المستشرق البريطاني إريك ماكرو ..
في كتابه (اليمن والغرب) الذي يؤرخ فيه المستشرق البريطاني إريك ماكرو لحقب من عام 1571م حتى عام 1962م صفحات تسجل لأحداث مرت على مدينة عدن لتصبح من المرجعيات التاريخية ـ الثقافية ومعالم الهوية الحضارية لهذه المدينة، حيث تكون الأحداث وأسبابها الموضوعية وعوامل وقوعها، ما يقدم للفكر أبعاد تلك الصراعات على هذه المدينة، وما لموقعها من أهمية في صناعة المراحل التي تتواكب مع تغير الثقافات والسياسات وحياة الناس الذين جعلوا من عدن هوية وانتماء وتاريخاً. يقول إريك ماكرو عن بريطانيا وأهمية عدن في السياسة الدولية : (لقد مضى على بريطانيا العظمى نحو من أربعين عاماً من التفكير ـ في القرن التاسع عشر ـ قبل أن تقرر الاستيلاء على عدن ومنذ سنة 1839م فصاعداً أصبحت اليمن شوكة في جنب الإدارة البريطانية في عدن وبالتدريج تم التوصل إلى شبه سلام مع رجال القبائل المحيطة بميناء عدن، حتى تم نوع من تحديد الحدود بين منطقة عدن وماخلفها ـ من ناحية ـ وبين اليمن من ناحية أخرى في السنوات الأولى من هذا القرن . وفي الخمسين سنة التاليةـ أو نحو ذلك استطاعت اليمن وعدن أن تتعايشا معا عبر سلسلة من المناوشا ت على الحدود والمتاعب التي جاءت نتيجة لاحتلال إيطاليا للحبشة.وخلال ذلك اصبحت عدن ـ التي كانت لمدة طويلة مجرد نقطة عسكرية من سلسلة نقاط عسكرية بريطانية في المحيط الهندي ـ اصبحت بالنسبة لبريطانيا قاعدة عسكرية، وميناء لتزويد السفن بالوقود في الدرجة الاولى من الاهمية.ومن هنا فإنه حتى حينما اصبحت التزامات بريطانيا الاستعمارية الاخرى، جزءاً من الماضي، استمرت بريطانيا تواجه اليمن وحكامه المتعاقبين في ثوبها القديم كقوة استعمارية وذلك حتى اواخر الستينات من هذا القرن ).ظلت عدن عبر تاريخها في الحقب الماضية دائرة تنافس دولي، وفي عام 1602م اسست شركة الهند الشرقية الهولندية، ولكنها لم ترسل اية سفينة الى جزيرة العرب الا في عام 1614م حينما سعى بيتر فان بروكا الى إقامة مركز تجاري في عدن.وكانت سفينة ناسو التي يقودها عادت الى المخا في يناير من عام 1616م بعد رحلة دامت 18 شهراً زار خلالها الشحر ومناطق اخرى وعقد اتفاقيات تجارية لصالح شركة الهند الشرقية الهولندية، ومن المخا ابحر في 7 يوليو وفي 22 اغسطس 1620م عاد الى عدن على السفينة (ايت واين فان) ثم رحل عبر البحر الى سقطرة وترك خلفه احد التجار الكبار وهو هير مان فان مع مساعدين في عدن من اجل التجارة.لم تكن حدود التجارة بعيدة عن حدود السياسة ومادامت عدن تقع في هذا الممر فهي لا تبتعد عن الهدف الاول والغاية الثانية، وعندما توسعت حركة القطع الحربية في البحر الأحمر وخليج عدن وعن تلك التحركات يقول إريك ما كرو ( أرسلت السفينة ديد الوس في عودة إلى رأس الرجاء الصالح لجلب المؤن على أن تلحق بالأسطول في عدن. واخيراً وصلت السفينتان ليوبادر واور ستيس إلى المخا في 14 ابريل سنة 1799م لتجدا أن السفينة سنتوريون بقيادة القبطان ج . س. رينر والالباتروس بقيادة القبطان و. وولر قد أبحرتا الى السويس وذلك بأمر من القائد العام لجزر الهند الشرقية.