ليـس ربـيعـا عـربـيـا بـــــــــــل سـايـكس ــ بـيـكو جـديـد ( 2-3)
نشرت صحيفة (الأهرام) المصرية حوارا مطولا مع المفكر العربي والعالمي الكبير محمد حسنين هيكل تناول بالقراءة والتحليل أبعاد وتفاصيل المشهد العربي الراهن .ونظرا لأهمية ما جاء في هذا الحوار الذي تداولته وسائل الإعلام العربية والعالمية ومراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وروسيا والصين واليابان والهند من خلال الترجمات الواسعة لهذا الحوار، يسر صحيفة ( 14 اكتوبر ) اعادة نشر هذا الحوار القيم تعميما للفائدة .[c1]أجرى الحوار : لبيب السباعي ، عبدالعظيم حماد ، عــبـــدالعـظـــــيم درويـــش ،أنورعبداللطيف ، عبدالله عبدالسلام ، علاء العطار ، محمد حربي[/c]كعادته دائما كان الأستاذ هيكل كريما في تشجيعنا على السؤال تلو السؤال و سخيا في الإجابة المبدعة والعميقة عن تلك الأسئلة. لم يرفض الأستاذ الرد على أي سؤال، بل حفزنا على أن نوسع دائرة أسئلتنا لتشمل المشهد المصري الراهن والوضع العربي ثم الدولي. ولأن الأستاذ هيكل قارئ موسوعي للأدب، والشعر والتاريخ، وعلوم الاجتماع، والسياسة، والاستراتيجية، فقد كانت الصور البلاغية والأمثال والحكم العربية والغربية تزين ردوده على أسئلتنا، إضافة إلى العودة للتاريخ، الذي يحب الأستاذ زيارته كثيرا خاصة الأحداث الكبرى فيه. وفي الجزء الثاني من الحوار يواصل الأستاذ إطلالته المتميزة على المشهد المصري الراهن والقوى الفاعلة ويرسم صورة لوطن أقام بناء عظيما، وهو الثورة ثم يدخل مرحلة سفر جديدة.. الأمور فيها غامضة والحقائق غائبة.. مرحلة تختلط فيها الضرورات والحقائق وتجري فيها معالجة القضايا تحت عناوين مختلفة عن موضوعها. ويستعيد الأستـاذ في الحوار صــورة السفينـة البريطانيــة تايتانيك العملاقة التي جرى بناؤها في بداية القرن الماضي ليقول: إن العملية الثورية المصرية في25 يناير كانت بناء عظيما يماثلها حينما جرى بناؤها لكنها تواجه خطر الاصطدام بجبال الجليد الغاطسة وسط الضباب الخفي.. وليس من حقنا أن نعيد تمثيل هذه المأساة. قوى الشباب لا تزال بخير.. والمجلس الأعلى لا يزال موضع ثقة.. وهو حارس المستقبل قبل أن يكون حارسا للشرعية. لا أحد يسأل عن شريك الوطن.. الأقباط❊ ماهي حقوقهم عند وضع الدستور ؟❊ كيف ترى طبيعة المرحلة الانتقالية الجارية.. هل تحضرنا لها كما ينبغي.. هل نملك حقائقها وشروطها.. والسؤال الأهم ما العمل الآن؟❊ ❊ صحيح المهم الآن: ما العمل؟!! الذي أعرفه وأفهمه أن أي طرف يريد أن يتحمل بأي مهمة، عليه قبل البدء فيها أن يتصور هذه المهمة في مقاصدها المطلوبة، أو في وسائل التهيئة لتنفيذها قبل أن يتحرك، لتكون حركته على بصيرة وهدي. وفي حدود فهمي فإننا الآن في مرحلة انتقال. ومرحلة الانتقال- فيما أظن- نوع من السفر من حاضر ضاق به الأطراف جميعا. وإن كان لكل طرف أسبابه في الضيق: جماهير الشعب لأنها لم تعد تحتمل أعباء الحياة، وقد أصبحت لا تحتمل. طلائع الشباب لأنها لم تعد تحتمل التخلف عن العصر. القوات المسلحة لأنها وهي تواجه مثلما سبق من أسباب الضيق الاجتماعي والعصري، مضافا إليه أن هذه القوات ممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم تكن ترضى لنفسها أن تحمي شرعية توريث