المستشرقة البريطانية فرايا ستارك
للمستشرقة البريطانية فرايا ستارك منزلة تاريخية وثقافية في أدبيات الرحلات الغربية التي جالت في العديد من دول الشرق الأوسط والجزيرة العربية.فرايا ستارك (1893 - 1993م) بما سطرته عن مواقع شاهدتها ومعالم عرفت فعل أحداثها، وبما دونته من حقائق في سجل التاريخ قدمت لنا معارف لمراحل من أزمنة غابت الكثير من ملامحها عن رؤية اليوم، فهي في أعمالها صورة لذلك المكان وذاكرة في الكلمات التي ترسم الشكل ليصل لنا صورة في كلمة.في خريف عام 1925م توجهت فرايا ستارك إلى لندن لتواصل دراسة اللغة العربية والتعرف على عدة مراجع متصلة بتاريخ العالم الإسلامي، وفي نوفمبر عام 1927م سافرت إلى بيروت بغرض تعلم المزيد من العربية، وفي مارس عام 1928م رحلت إلى دمشق، التي دمرت جيوش القوات الفرنسية جزءاً كبيراً منها من أجل القضاء على المقاومة العربية، ولكن وبفضل تمكنها من اللغة العربية، دخلت إلى مناطق الدروز بالرغم من أن السلطات الفرنسية قد منعت وصول الأجانب إلى ذلك المكان، وقد سجلت انطباعاتها عن تلك الأحداث بمقال صحفي بعد عودتها إلى أوروبا ونشر عام 1928م.وفي تلك الفترة قرأت عدداً من المراجع حول العراق وإيران، وقررت الرحيل إلى بغداد، وفي شهر نوفمبر من عام 1929م وصلت إلى بغداد وكانت تلك هي الزيارة الأولى لها، وفيها واصلت تعلم العربية ودراسة القرآن الكريم في إحدى مدارس البنات، وقامت بعدة رحلات إلى مواقع عديدة لآثار العراق، وفي شهر أبريل 1930م حملت أغراضها البحثية واتجهت بمفردها نحو إيران بهدف التعرف على قلاع (الحشاشين) الذين كان زعيمهم كامل الصباح، ونشروا الرعب في البلدان الإسلامية في القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر الميلادي. وفي نهاية شهر يونيو عام 1930م عادت إلى أوروبا، وفي لندن استقبلتها الجمعية الجغرافية الملكية وعبرت لها عن إعجابها بما عملت وأشادت بخرائطها وقدمت لها عدة توصيات إلى السلطات البريطانية في الشرق الأوسط.في عام 1931م عادت مرة أخرى إلى بغداد، ومنها إلى إيران، وفي شهر أكتوبر من العام نفسه عادت إلى بغداد للعمل في إحدى الصحف، كما نشرت عدة مقالات في الصحف البريطانية، وجمعت عدداً منها في كتابها الأول (حوارات بغدادية قصيرة) نشر عام 1933م. وعندما رحلت إلى إيطاليا في شهر مارس من العام نفسه تحصلت على جائزة من الجمعية الجغرافية الملكية وذلك على عملها في وضع الخرائط ورحلاتها إلى الشرق، ونظراً إلى هذه الجهود العلمية طلب منها تقديم عدة محاضرات في المراكز العلمية والثقافية، وأجرت معها هيئة الإذاعة البريطانية مقابلة حول رحلاتها، كما تقدمت بعض دور النشر بطلب إليها كي تقوم بطبع رحلاتها في كتاب حتى يصبح من المراجع المتصلة بتاريخ الشرق الأوسط.