نجمي عبدالمجيد نصف قرن من دورة الزمان مر على رحيل الكاتب العالمي ارنست همنغواي الذي وجد منتحراً في منزله بتاريخ 2 يوليو 1961. هذا الكاتب الذي جاء إلى هذا العالم بتاريخ 21 يوليو 1899م وكان ظهوره في عالم الأدب مرحلة جديدة وتعبيراً عن مشاعر وأحداث عالم أخذت صوره تتشكل أبعادها مع تعدد أزمات وصراعات العالم حتى أطلق على جيله " عصر الجيل الضائع" جيل لعبت الحرب العالمية الأولى " 1914 - 1918" دوراً في خروجه من رؤية إلى رؤية ومن أفكار إلى أفكار وحدد نوعية العلاقة التي تربط الكاتب بهذا العالم. يقول عن شكل الصلة بين الأديب والحياة : ( بإمكان الكاتب أن يقم بصمة جميلة خلال حياته من خلال تبنيه قضية سياسية والعمل من اجل صالحها والإيمان بها فإذا انتصرت هذه القضية يصبح في وضعية ممتازة. بإمكان الكاتب أن يكون فاشستياً أو شيوعياً إذا كان لديه الاستعداد الكافي لذلك ويمكنه أن يصل إلى منصب سفير. يمكن أن يرى كتبه تنشر بإعداد تصل إلى المليون نسخة بواسطة الدعم الحكومي أو الحصول على مكافات يحلم بها الشبان ولكن كل ذلك لا يساعده في أن يكون روائياً إلا إذا وجد شيئاً جديداً لإضافته إلى المعرفة الإنسانية في ما يكتبه ) . لم تكن حدود أمريكا موطنه هي مساحة الحلم الذي يسعى يسعى إليه . كانت كل دول العالم عند ارنست همنغواي هو الإنسان وكانت الإنسانية هي الانتماء إلى ماهو أهم في الحياة، الضمير. لقد أدرك همنغواي أن الحرب لا تأتي من الحلم بل لحظات جنون تصيب نفسية الفرد و كذلك الأمم والزعامات الباحثة عن المجد. كانت الحرب لديه في البداية عبارة عن مغامرة وعندما دخل في محرقتها اكتشف أنها فاجعة. فكان لابد من البحث عن مجالات أخرى لعالم الإنسان والتحدي بعيداً عن جنون الحرب فوجد ذلك في العمل في مهنة الكتابة التي تجعله في كل مرة يجد نفسه أمام بدايات مغايرة لما عرفه في السابق. كانت الصحافة وعالمها الرحب أول الطرق التي دخل منها ارنست همنغواي إلى عالم الكلمة بعد أن عاد إلى وطنه جريحاً بتاريخ 21 يناير 1919م عمل في صحيفة كندية ونشر بها عدة مقالات حول مواضيع مختلفة وعمل بعد ذلك في أكثر من صحيفة ونشر قصة " القتلة" عام 1925م وكانت حياة الليل عالمه الذي عاشه وصور أحداثة في عدة قصص نشرها في تلك الفترة من بداية نشاطه الأدبي وعن تلك التجارب في دنيا الكتابة يقول : يجب أن ترى الشيء وأن تجربه وأن تشعر به وأن تشم رائحته. كنت في ذلك الوقت أحاول أن أترجم الأحداث الصغيرة التي لا يلاحظها الكثيرون والتي تثير فيك الأحاسيس قبل أن تعرف جوهر القصة). عام 1921م غادر أمريكا إلى أوروبا ولم تكن هذه القارة عنده إلا عملية محاولة للبحث عن عوالم مختلفة أعادت صياغتها أزمة إنسانها الذي احترق بنار الحرب وكانت باريس بداية المستقر بل بداية التنقل من عاصمة إلى أخرى في هذه المدينة عمل كمراسل أوروبي لصحيفته على أفضل ما يكون العمل وكان يبعث تقاريره بشكل متواصل حول مختلف القضايا والمواضيع وقد طلبت منه الصحيفة إرسال عدة تقارير حول المؤتمر الدولي الذي عقد في رابالو حول الاشتراكية في ايطاليا وفي عام 1922م سافر إلى المانيا وكتب مقالات حول الغابة السوداء وفي نهاية العام سافر إلى الشرق الأوسط لمعرفة ما يجرى في النزاع اليوناني - التركي وعاد بعد ذلك إلى المانيا عام 1923م لتغطية ما يحدث من تطور للوضع في منطقة الرور التي جرى عليها الصراع بين المانيا وفرنسا وبذلك أصبح همنغواي مراسلاً عالمياً وكانت الكتابة عنده مسألة أمانة وعمل