يكرس حكم عائلة. بسبب هذا كله فإن الجميع تشاركوا في إرادة واحدة تطلب التغيير. أي أن الانتقال كان من مرحلة إلى مرحلة توافق التقى الجميع عليها في طلب مستقبل مختلف، والكل يريد أن يسافر إلى هذا المستقبل. وعندما تثور الأمم والشعوب على حاضرها، وتقرر الحياة مع مستقبل مختلف إذن فهذه رحلة إليه إلى هذا المستقبل لنقل انه سفر إلى التقدم!! وهنا تكاد مرحلة الانتقال السياسي في حياة الأمم والشعوب تكون مرحلة الإعداد للسفر، حتى في التجربة العادية في حياة أي إنسان. هناك أولا نية السفر، والتأكد من أنه ليست هناك قيود ولا عوائق تحول دونه، أي أن طالب السفر تتوافر لديه حرية وأهلية وهمة تحقيق ما يريد، وفي حياة الشعوب بعد حياة البشر فإن الفعل الأول في رحلة التغيير يكون كسر القيود وإزاحة العوائق لتحقيق حرية وأهلية وإرادة. المسافر العادي من مكان إلى مكان يحتاج إلى إجراءات تمهيدية لسلامة مطلبه: أولها: أن يعرف من أين يسافر، وإلى أين يقصد. كذلك السفر في المستقبل أي في التاريخ بداية معروفة إلى وجهة مقدرة. بالنسبة للمسافر العادي فإجراءات سفره معروفة: جواز سفر سليم تأشيرة دخول رسمية جاهزة عنده مطالب يريد تحقيقها حيث يقصد، يستوي في ذلك أن يكون السفر لعمل له ترتيبات، أو حتى إجازة لها تجهيزات، ثم بعد ذلك ضمان موارد تكفل: شراء تذكرة سفر، وملابس وأردية تناسب الطقس حيث المقصد، وتوفر حدا أدنى للمعيشة حتى يستطيع المسافر ضبط أمره مسائل كلها حيوية. بمعنى أنه بغير تحديد مقصد للسفر، فحرية الحركة ضياع. وبغير جواز سفر فإن النهاية إعادة المسافر من حيث جاء أو وهذا أسوأ وضعه في السجن وترحيله. وبدون تأشيرة دخول فإن المسافر متسلل غير شرعي، يقضي عمره إذا استطاع إخفاء أمره ملاحقا ومطاردا. وبغير موارد ولو عند الحد الأدنى إذن فهو ذاهب ليغسل أطباقا في مطعم، أو يتسول على ناصية. وهنا فإن حرية السفر، وتحديد مقصده، والحصول على ضرورات تنفيذه: جواز سفر، وتأشيرة دخول، وتذكرة على طائرة أو باخرة، ومعرفة بحدود ما لدى المسافر من الموارد حتى يستعد لما يبتغيه. وكل تلك ليست شكليات، ولكنها ضرورات بدونها يستحيل السفر والانتقال، على الأقل بطريقة طبيعية وشرعية. وذلك كله إذا كان المسافر فردا، والمقصد عاصمة أو حتى شاطئا على خريطة عالم مختلف!! وأما إذا كانت الرحلة في التاريخ، وإذا كان المسافر شعبا بأكمله، أو أمة بشعوبها فإن القضية أكبر، وإجراءات الانتقال شروطها أصعب ولابد من استيفائها، ثم إن لها توقيتات يتعين تدقيقها وتحديدها، كما أنه لا يصح القفز فوقها، وإلا جاء السفر إلى المستقبل عن طريق محتالين يحصلون من المسافر على (شقى العمر) كما يقال، ثم يرتبون له قوارب متهالكة، وبحارة غير مؤهلين، وتسللا غير مأمون في أجواء غير محسوبة، ثم يلقون به على شواطئ مهجورة، أو يسلمونه مباشرة لشرطة مكافحة الهجرة غير المشروعة حين الوصول، وهناك يتركونه لمصائره دون مسئولية عليهم!! وعليه فإن مرحلة الانتقال هي بذاتها مرحلة إجراءات سفر إلى المستقبل، ولابد أن تستوفي شروطها، كما أنه لا يجب الخلط بين النقل والانتقال، وبين الاثنين خلط له جذور عميقة بسبب الميراث الثقيل في التجربة الوظيفية المصرية. والمعنى أن عملية الانتقال ليست عملية نقل. مدير سابق مثلا