كانت عدن من المدن التي زارتها فرايا ستارك وكان أول وصول لها إلى هذه المدينة بتاريخ 19 ديسمبر من عام 1934م، وكان حاكم عدن البريطاني في تلك الفترة هو المستر - كولو نيل رايلي (1933 - 1937 - 1940م) وهي سنوات بداية الحرب العالمية الثانية التي بدأت في عام 1939م ونهايتها في عام 1945م، وعدن في حينها تعد من أهم المراكز الاقتصادية والقواعد العسكرية العالمية التابعة للنفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، وقد كتب الدكتور حسن فوزي النجار في كتابة “بريطانيا والجنوب العربي” عن أهمية عدن في تلك الحقبة قائلاً: (وقد لعبت عدن دوراً في الحرب العالمية الثانية كقاعدة للحلفاء في حملتهم على المستعمرات الإيطالية في شرق أفريقيا عام 1941م وانتقلت إليها حكومة الصومال البريطاني عندما اجتاحها الإيطاليون عام 1940م، وازدادت أهميتها للسياسة البريطانية في أعقاب الحرب عندما امتد أمل بريطانيا إلى بسط نفوذها التقليدي على البلاد العربية في ظل ما أسمته الوحدة العربية بعد خروج فرنسا من ساحل المشرق فظنت أنها قد انفردت بالنفوذ في العالم العربي دون شريك، خاصة وقد تركت لها أمريكا حرية العمل في الشرق الأوسط على اعتبار أنها أدرى به وأنه ميدان نفوذها التقليدي القديم).وعن حالها في عدن كتبت فرايا ستارك رسالة تقول فيها: (لقد نزلت في منزل جميل للغاية وسأقيم فيه مدة ثلاثة أسابيع. السيد بس في غاية اللطف؛ وهو من صنف تجار ألف ليلة وليلة. طول النهار لا يكف عن استلام البرقيات من الهند وأمريكا وأفريقيا وأوروبا. وسفنه تجوب دون انقطاع هذه البحار. وستأخذ في إحداها إلى المكلا. كما أن وكلاء البس موجودون في كل مكان؛ وقد أخبرني أنه سيوصيهم بالاهتمام بي في وادي حضرموت حيث يعيش كثير من أصدقائه المناوئين لسلطان المكلا. لهذا يبدو لي أن المحطة الثانية من رحلتي ستكون جميلة).كانت أول ترجمة تظهر بالعربية لبعض كتابات فرايا ستارك، في صحيفة فتاة الجزيرة الأسبوعية لصاحبها الأستاذ محمد علي لقمان، في سنتها الأولى ففي العدد (15) من الصحيفة الصادر في 7 أبريل 1940م جاء هذا الخبر في الصفحة السابعة وعنوانه، (العربية السعيدة - بقلم الآنسة فرايا ستارك). وقد جاء فيه: (نشرت جريدة التايمز اللندنية مقالات متسلسلة للمستشرقة الأدبية الآنسة فرايا ستارك المعروفة بمؤلفاتها عن البلاد العربية وقد شرحت الكاتبة طرفاً من السياسة البريطانية في بلاد العرب وبما أن جريدة التايمز احتفظت بحقوق النشر فقد طلبنا إذناً خاصاً في ترجمة هذه المقالات ليطلع عليها أبناء هذه البلاد ولعموم الفائدة سننشرها في الأعداد القادمة).[c1]العربية السعيدة بقلم الآنسة فرايا ستارك[/c]في العدد (16) من فتاة الجزيرة 14 أبريل 1940م نشر أول موضوع لهذه المستشرقة بالعربية في عدن، وقد جاء فيه: (بعد مقدمة قصيرة قالت الكاتبة: من الخير أن نتذكر كل هذه الأمور الشاذة فمن سوانا يا ترى يستطيع أن يدرك إزاء نور هذه الشمس المشرقة والعمل الجاري بطمأنينة ومهل، إننا نحن أيضاً في حرب فإن البضائع تغمر مرافئنا والحركة التجارية عظيمة في مينائنا والسفن المحايدة تصل مشحونة ببضائع وقد كتبت اسم الأمة التي تنتمي إليها بالألوان البارزة على جوانبها.