تنطلق من التجربة التي تمر بحياة الكاتب غير انه قرر في عام 1924م الانفصال عن حقل الصحافة حتى يكون حراً في عمل الكتابة في دنيا الأدب وفي يوليو عام 1923م كان قد نشر كتاباً يضم عدة قصص فجلب بذلك اهتمام الأدباء الذين كانوا يجدون في أعماله أوليات لظهور عملاق في الأدب العالمي. عام 1926م نشر روايتين هما سيول الربيع ، والشمس تشرق ايضاً . وقد قال لأحد أصدقائه في 19 نوفمبر 1926م : ( إني أحب كثيراً هذه الأرض و أنظر إليها بإعجاب ولا أكن مثل هذا الحب أو الإعجاب لأفراد جيلي. أتشرق الشمس ايضاً ؟ لم يكن قولي هذا هجاء أو نقداً لاذعاً فارغاً أو قاسياً بل تعبيراً عن مأساة الهلاك التي تظل فيها البطلة الأرض باقية دائماً). لم تكن الحرب العالمية الأولى مجرد صورة من ضياع الأمم بفعل المراهنات السياسية الخاسرة التي دائماً ما تدفع الشعوب ثمنها. بقدر ما تتحول إلى أوجاع في النفس تظل على مدى أجيال مترسبة في عمق الوجدان والذاكرة عند الفرد ومن تلك التجربة قدم همنغواي للأدب العالمي روايته الخالد " وداعاً للسلاح " والتي قال عنها رئيس تحرير صحيفة نيويورك هرالد تريبيون : ( لقد تأكد للجميع أن همنغواي هو أعظم روائي أميركي معاصر). صدرت هذه الرواية في عام 1928م وقد حققت من النجاح ما لم تصل إليه رواية من روايات الحرب فقد بيع منها خلال أربعة أشهر أكثر من 80 ألف نسخة واستغرقت كتابتها مدة ستة أشهر فكانت بحق رسالة للضمير العالمي حول جرائم الحروب ومنا تتركه للفرد حتى لو حاول الهروب بعيداً عن جبهات القتال فالحرب لا تعرف غير لغة الموت والدمار أما المشاعر الإنسانية والقيم النبيلة فلا مكان لها في هذا الجنون. عام 1929م وخلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأمريكا فكر في كتابة رواية حول مباريات مصارعة الثيران وكان قد جمع المعلومات الأولية عن هذا الموضوع عندما زار اسبانيا صيف ذلك العام وفي يناير 1932م أكمل قصة " مات بعد الظهر " وهي تحكي عن مباريات مصارعة الثيران. بتاريخ 27 أكتوبر 1933م نشر مجموعة قصص عنوانها " الرابح لا يأخذ شيئاً " وفي العام نفسه سافر إلى أفريقيا في رحلة دامت أربعة أشهر مارس فيها صيد الحيوانات البرية قضى بعض الوقت في غابات مومباسا وبسب المرض الذي أصابه نقل في 16 يناير 1934م إلى نايروبي من هناك شاهد ثلوج كيليما نجارو ذلك الجبل الذي الهمه رواية تحمل اسمه وقد صدرت عام 1936م وعندما عاد إلى كاي وست عام 1935م كتب رواية " سهول أفريقيا الخضراء "عام 1934م مرً بحالة من اليأس بعد أن أدرك أن حرباً عالمية يتم الإعداد لها ونشر ثلاث قصص قصيرة حملت نفس العنوان " رحلة عبر العالم ".في 15 أكتوبر 1937م نشر رواية " نملك أم لا نملك " وفي العام نفسه نشر رواية " هاري مورغان " قبل أن يسافر إلى اسبانيا ويشارك في الحرب هناك وعن تلك الفترة التي مرت عليه يقول : ( إن الكاتب الذي لا يملك أي شعور تجاه العدالة أو تجاه الظلم من الأفضل له أن يتخصص بكتابة لا الئحة سجل شرف طلاب الجامعة المتفوقين لا أن يكتب روايات). بتاريخ 27 فبراير 1937م سافر إلى اسبانيا كمراسل حربي لإحدى الصحف ، وبعد شهر من وصوله بدأ تصوير فيلم " الأرض الاسبانية " حيث أخذت لقطات من ارض المعركة في مدريد وقد كتب سيناريو الفيلم بنفسه. بدأ في عام 1939م يكتب رواية في 21 اكتوبر 1940م وقد افتتح روايته بهذه الكلمات: ( ليس الرجل جزيرة لكي يتقوقع داخل حدود هذه الجزيرة انه جزء من قارة وجزء من كل . إن موت رجل لا يقلل شأني لأني منتم إلى الجنس البشري ولذلك لا أريد أن اعرف ابداً لمن تدق الأجراس أنها تدق من أجلك). إنها رواية الحرب الاسبانية التي صور فيها الدفاع عن الجمهورية اسبانيا وهي تسير نحو الموت بكل قوة وإرادة.