تأكدت عدم صلاحيته، وجرى استبداله بمدير لاحق، ولابد للسابق أن يخرج من مكتبه فورا، لكي يجيء خلف له يباشر نفس الوظيفة. بالأمس كان هناك رجل اسمه مبارك، والآن عين بدله مدير آخر يحمل اسما جديدا. هذا هو النقل!! وأما الانتقال خصوصا حين يكون سفرا للمستقبل فإن له إجراءات أخرى، وهو لذلك مختلف عن النقل. ومن الضروري هنا والآن أن يكون لدينا في هذه النقطة وضوح لا يحتمل التباسا يحدد أن إجراءات السفر عملية تمهيدية وضرورية، وأما المهام المطلوب تحقيقها من السفر فهي الأصل والأساس، وإذا كانت الإجراءات التمهيدية والضرورية مما لا يمكن الاستغناء عنه فإنها لا يمكن أن تصبح هدفا في حد ذاتها، لأن الهدف هو المستقبل. ربما أكون أطلت عليكم في شرح ما أردت عرضه، لكني ألح عليه، وأريد لمعناه أن يصل لكم ويتأكد.❊ كيف يستعد المسافر إذن- وهو مصر في هذه الحالة- للانتقال للمستقبل؟❊ ❊ إذا أخذنا قياس الانتقال على هذا الأساس- سفر إلى المستقبل والتاريخ إذن فإن الارتجال في الإجراءات كارثة عرفناها في تجاربنا من قبل، وعرفتها شعوب غيرنا، ودفعنا ثمنها غاليا ودفعوا في زمن ليس ببعيد. وكذلك فإن أول ما يفعله المسافر العادي أن يحدد الموقع الذي يبدأ منه رحلته: أين هو بالضبط؟- فلا يستطيع مسافر من القاهرة إلى لندن مثلا أن يشتري تذكرة سفر من باريس إلى لندن، وإنما لابد أن يكون السفر من موقع هو فيه فعلا إلى موقع يقصده طلبا. فإذا كان السفر مرحلة انتقال سياسي إلى المستقبل- إذن فإن بدايته من القاهرة تستوجب من المسافر أن يكون عارفا بالضبط أنه في القاهرة، وأن يكون داريا بأحوالها وحتى حاسبا لتكاليفها.❊ كيف ترون إذن سبل تحويل هذا المفهوم العميق الذي يفرق بين فكرة النقل وفكرة الانتقال في الواقع العملي لمصر؟ ❊ ❊ لكم حق، ولهذا أترك الأمثلة والتشبيهات، وأتوجه إلى الواقع العملي في إجراءات مرحلة الانتقال، وإذا فعلت فسوف يتبدى أن أول الإجراءات الضرورية للسفر إلى المستقبل هو أن يكون المسافر على بينة من الموقع الذي يبدأ منه، أي من أحواله هو نفسه، خصوصا قدرته على الحركة والفعل والتصرف. ومباشرة فإنني أقول- دون تجاوز- أننا لا نعرف ما يكفي عن موضوعات أساسية، يستحيل المستقبل بدون معرفتها والاستعداد لتبعاتها. وأريد أن أعرض هذه الموضوعات على شكل تساؤلات: 1 - مثلا ما الذي نعرفه جميعا عن الحقائق الاستراتيجية التي تتحكم في مقدرة الحركة والفعل والتصرف في السياسة المصرية، وفي مقدمتها علاقاتنا بإسرائيل بعد حرب أكتوبر1973 ؟!! 2 - ما الذي نعرفه جميعا عن العلاقات المصرية وعن العلاقات مع بقية القوى الكبرى في هذا العالم، وأولاها الولايات المتحدة، ثم ما هي الظروف والملابسات المحيطة بهذه العلاقات، وما هي الآثار والتبعات؟!! 3 - ما الذي نعرفه جميعا عن العلاقات العربية- العربية، خصوصا مع دول بدا جليا أنها مهتمة بما يجري لـ (مبارك) أكثر من اهتمامها بما يجري في مصر، وفي أحسن الظنون فإنها تساوي ما بين الاثنين؟!! 