وتصل حاملات الزيت والقوافل من كل جنس ونوع والسفن الشراعية ترسو في ميناء المعلا رشيقة لطيفة كالفراشات على متن بحر أخضر قريب الغور وقد علت سواريها الرقيقة وظهرت كالنقش على القماش المزركش وقد أصفر لتقادم العهد عليه تحت وهج الشمس. ثم يمشي الجنود يرتدون اللباس الخاكي وبحارة الأسطول باللباس الأبيض وقد زاد عددهم وصناديق التجار تمتلئ يوماً فيوماً من حاصل أجور النقل.[c1]الميدان في المساء[/c]إن قوة الإمبراطورية تجعلنا في مأمن ونجاة على أرجوحتها البحرية الهزازة ولكننا بالرغم من الراحة التي نلقاها بهذا الأمان ترانا نجالد للحصول على الأنباء لأن الحقيقة بعيدة في الشمال ومن واجبنا أن نجعل قلوب شعبنا مطمئنة في إقليم ناءٍ يبعث النشاط بواسطة الزمن والمسافة ويشارك انجلترا في شعورها، وشعور الإنجليز يجيئنا من النبرات العذبة في صوت الإذاعة التي تشق طريقها لقهر لعنة بابل القديمة ومذيعو هيئة الإذاعة البريطانية - كما يقول لنا أصحابنا هنا - لهم أصوات رائعة حلوة بكلتا اللغتين الإنجليزية والعربية.وإنه لمن دواعي السرور أن تجول هنا بين عذوبة المساء والمنازل المظلمة والقهوات في كل ركن تعمل مستنيرة بأضواء مستورة وقد عتمت أتربة السنين الفانوس الذي يظهر من خلاله مقعد بائع القات، ذلك المخدر الذي يصل من اليمن، والبائع نشيط في ساعات راحته. والقات شجيرة لا يمكن أن يمضغ إلا طرياً وهو نبات لطيف ولكنه ويا للأسف مخدر والأوراق اليانعة في غصونه هي أحسن ما فيه ويصل عادة في مرابط “حزم” على ظهور جمال تنهب أرصفة الشارع نهباً من الهضاب الشمالية ومن خلال أشعة الأنوار الصفراء يظهر جلباب البائع أبيض مبقعاً وهنا يكثر المجيء والذهاب وقد أصبحت الآن مهرجاناً شاده ضابط النشر العام بجهد متواصل، يجيء الضابط إلى مركز العمل بين هتافات وتصفيق كسفينة تترامى في عباب ثم يدخل مركز البوليس ويضيع بين مفاتيح الكهرباء. وقد امتلأ الميدان بجمع غفير ينتظر الأخبار فلا ترى إلا عمائم ملونة وطاقية الصومال وقد نسجوا عليها طيوراً صفراء وأسماكاً.وسدارات الفرس السوداء وعمائم الهنود المذهبية تلمع متناسبة وكواكب الزرقاء وعلى الأرض يجلس الناس في صفوف كأنما يحضرون تمثيلاً، وكانت تقرأ بعض سور من القرآن الكريم في شهر رمضان شهر الصيام قبل قراءة الأخبار ولكننا الآن نبدأ بموسيقى من الأغاني اليمنية الهادئة الواضحة على العود.وإن لها لعذوبة هذه النغمات الريفية التي ترافق العرب في أسفارهم والتي يغنونها عند ظهور الأوطان من وراء الأفق ويقضون بها أيام الاغتراب الطويل على متن البحار وفي كلاء الجبال ومروجها وساعات النهار الخالية السهلة.وإنها لمقدمة لطيفة هذه الأغاني للأخبار الأوروبية التي تباين هذه الروح الموسيقية تمام المباينة.[c1]لغة الرجل[/c]وتشرع هذه اللغة تنساب نبرة فنبرة. ولنا من حسن حظنا مذيع ذو صوت عذب إذ يلفظ كل مقطع بطريقة تمنحها معناها وقيمتها ويتذوقها العرب ويفهمونها لأنهم جميعاً يحبون لغتهم حباًَ جماً وهي حقاً لغة الرجولة، لغة موزونة دقيقة غنية رصينة).