وفي أثناء ذلك حملت السفن فوكس وبرينسيس شارلوت وستر ومبولو، وبعض سفن النقل والزوارق الحربية، حملت المقدم ماري ومعه 200 من الأوروبيين من جنود الفرقة 84، و600 من الجنود المحليين إلى بريم. ونزل ماري إلى الجزيرة في 3 مايو سنة 1799م و أقام بها حامية مستديمة.ولكن حين وصل بلانكيت في 7 مايو وجد أن الحامية كانت رديئة الإعداد والمعدات وينقصها الماء، ولا تستطيع بما لديها من مدافع حماية مضيق باب المندب.وبناء على ذلك نقل ماري حاميته إلى عدن فوصل إليها في 1 سبتمبر ورحب به السلطان العبدلي احمد بن عبدالكريم الذي قدم أراضيه إلى البريطانيين.وصل بلانكيت إلى بومباي من البحر الأحمر في يناير سنة 1800م وحاول ان يقنع حكومة بومباي لتقبل عدن هدية وتقيم لها حامية هناك.وأشار إلى انه بما أن معظم عائدات الجزيرة من البن ومن حركة الحج تصرف في شراء الحبوب من مصر، فإن استيلاء بريطانيا على عدن سيجعلها تتحكم في الإمدادات الغذائية للنصف الغربي للجزيرة، ويسمح بتحويل تجارة بن المخا عن طريق عدن نفسها.بيد أن الحاكم العام للهند رفض هذه الفرصة العظيمة في فبراير سنة 1800م ، وابحرت قوة ماري إلى بومباي في مارس بعد أن مكثت في عدن خمسة أشهر وعاد بلانكيت ايضاً إلى البحر الأحمر في نفس الشهر ومعه ليو بارد، فورت، فوكس، التاتروس, وامبوينا).في عام 1837م قدم النقيب جميس ماكينزي من فرقة فرسان البنغال، كشفاً في تقرير رفعه الى وزارة الخارجية البريطانية بان محمد علي باشا كان يعد خطة يهدف من خلالها الى احتلال عدن، وكان ذلك بعد أن زار النقيب جيمس المخا وجدة والحديدة في طريق عودته الى بريطانيا من الهند.ومنذ عام 1834م هدف محمد على باشا الى دعم تواجده في اليمن وبحلول عام 1839م كان هناك ضغط ثنائي من قبل بريطانيا وتركيا لترحيل قوات محمد علي باشا عن تهامة، وقد شدد جيمس على اهمية عدن وضرورة الاستيلاء عليها بسرعة ليس لاحباط خطط والي مصر فقط، بل كذلك لفرض الحضور في عدن كمركز تجاري ومحطة لتزويد السفن البخارية الجديدة المسافرة مابين السويس والهند بالوقود وكان قد تم في عام 1828م تأسيس محطة لتزويد السفن بالوقود في المخا، وفي بداية عام 1829م كان الفحم ينقل بواسطة السفينة تيتيس الى جزيرة صيرة في عدن.كانت الصراعات الدولية على عدن وممراتها البحرية قد توسعت حسب تحركات تلك الدول في هذه المنطقة وعن هذا الجانب يقول الباحث اريك ماكرو : (في ديسمبر سنة 1856م وصلت سفينة امريكية الى عدن تحمل اخباراً مفادها ان سفينة فرنسية اسمها ناركيس، كانت في طريقها من زنجبار لاحتلال بريم باوامر محددة وكان المقيم البريطاني العميد كوفان قد تلقى الاوامر من لندن باحتلال تلك الجزيرة.وفي 11 يناير سنة 1857م حين كانت السفينة ماهي، على وشك مغادرة ميناء عدن مع حامية الاحتلال بقيادة الملازم م. ج. م ـ قريق والملازم بيلامور وصلت السفينة الفرنسية الى ميناء عدن فرفع العلم الانجليزي على جزيرة بريم في اليوم التالي واستقرت الحامية بها.وبعد ان أحبطت محاولتهم هذه وجه الفرنسيون جهودهم الى أماكن أخرى في البحر الأحمر، الا انه في سنة 1865م استطاع التاجر الفرنسي السيد روبيو شراء شيخ سعيد من احد الزعماء المحليين وأقام مركزاً تجارياً.