4 - ما الذي نعرفه عن علاقاتنا مع الإقليم على امتداده، وعن تبعات ومواريث نتحملها في بقاع عديدة منه؟!! ولقد رأينا هذا الصباح نموذجا عمليا لما يترتب على غيبة المعرفة، ورأيناها في التصريح الذي أدلى به رئيس مجلس الوزراء الدكتور (عصام شرف) للتليفزيون التركي، حين قال ان معاهدة السلام مع إسرائيل ليست مقدسة، وأنا معه في أنها ليست مقدسة، لكن السؤال هو ما إذا كان القائل عارفا بالضبط أبعاد ما يقول، وجاهزا له. ومن قراءة لتصريحات رئيس مجلس الوزراء في هذا الموضوع، فقد أحسست بأنه لا يعرف حقائق الموضوع الذي يتكلم فيه، لا يعرف ماذا جرى بالتحديد في عملية السلام، ولم يقرأ ملفاتها، ولا اطلع على وثائقها، لكنه فيما بدا لي رجل أحس بضغط الرأي العام، وتكلم بما تكلم به للتليفزيون التركي. وهذه عقدة العقد. الحقائق غائبة، والناس تتكلم في غيابها بما يشعرون، أو بما يخطر لهم، وتجيء المسافة واسعة جدا بين الحقائق وبين الأقوال. وكان ظني دائما أن الحقائق ضرورية، وأكثر ما تكون ضرورية في مراحل الانتقال، لأن الحركة من حاضر إلى مستقبل لا تكون واثقة إلا إذا كانت عارفة، فهناك حقائق لا يمكن تجاوزها، وإذا لم تكن معروفة لأصحابها فسوف تظل غائرة في اللاوعي الوطني تناقضا مؤلما بين الإحساس بوجود شيء، وبين عدم القدرة على رؤيته والتعامل معه بما يقتضيه وبما توفره القدرة، ومثل ذلك موجود في الأمن القومي، وحتى في الأمن الاقتصادي والاجتماعي، بل في الأمن الإنساني.❊ التناقض الذي أشرتم إليه يحيلنا إلى تعقيدات في المشهد الراهن.. كيف نتعامل مع هذه التعقيدات؟❊ ❊ لا أحسبني أتجاوز في هذا الموضع إذا ذكرت أن أخطر وأيضا أدق ما سمعته في الفترة الأخيرة من كلام ورد على لسان الجنرال آموس يادلين(رئيس المخابرات العسكرية أمان الإسرائيلية السابق)، والذي قاله في جلسة سرية تسربت بعض وقائعها أمام لجنة الأمن في (الكنيست)، وورد في سياقه قوله: إننا فعلنا في مصر ما لو أراد المصريون إصلاحه لاحتاجوا إلى زمن طويل، على فرض أنهم يستطيعون تحمل تكاليف إصلاحه!!. ومن سوء الحظ أن هذا صحيح، ومن المشاكل المضافة إلى سوء الحظ أن هذا الذي فعلوه مما يجب التعرض له ولو بدرجة من المعرفة والفهم والحكمة وقوة الأعصاب في مرحلة الانتقال، بحيث يكون العلم تنبيها بالحقائق إلى عوائق، وتخفيفا لعبء هذه الحقائق على مواجهة ما هو ضروري، وفيه تصحيح ما وقع!! أي أنه لا يصح لأحد ولا يليق أن يقول ببساطة: اتركوا هذه المهمة لما بعد الانتقال، فليس لدينا وقت لها الآن. هذا ليس صحيحا. لابد على الأقل من لمحة معرفة قبل أن تنتقل المسئولية إلى طرف يتحملها، لأن هذا الطرف سوف يجد نفسه مثقلا بما لا يستطيع التصرف حياله، وعاجزا عن القيام بأي تغيير. وأسمح لنفسي بأن أقول وأنا أستشعر مسئولية القول وكرامته ان أمور هذا الوطن مقيدة بكثير من العقد وبأكثر مما يتصور الناس، وقد استحكمت القيود بأصعب مما يقدر عليه طرف واحد يقع عليه عبء الحقيقة، ويعجز عن التصرف فيه!! وأخشي أن أقول وإنما لا أريد أن أزعج أحدا ان أحوالنا الآن أشبه ما تكون بجبل الجليد، أكثره غاطس تحت الماء، وأقله ظاهر فوقها، وليس من حقنا أن نعيد تمثيل مأساة الباخرة (تيتانيك) التي اصطدمت وسط الضباب بالخفي غير الظاهر من الجبل الجليدي العائم تحت أمرة (أميرال) ألقيت عليه المسئولية وتحملها، وكان ثمنها حياته!! وإذا حدث الانتقال دون معرفة، فما الذي يحصل؟!! يحصل أن الطرف الذي تؤول إليه المسئولية سوف يأخذ زمانا حتى تبين له حقائقها، فإذا بانت، فسوف يكتشف في نفس الوقت أن