قضت فرايا ستارك في عدن فترة من الوقت وهي ثلاثة أسابيع، كانت فيها تحضر لرحلة حضرموت، إلى جانب تكريس ثلاث ساعات كل يوم في دراسة اللغة العربية ورفع مستواها فيها، وأجرت عدة مقابلات مع كل أوروبي زار حضرموت وكانت تهدف من هذا جمع أكبر قدر من المعارف المهمة عن هذه المنطقة، ومن الشخصيات البريطانية التي قابلتها الكولونيل ليك والجنرال هاميلتون وهارولد انجرامز وزوجته اللذان كانا قد عادا من حضرموت منذ وقت قريب.ومن عدن تكتب رسالة بتاريخ 23 ديسمبر 1934م إلى هيربوت يونج قائلة: (كل إنسان هنا زار حضرموت، ويقولون إن الناس هناك لطفاء، ومع ذلك لم ير أحد مدينتي - مدينة المعابد لكنهم يعتقدون أن الوصول إليها ممكن إذا كان لدى المرء كثير من الوقت واللباقة ويحسن معاملة الناس).في تاريخ 12 يناير عام 1935م تبحر على متن سفينة البس “الأمين” نحو ميناء المكلا، وتتوقف السفينة في ميناء قنا التاريخي نحو ثماني ساعات. وقد احتوى كتابها (البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية) فصلاً تتحدث فيه عن الحياة في المكلا في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.وفي 22 يناير من العام نفسه ترحل على ظهر حمار من المكلا نحو وادي حضرموت برفقة ثلاثة من البدو وحارس من عبيد السلطان القعيطي الذي نزلت ضيفة عليه لمدة أسبوع في دار الضيافة.تمضي في الجول نحو ستة أيام، ذلك المكان الذي يأخذ منها مساحة من الاهتمام ويوصف في كتابها السابق الذكر، بعدها تصل في تلك الرحلة إلى مصنعة آل باصرة وهي تقع في وادي دوعن، وفي مساء 27 يناير تكتب إلى أمها: (قادني سعيد إلى المصنعة قلعة الحاكم. وهي مبنى مربع الشكل وأكثر ارتفاعاً من بقية المنازل المجاورة التي تزاحم الناس من نوافذها ليشاهدونا، وفي أثناء وصولنا المصنعة أطلقت نيران البنادق وفتحت البوابة الخشبية المزينة بالمسامير، وبعد أن أنزل الحرس الثلاثة سلاسل المدخل الذي يشبه بوابات قلاع العصور الوسطى، دخلنا إلى الديوان وصافحنا الرجال الذين اصطفوا في ثلاثة من جدرانه المطلية بالجير الأبيض “النورة”. أما إلى الجانب الرابع فقد أسندت البنادق، وبعد أن شربت معهم القهوة، قادني الحاكم الشاب باصرة ذو الملامح المتناسقة عبر عدد من الردهات والأبواب الخشبية المزخرفة إلى الشفة التي أنزلوني فيها، وتحتوي غرفتي على ست نوافذ من الخشب المزخرف، كما زينت الجدران برفوف مليئة بالأواني).تظل المستشرقة البريطانية فرايا ستارك بما كتبته حول الشرق الأوسط وعبر رحلاتها المتعددة، ذاكرة لزمان ومكان هذه المنطقة، وتظل أعمالها من المرجعيات التاريخية لحقب عاصرت أحداثها سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فلا غرابة أن تحقق مؤلفاتها شهرة عالمية وتترجم إلى أكثر من لغة، وينظر إليها في مراكز الدراسات والبحوث والجامعات من منطلق المكانة العلمية التي تقدم للعقل زاداً معرفياً لا تسقط قيمته بتقادم المراحل، وتلك صفة المنزلة الخالدة التي بلغتها أعمال فرايا ستارك على مر حقب من التاريخ.المرجع:[/c]الدكتور مسعود عمشوش، حضرموت في كتابات فرايا ستارك، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2004م.