وسرعات ما تعطل هذا المركز وترك نهائياً في سنة 1870م وعاد الامتياز إلى الحكومة الفرنسية التي حصلت على اذن من تركيا في عام 1869م لإقامة محطة للوقود هناك الا انه لم يتم العمل بمقتضى ذلك الامتياز نظراً للتدخل الانجليزي، ولم تقم قائمة للمشروع الفرنسي في انشاء محطتهم تلك.وهكذا ـ بينما ظل البريطانيون بعدن في حالة تحفز استمرت مدة اربعين عاماً، وذلك بسبب مخططات الفرنسيين في البحر الأحمر، قبل فتح قناة السويس وبعده ـ نجد أن تيقظ سلطات عدن ومقدرتها على اتخاذ الإجراءات المضادة قد حصرت الوجود الفرنسي بالبحر الاحمر في الساحل الصومالي على مسافة بعيدة من عدن واليمن).ظلت محاولات استعادة عدن بعد دخول بريطانيا إليها، فكانت عدة مواجهات من الداخل تجري بين القوات البريطانية وقبائل وأشخاص، فقد شن السيد اسماعيل وهو زعيم ديني ـ محلي هجوماً على عدن بتاريخ 17 اغسطس عام 1846م ولم يحقق أي تقدم وحاول مرة اخرى في تاريخ 26 اغسطس من العام نفسه غير انه تلقى ضربة قوية من البحر من قبل سفن حربية بريطانيا بقيادة الملازم هاميلتون حيث كانت راسبة بالقرب من خورمكسر.وفي عام 1805م تعرض طقم زورق تابع للسفينة اوكلاند عندما كان افراده ينزلون على الشاطئ الشمالي من خليج عدن، وقد قتل احدهم وجرح البعض، وفي فبراير من عام 1851م تم اغتيال ضابط التموين النقيب ميلن وجرح آخرون من بينهم كان الملازم ماكفيرسون وهو من الفرقة 78 الاسكو تلاندية عندما تعرضوا لهجوم من قبل جماعة من الوهط وهم في رحلة قنص.كذلك تعرض الملازم ويليسر وهو من الفرقة نفسها لهجوم من قبل شخص غير انه تمكن من قتل مهاجمه وفي شهر يوليو تحطمت سفينة كوميرس بالقرب من عدن كما قام بعض الافراد من قبيلة العبدلي بقتل وكيل ربان السفينة واحد بحارتها، وقد تم القبض على المحرض على تلك العملية ونفذ فيه حكم الإعدام بأمر من السلطان العبدلي، الذي جهد كي تظل علاقاته مع سلطات عدن البريطانية بشكل ودي.في نهاية عام 1857م أ وقفت حكومة عدن البريطانية ماتدفعه من مال للسلطان العبدلي، بسبب مايقدم عليه رجاله من اعمال نهب للبضائع القادمة من بير احمد الى عدن، ومقابل ذلك اوقف السلطان الامدادات التي كانت تصل الى عدن كما اقدم على احتلال الشيخ عثمان لذلك قامت فرقة عسكرية بقيادة العميد كوجلان ومعه فرقة تابعة لسفينة حربية بريطانية بطرد جنود سلطان لحج من الشيخ عثمان وقاموا بنسف القلعة والقرية.اثناء قيام الحرب العالمية الاولى 1914 ـ 1918م لم تكن عدن بعيدة عن ذلك التصارع الدولي في البر والبحر، فقد ظلت هذه المدينة نقطة انطلاق ومراقبة لاحوال الحرب، بل كانت معرضة بين حين وآخر لأزمات تلك الحرب التي حددت ملامح لدور القوة البحرية البريطانية في تنفيذ مهامها على طول خطوط الملاحة البحرية في خليج عدن والبحر الاحمر وباب المندب والجزر التابعة لهذه المواقع، وحول هذا الجانب يقول اريك ماكرو (هجم الترك على لحج في سنة 1915م كان قوام قوتهم 2000 جندي من الترك و4000 جندي من اليمنيين كما انزلوا عشرة مدافع الى الميدان وكان في الفرقة الاخيرة مشتركة (3000) جندي من المجندين العرب بعضهم من الصبيحة وبعضهم من يافع وكل حواشب الحجرية.