فرصة إعلانها للناس ضاعت منه، وأنه أصبح أسيرها، لأنه يوما بعد يوم تعامل في إطارها، وتأقلم على واقعها وضاعت منه الفرصة. وكان فهمي دائما أن مراحل الانتقال هي مراحل معرفة الحقائق، كواحد من أهم إجراءات السفر إلى المستقبل. نتذكر أن واضعي الدستور الأمريكي وهو أهم الدساتير السارية في العالم، أعطوا لكل رئيس منتخب فترة انتقال قدرها ثلاثة أشهر، وهي دورية تتكرر في الحياة السياسية الأمريكية كل أربع سنوات، ولذلك منطق: أولا: منطق عملي، وهو أن يكون نواب وشيوخ الولايات البعيدة قد رتبوا مكاتبهم في ولاياتهم قبل السفر إلى الكونجرس الجديد في واشنطن. وثانيا: منطق سياسي، يتيح للرئيس الجديد فرصة درس حقائق الأوضاع، ليصبح في مقدوره أن يسافر منها إلى ما تصوره في برنامجه. هذا في الولايات المتحدة فترة انتقال3 أشهر كل4 سنوات، في بلد مفتوح، واستراتيجياته العليا والعامة مرسومة، وهو بلد مؤسسي قوى وغني، يحكمه أرقى دستور سياسي عرفه الناس حتى الآن!!❊ انتخاب رئيس أمريكي جديد هو طبقا لمنطقك عملية انتقال للسلطة وليس عملية نقل.. ماذا نتعلم من هذا؟❊ ❊ الرئيس الأمريكي ينتخب نصا في الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر، وأول اجتماع الكونجرس بعد انتخابات رئاسية جديدة تجيء في الأيام العشرة الأخيرة من يناير، أي أنها فترة انتقال ثلاثة أشهر، في انتقال من إدارة حزب إلى إدارة حزب آخر، ضمن سياق دستوري ثابت مؤسسي مستقر ومستمر. وفترة انتقال لتستطيع إدارة جديدة في بلد ديمقراطي أن تطلع وتستوعب حقائق ما تواجهه من خلال اجتماعات ومناقشات يجريها الرئيس الجديد من مقر بعيد عن البيت الأبيض، الذي يظل فيه شاغله، حتى يحدث التسليم والتسلم للسلطة. بذلك يتسني للإدارة الجديدة قبل أن تتسلم مهامها أن تكون على بينة من الدخائل والحقائق الخفية، حتى في مجتمع مفتوح، ثم يكون لرئيس هذه الإدارة الجديدة بعد ذلك أن يبدأ عهده بما يسمونه (تقرير عن حالة الاتحاد)، يلقيه أمام الكونجرس، ويعرض فيه لما يستطيع قوله فيما وجده مما كان قبل إدارته، ثم يعلن على الناس ما ينوي تغييره من خطط، وما ينوي استحداثه من سياسات. وهو لا يقول كل شيء بالطبع علنا، لأن لكل دولة أسرارها، لكن أركان حزبه وأعمدة إدارته وزعماء الأغلبية والأقلية في مجلس الكونجرس في أبسط تقدير سوف يكونون، وفي كل الأحوال على علم بما تتحمله، وعلى بينة بما سوف تواجهه الإدارة القادمة إلى الحكم. هذا في بلدان استقرت دساتيرها محددة سلطاتها مفتوحة تصرفاتها مدروسة قوانينها مؤكد تقدمها وتفوقها. أما في تصورات الانتقال في بلد مثل مصر، وبظروفه، وبالخفايا التي اكتنفت سياساته، خصوصا في مرحلة معينة اختلفت فيها هذه السياسات من نقيض إلى نقيض، بصرف النظر عن الخطأ والصواب، فإن الانتقال يراد له أن يكون على طريقة نقل الموظفين. مدير يقع الاستغناء عنه ليحل محله مدير آخر، وكأن المسألة تطبيق لوائح وملء استمارات. الانتقال للمستقبل ليس تعيينا جديدا في وظيفة معروفة، وإنما هو انتقال في مستقبل وفي تاريخ.❊ ما هو الخطأ الذي وقعنا فيه إذن؟