ثالثـا :إن ما سكت عنه التقرير هو أكثر وأهم بكثير مما قاله. لقد سكت عن الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية والقيمية بين نظامين من العلاقات المختلفة جذريـا، نظام دولة (اشتراكي) التوجه، ونظام تقليدي بلا دولة، ومن ثم فإن معنى الحرب وانتصار الشمال التقليدي على الجنوب يختلف كليـا عن معناه لو أن النظامين متشابهان، ومن الخطأ الفادح النظر إلى الحرب ونتائجها بمعزل عن سياقها التاريخي الثقافي المشخص، وعدها مجرد «حرب أهلية قصيرة ودامية»، إن الناس في الجنوب والشمال مثلهم مثل غيرهم يعرفون الحرب والنزاعات المسلحة منذ أقدم العصور، بل وقد خبروا وشهدوا وخاضوا بأنفسهم تجارب عديدة للحروب الصغيرة والكبيرة، لكنهم لم يشهدوا أو يعرفوا مثيلا لمثل هذه (الجائحة التي وقعت عام 1994م)، وما نجم عنها من جراح غائرة وآثار كارثية يستحيل معالجتها بوصفات جاهزة وحلول سحرية سريعة المفعول كان على مجموعة الأزمات الدولية أن تبذل المزيد من الجهد في سبيل التعرف على الأسباب الحقيقية الظاهرة والمتخفية التي أنتجت الحرب، وأن تبحث في الأبعاد والآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية والأخلاقية... الخ التي أنتجتها هذه الحرب الجريمة، فلا يمكن حل الأزمة بمعزل عن فهمها ومعرفة أسبابها والكشف عن آثارها القريبة والبعيدة.رابعـا : تعاملت الدراسة في توصيفها للقضية الجنوبية والروايات والرؤى المختلفة بشأنها، وتحديد اللاعبين الأساسيين، المحليين والإقليميين والدوليين، وتحديد السيناريوهات المحتملة لحلها واستخلاص النتائج، من المشهد الراهن والمعطيات المتحصلة اليوم، وعبرت عن نفاد صبرها فيما أسمته بـ «البحث المضني عن صوت جنوبي موحد» (ص 12)، في إشارة إلى ما يعيشه الجنوب من تمزق وشتات واختلاف وعدم قدرته على تنظيم ذاته في إطار تنظيمي متجانس ومنسجم والتعبير عن ذاته بصوت واحد، وهي بذلك أرادت تصوير الأمر وكأنه وضع اعتيادي وحال طبيعي وقدر لازم للجنوبيين، وهي بذلك أغفلت بوعي أو بدونه الأسباب الحقيقية التي تكمن خلف هذا الوضع فإذا كانت «عاصمة الدولة الاتحادية» صنعاء لا تشير إلى ما يدل على الجنوب، ولا يوجد فيها شيء ذات قيمة واعتبار يرمز إلى «دولة الجنوب» التي توحدت ذات يوم مع الشمال أليس هذا بالسبب الكافي لفهم افضل للقضية الجنوبية ؟ إن هذا الوضع شاهد إضافي وحجة بالغة على مدى الجريمة التي ارتكبت بحق الجنوب. إن وضع الجنوبيين اليوم وما هم فيه من تمزق وشتات وضعف هو نتيجة مباشرة للكارثة التي حلت بهم، وهذا هو من بديهيات علم السياسة، القوة هي التي تشكل المجتمع وتعيد تشكيله، والقوى المنتصرة في عام 1994م هي التي أعادت تشكيل الجنوب والجنوبيين على هذا النحو الذي يرسخ عجزهم وعدم قدرتهم على التوحد، وإذا كانت المسألة هي مسألة وحدة (بين دولتين) فأين هو الجنوب إذن؟خامسـا : ربما كان هذا التقرير قد أنجز قبل أن تتضح معالم الحقيقة المتجسدة اليوم في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في صنعاء، المفترض أنـها «عاصمة الوحدة»، فقد انكشف للعالم أجمع بأن القوى المتصارعة في اليمن، القوى المهيمنة الفاعلة الأساسية القوية الأربع هي ذاتها القوى التقليدية بمؤسساتها المتوارثة منذ القدم، جميعها شمالية الحسب والنسب والأصل والتكوين وليس منها قوة أو مؤسسة جنوبية واحدة. صالح وعائلته، سنحاني من حاشد، وعلي محسن وفرقته، سنحاني من حاشد، وشيخهم من آل الأحمر، شيخ حاشد، والإمام الحوثي إمامهم من حاشد وبكيل، فأين هي القوى أو المؤسسات المماثلة التي تدل على شيء اسمه الجنوب، أو تدل على شيء اسمه «الوحدة» التي جهد التقرير للبحث عن حلول لها.وكيف يمكن للجنوبيين أن يتعرفوا على ذاتهم في هذه «الجمهورية اليمنية».فضلا عن كون شركاء الحرب ضد دولة الجنوب قد كشفوا عن حقيقة فعلهم بالجنوب صراحة، حيث أعلن بيان « الجيش المؤيد للثورة» بلسان قائد الفرقة علي محسن الأحمر، أن صالح «استعمر الجنوب منذ عام 1994م» - حد تعبيره، وأعلن صالح أن «الأحمر وحزبه الإصلاح وفرقته قد أفتوا بحلال الجنوب وأباحوا نهبه واغتنامه وتدميره».