وفي مقابل ذلك كانت تقف حامية عدن الصغيرة التي تتكون من فرقة مشاة بريطانية وفرقة مشاة هندية وفرقة من سلاح الفرسان الهندي يبلغ عدد افرادها حوالي المائة ولذلك فأنه لم يكن من المستغرب ان يبدأ الاتراك مباشرة في تطويق عدن ويزحفوا الى اقصى الجنوب الغربي لمنطقة النفود البريطاني، ولكن العميد هـ . ف ـ كوكس الذي يراس اللواء 29 من سلاح المشاة الهنود وتحميه مدفعية البحرية الملكية نزل في الشيخ سعيد في التاسع من نوفمبر سنة 1914م وتمكن من دحر قوة تركية كبيرة كانت تهدد بريم.وكان لواؤه جزءاً من قوة كبيرة ففي 2 نوفمبر غادرت الهند قافلة كبيرة من السفن تحمل خمسة الوية من المشاة ولواء سلاح الفرسان الامبراطوري في طريقها الى مصر وفرنسا وكانت تحرسها السفينة ديوك اوف ادنبرة بقيادة هنري بلاكيت، والسفينة (وسويفتشور) والسفينة (نورت بروك) وهي سفينة مساعدة من سفن البحرية الملكية الهندية، وطلب الاذن لاستخدام بعض هذه القوات لزحزحة الاتراك من الشيخ سعيد، واعطي ذلك الاذن شريطة الا تتاخر القافلة اكثر من 24 ساعة.وفي 8 نوفمبر كانت القافلة تقترب من عدن. وأثناء ذلك ارسلت السفينة ديوك اوف ادنبرة على عجل بصحبتها ناقلات ثلاث منها السفينة سيتي اوف مانشيستر وفي فجر التاسع من نوفمبر قامت بقصف حصن التربة.وبما أنه لم يحدث رد فعل من الساحل فان بلاكيت قاد الناقلات وانزل الجنود، فتصدت له القوات المدافعة فجأة وبدون سابق انذار.وفي ظهر ذلك اليوم تم انزال نصف الجنود البريطانيين على الشاطئ وزحفوا نحو ماتبقى من الحصن لاجلاء الاتراك عنه ولما بدأت الهجمة الاخيرة على الحصن انسحب الاتراك، وفي المساء كانت التلال المحيطة به كلها قد سقطت في يد البريطانيين.وفي صباح اليوم التالي انزل بلاكيت فرقة الهدم التي قامت بدك الحصن وفي السادسة مساء عادت القوات جميعها الى السفن حيث واصلت من ثم رحلتها في البحر الاحمر، وترك العميد كوكس وراءه في عدن فرقة الرواد السيخ السيخ الاستطلاعية رقم 23، الذي استخدموا فيما بعد ليحلوا محل الحامية الصغيرة في بريم).في شهر يونيو من عام 1915م كانت حامية عدن تعاني من نقص في قواتها نظراً لارسال بعض منها الى جزر كمران وفرسان وغيرهما من جزر البحرالاحمر، وكان زحف تركي قد بدأ نحو عدة فقد كانت في المدينة الامكانيات المتوفرة فيها محلية ومحدودة، فرقة صغيرة متحركة عرفت باسم طابور عدن المتحرك وفي ذلك الوقت قام الأتراك باحتلال الشيخ سعيد مرة أخرى وفي 13 يونيو عام 1915م قصفوا بريم، غير ان الفرقة 23 من الرواد السيخ تصدت لهذا الهجوم التركي وقد لحقت بقوات الترك عدة خسائر، ومع ذلك نجح الانجليز في بريم ورأى العميد د. ل. ب ـ شو من المهم ارسال فرقة فرسان عدن الى لحج لدعم السلطان العبدلي، وفي تاريخ 3يوليو 1915 خرج طابور عدن المتحرك الذي نقص عدد جنوده الى 1000رجل لدعم تلك الفرقة.غير هذا ،يقدم لنا الباحث إريك ماكرو عدة معلومات مهمة متصلة بتاريخ عدن والمناطق الجنوبية واليمن في حقب من الزمن تجعل الكتاب من المراجع المهمة لمعرفة عدن ومكانتها في السياسة الدولية عبر عصور في الماضي وقراءة لما هو حاضر وما سوف يأتي في الغد.المرجعاليمن والغرب تأليف: اريك ماكروترجمة: الدكتور حسين بن عبدالله العمريدار الفكر دمشق ، الطبعة الثانية،1987م