عام 1940 سافر إلى الصين وشاهد المعارك التي تدور بين الصين واليابان وعاد بعد ذلك إلى كوبا وقرر العودة إلى ساحة الحرب في الكفاح ضد الفاشية عام 1942م عرض نداماته على السفير الأميركي في كوبا الذي ادخله في عمل الاستخبارات البحرية وقد وضع تحت تصرفه طراداً صغيراً كان يتحرك به في الشواطئ القريبة من كوبا باحثاً عن الغواصات الألمانية العالمة في تلك المياه. بعد ذلك تحول إلى مراسل حربي عمل مع القوات الجوية البريطانية وشارك في عدة عمليات هجومية جوية خطيرة وفي عام 1944م عمل كمراسل حربي لدى قيادة قوات الإنزال في أوروبا وكان مع أول دفعة من الجنود الأميركيين دخلت العاصمة باريس لتحريرها وقبل ذلك عمل مع المقاومة السرية الفرنسية وكان القائد والمفكر لها الذي يخطط لمقاومة عملياتها السرية. خلال عامي 1953م و 1954م سافر إلى بعض الدول اسبانيا حيث زار حلبات مصارعة الثيران ، وكذلك أفريقيا واصطاد الوحوش أثناء إحدى رحلاته إلى القارة السوداء بشهر يناير 1954م واجه الموت مرتين : الأولى خلال رحلة صيد والأخرى عندما سقطت الطائرة التي كانت تقله من نايروبي إلى أدغال كينيا. بتاريخ 25 أكتوبر 1954م أعلن عن منحه جائزة نوبل للآداب عن روايته الخالدة " الشيخ والبحر) والتي قيل عنها بأنها أعظم عمل أدبي قدم للثقافة العالمية وفي عام 1960م أنهى كتابة مؤلفة " عيد متنقل " وهو عبارة عن حكايات وذكريات عايشها في باريس تلك المدينة التي قال عنها في إحدى رسائله عام 1950م ( إذا كان قد أسعفك الحظ بأن تعيش في شبابك في باريس فهي إذن ستظل معك للبقية الباقية من حياتك أينما ذهبت ذلك أن باريس هي عيد متنقل). وكان قد بدأ في كتابة هذا المؤلف في كوبا صيف 1958م و واصل العمل به إلى عام 1959م وسافر إلى اسبانيا معه ثم عاد إلى كوبا في العام نفسه وأنجزه في ربيع 1960م ويصور هذا الكتاب حياته في باريس في الأعوام من 1921م إلى 1926م آخر عمل ظهر لهذا الأديب الخالد رواية " جنة عدن " بعد 25 سنة من موته وكان قد بدأ في كتابتها عام 1946م وكان يتركها من حين إلى آخر ليواصل العمل في كتابات صحفية وأدبية ولكنه غادر الحياة ولم يكمل هذا العمل الأدبي الذي ظل لسنوات ضمن أوراق ارنست همنغواي. لقد ترجم أعماله إلى العديد من لغات العالم ومنها العربية وبالرغم من مرور سنوات على صدروها ورحيل كاتبها يظل اسم ارنست همنغواي من الأسماء التي حفرت في ذاكرة الثقافة العالمية لها منزلة جعلته يقف إلى جانب عمالقة الإبداع الإنساني الذين كان العالم بالنسبة لهم ساحة تجارب ومعارف وأدركوا أن قيمة الحياة الكبرى من احترام الفرد وعدم تدمير ذاته أو سقوطها تحت مستوى التاريخ لقد حفلت أعماله بصور عديدة عن صراعات الإنسان وعذاباته وأدرك أن الهزيمة لا تعني النهاية ولكنها حالة من التراجع وما دام الإنسان يمتلك القدرة على التحدي فهو لن يقهر. [c1]المراجع [/c]1 - إعلام الفكر والأدب همنغواي تأليف : جورج مديك دار الراتب الجامعية - بيروت 1992م 2 - عيد متنقل ارنست همنغواي ترجمة : عطا عبدالوهاب المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1984م 3 - جنة عدن ارنست همنغواي دار الآداب بيروت 1987م
|
ثقافة
خمسون عاماً على رحيل عملاق الأدب العالمي ارنست همنغواي
أخبار متعلقة