ورغم ذلك اتفق الجميع في الرياض على تقاسم السلطة دون أن يذكروا الجنوب، وكأنـه لم يكن.وهذا ما يجعلنا نطالب مجموعة الأزمات الدولية، بإعادة البحث والتقييم في الموضوع وفق الحقائق والمعطيات الجديدة.سادسـا : خلط التقرير بين شيئين لا يجوز الخلط بينهما (قضية اليمن الجنوبي) و(قضية الوحدة اليمنية)، وهذا هو سر الاضطراب والتناقض الذي حفل به التقرير، فرغم أن هدف التقرير المعلن في العنوان هو دراسة وبحث مشكلة الجنوب واقتراح حلول لها، إلا أنـه بدلا من تكريس الجهد في هذا المسار، راح يبحث في أزمة (الوحدة اليمنية) وكيفية معالجتها، وهذا هو ما يفسر الحضور الكثيف للغة الأيديولوجية في ثنايا التقرير، مثال على ذلك كلمات (الوحدة) و(الانفصال) و (الجمهورية) و(الدولة)، (وحدة الدولة القاسمية)، مستخدمها كأدوات منهجية في البحث، بينما هي كلمات ذات شحنات أيديولوجية بالغة وتم توظيفها من قبل القوى المهيمنة والمنتصر لأغراض سياسية وثقافية قذرة ولا أخلاقية في تدمير الجنوب وتبريره، بعد منحه هوية «الآخر» الشيطان الكافر المارق المتمرد المرتد المخرب الانفصالي الشاذ الفرع الهامشي العرضي ... الخ.مقابل الوحدوي الأصلي اليمني الأب، المؤمن الحق الشرعي السبئي القحطاني الأول .... الخ.وهذا هو معنى كلمات وتعليقات المبحوثين من الشمال، أمثال حميد الأحمر الذي قال: إن «الوحدة خط أحمر»، والذي قال إنـه سيعلن «الحرب ضد الجنوب في حالة فكر بالانفصال!».ولهذا جاءت السيناريوهات الأربعة الواردة في التقرير في سياق هذا المنحى؛ البحث عن حل الأزمة «الوحدة اليمنية» ولا غضاضة في ذلك، إذا ما كانت هي المقصودة، أما إذا كان المقصود هو (القضية الجنوبية) فلا بد من تركيز البحث على جميع أبعاد وأسباب وتعقيدات واحتمالات هذه القضية.والسؤال الأساسي هنا ليس ماذا يريد الجنوبيون؟ بل ماذا أصاب أهل الجنوب؟ ماذا حل بهم؟، من ماذا؟ ما هي أوجاعهم؟، من ماذا يشكون؟ وما حقيقة مزاعمهم؟ لماذا يكرهون «الوحدة» ولماذا يريدون الحرية؟.إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه التقرير يكمن - في نظرنا - في خطأ صياغة السؤال الأساسي للبحث، فإذا كان سؤال البحث هو «أزمة الوحدة اليمنية» فإن هذا التقرير هو الجواب الشافي عليه، وإذا كان سؤال البحث هو قضية شعب الجنوب، فهذا التقرير لم يكن موفقا في جوابه، ومن ثم فمن الضروري البحث عن جواب آخر بعد إعادة صياغة السؤال.. ووضع السؤال هو نصف الجواب.سابعـا : كان على معدي هذا التقرير توخي الحذر والدقة في تعاملهم مع «قضية اليمن الجنوبي»، كون هذه القضية تعني حقوقـا أساسية لملايين من البشر ربما مجمل سكان الجنوب ذكورا وإناثـا، وهي حقوق نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا يجوز التغاضي عنها لمقتضيات أيديولوجية أو توافقية سياسية، كما أن الأمانة العلمية والمسؤولية الأخلاقية والقيم المهنية التي يجب أن يتحلى بها الباحثون في أزمات ونزاعات بالغة الحساسية مثل هذه، تقتضي الصيانة والصرامة مهما كانت النتائج، وكما يقول كاربوبر «في البحث عن الحقيقة ليس المهم ألا أخالف بل المهم أكون على حق».لقد كان عشمنا بالباحثين من مجموعة الأزمات الدولية أن يدرسوا ملف القضية الجنوبية بتجرد وموضوعية وحيادية ويكشفوا عن الحقائق الصلبة والجرائم المرتكبة بحق الجنوب «باسم الوحدة» ويرصدوا بدقة مجمل الانتهاكات الجسيمة والأضرار البالغة التي لحقت بالجنوبيين والتي تعرضوا لها بعد حرب صيف 94 م ويضعوا العالم أجمع وأطراف النزاع على بينة من حقيقة ما تم وما ينبغي أن يتم لمعالجة المشكلة بما يرضي جميع الأطراف بقناعة تامة وفق المعايير الملزمة من الشرعية الدولية والأعراف والعادات المتعارفة.
|
آراء
المسكوت عنه في تقرير مجموع الأزمات الدولية عن القضية الجنوبية ( 2-2)
أخبار متعلقة