرة ولا أنانية وهو بذلك رغب بتغير القوانين الطبيعية والتاريخية وسنن الوجود الإنساني التي يعد العنف والعدوان والتدافع والقتال من خصائصها الجوهرية.قال تعالى : “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” وأين أنت من عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي ومقدمته، وبدلا من أن تفسر الأسباب العميقة لما آلت إليه الأحوال وتشير بدون مواربة أو مجاز أو أقنعة إلى الوقائع والأشخاص والقوى والأطراف بأسمائهم وهوياتهم الحقيقية. والمعطيات التاريخية التي أفضت إلى الإخفاق والضياع وانتصار القوى التقليدية (القبيلة) كما أوضح الإنجليزي (بول دريش) في مقال (الأئمة والقبائل: كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) بشكل لم يشهد له التاريخ مثيل، رحت تتحدث عن (إشكاليات) وألغاز وتبرر العجز والخذلان، وتتبرم من صناعة الزعامات وتضخيم الذوات دون أن تفسر الأسباب، (ولم تؤد الشكوى الدائمة من (عيادة الأشخاص إلى اختفائها سياسيـا كما يقول دوبريه - لا عبر العالم بعامة ولا في حمى الاشتراكية بخاصة))ص (77)، وأنت يا صديقي حينما تشير تلميحـا إلى خطر بروز (الزعامات في الثورات) معتبرا ذلك أفدح المخاطر على الإطلاق، دون أن يخفى على أحد من تقصدهم ترتكب خطأ منهجياً يتمثل في تجاهل وإخفاء الأسباب الواقعية للظاهرة في مجتمع قبلي تقليدي تراتبي، لازال الشيخ فيه يمتلك قوة حاسمة، كما أنـك تحدثت عن الزعامات والأفكار، دون أن تحيل القارئ إلى مصادرك الفكرية ومراجعك العلمية، شأن “الثورات” التي فسرها ماركس وأماط اللثام عن ثيماتها المتخفية برؤية نقدية، والتي أطلت الحديث عنها وعن (فضاءاتها) وكأنها من المسلمات البديهية والحقائق المألوفة عندك، وعند قرائك والطريقة الوحيدة للإفلات من أسئلة مسوغة بشكل لا يمكن معه أن تتقبل أي جواب هي انحناء الرأس والندم، وهذا ما أوقعك في تناقضات صارخة، إذ تعلن في عنوانك الفرعي رقم “2” (الثورة اليمنية في طبعتها الجديدة).وأنت بذلك تقرر بدون حذر بأن هناك شيئـا اسمه (الثورة اليمنية) في عدد من الطبعات والنسخ الثورية، القديمة، لكنك سرعان ما تناقض ذاتك في فقرة لاحقة بقولك : “لا بد من الإشارة هنا إلى أن غياب وضعف التقاليد الثورية والأساليب المنظمة للنضال الثوري السلمي”.إن مثل هذه الافتراضات التي حاولت وضعها كمقدمات زائفة ثم رحت تستخلص منها نتائجك الوهمية هي أشبه بالهذيان الانفعالي الذي يصدر عن شخص يعيش في برجه العاجي، وهذا قول يشبه قول شخص يهذي في الصحراء قائلا: (هنا لا توجد روائح للزهور الطيبة والورود العطرية) هنا تغيب العصافير والفراشات النهرية!!فمن أين يمكن الحديث عن ضعف (التقاليد الثورية) في مجتمع أبوي ذكوري تقليدي عنيف ومسلح ولم يعرف أو يخبر الحداثة ومؤسساتها وقيمها ومثلها وفضاءاتها؟!وكيف يمكن استجلاب (أساليب النضال السلمي في بيئة حربية عنيفة عن ماذا تتحدث ياسيد ياسين، ففي مرة تتحدث عن (فكرة الثورة) وأخرى عن (واقع ثوري) وعن (عملية ثورية)، و(طبعات ثورية) و(نسخ ثوري) و(حالة ثورية) و(قوى ثورية) و(حماية الثورة).وفي الختام تعلن “إن انتصار هذه الثورة، أو بتعبير الكاتب المتميز مروان الغفوري “فكرتها” هي الفرصة الأخيرة التي تقدمها الحياة لبلد تعود أن يهدر الكثير من الفرص”.ربما كانت هذه الإحالة المرجعية الوحيدة في هذا المقال الطويل، إلى الكاتب المتميز (مروان الغفوري) الذي ألهم د . ياسين سعيد نعمان، المفكر السياسي اليساري الماركسي فكرته عن الثورة، وكأن ماركس لم يولد بعد، فكان الغفوري هو الملهم وهو صحفي بسيط وطيب مهووس بالإحالات واقتناص العبارات والنصوص من كل حدب وصوب، بدون أن يعرف له موقف أو اتجاه واضح ومعلوم مما يدور، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنـه لا يستحق المكانة التي منحه إياها الدكتور ياسين، مرجعـا فكريـا في (فكرة الثورة) فأنا من المعجبين بكتاباته الجميلة، لكني هنا أشير إلى أن هذه الإحالة اليتيمة في نهاية مقاله (إشكاليات) قد أعمتها بدلا من أن تكحلها بحيث أن من يقرأ المقال يصاب بخيبة أمل وإحباط، حينما ينتهي دون أن يعرف عن ماذا كان يتحدث ويفسر، هل عن الثورة أم فكرتها؟! والفرق بين الاثنين كالفرق بين السماء والأرض.يتبع ،،