❊ ❊ الخطأ الذي وقعنا فيه أننا تركنا الانتقال لطرف واحد من أطراف الفعل الثوري، وهو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولذلك فهو يبدو أمامنا: مفاجأ بما وجد وخطورته بأكثر مما تصور. مثقل بالأعباء بأكثر مما يحتمل. معرض للمسئوليات بأكثر مما هو مستعد. متحير بالطبيعة بسبب كل ما سبق. إلى جانب أنه محرج أمام شكوك لا داعي لها من رواسب عقد راسخة، من عصور سابقة لم يعد لها مبرر فيما استجد من حيوية مجتمع لم يعد سلبيا، ولا نائما في العسل( كما يقال). وأخيرا فإن هذا المجلس في مواجهة الشكوك المثارة في كل مكان يتعجل مرات فيما يقول ويعلن، كما أن الإلحاح عليه يزداد كل يوم مع أصوات كثيرة تتباين وتختلف نياتهم وراء الإلحاح. فيهم من يتصور الانتقال وظيفة، وفيهم من يتصوره سلطة، وفيهم من يحسبه فرصة، وكله ضمن أوهام كثيرة عن قضية وضرورات مرحلة الانتقال.باختصار كان تصوري من بعيد أننا في حاجة إلى فترة انتقال تستوفي شروطها لتحقيق سلامة المطلوب بعدها. وهذه المرحلة في الانتقال لها إجراءات، أهمها معرفة الحقائق. وليس من الضروري أن تكون معرفة الحقائق مستباحة، وإنما يكفي أن تكون معروفة لقيادات مدنية تضعها في فكرها، وهي تشارك في تقدير حسابات مستقبل أمة!! وهنا كان اقتراحي لمجلس لأمناء الدولة والدستور جنبا إلى جنب مع وجود القوات المسلحة يتكون من صفوة رجال ونساء هم أفضل ما يمكن أن يقدمه هذا الوطن من بشر لمسئولية قدر!! لا أعرف لماذا وفي معظم التجارب تجيء النتائج ناقصة عن تحقيق المرجو منها، ربما لأن طول الحرمان جعلنا باستمرار في حالة عجلة ولهفة تحاول أن تخطف ما تراه قريبا منها. أليس لافتا أن ثورة سنة1919 تلهت بالصراع الحزبي عن تحقيق هدفها الأساسي وهو تحقيق جلاء القوات البريطانية عن مصر؟!! أليس لافتا أن ثورة سنة1952 لم تبلغ واحدا من أهم أهدافها، وهو تحقيق الديمقراطية السياسية؟!! أليس لافتا أن معركة سنة1973 بدأت كأروع ما تكون المعارك، ثم إن النتائج السياسية لم تتوافق مع المقدمات؟!! مرات كثيرة لا نتمم عملا إلى غايته، هناك شيء ناقص دائما، هناك في معظم الأحيان نتائج تتأخر عن موعدها، نتائج تجيء ناقصة إلا ربع وإلا عشرة وإلا خمسة، من المهم أن نتذكر أننا هذه المرة لابد أن يكون هناك توافق بين الساعات والمسافات بين المهام والتوقيتات، ببساطة لأن الظرف لايحتمل!!❊ عقب شبه مقاطعة شبه جماعية سألناه.. إذن أنت تجدد اقتراحك بتشكيل مجلس أمناء الدولة والدستور الذي طرحته قبل الثورة؟❊ ❊ في كل الأحوال أنا لا ألح على شيء، ولكن أمامنا الآن سؤال اللحظة: إلى أين من هنا؟!!❊ لن نزيد على سؤالك.. إلى أين من هنا؟! ❊ ❊ أقول لكم بوضوح ما أتصوره الآن. أتصور عدة أمور: 1 - أتصور أن ضرورات الوطن تحتاج الآن إلى تفاهم سريع بين قوى الثورة، لأن هناك سوء فهم وقع ولابد أن يزول بين هذه القوى، فلايزال الشعب صامدا وصلبا وحاضرا، ولاتزال قوى الشباب بخير وإن تفرقت جماعاتها، ولايزال المجلس الأعلى للقوات المسلحة موضع ثقة، وهو حارس المستقبل قبل أن يكون حارس الشرعية. علاقة المجلس الأعلى بالشباب فيما أحسب ضرورية دون بديل كما أنه من الضروري أن تتغير مفردات الخطاب، فليس هناك على هذه الساحة الآن (أولاد)، وليس على الناحية الأخرى من هذه الساحة (عسكر)!! 2 - إننا الآن هذا اليوم وهذه اللحظة نحتاج إلى وقفة مع النفس لكي نقوم بما يمكن أن يسمى (تقدير موقف). 3 - أتصور أن الشعب الآن في حاجة إلى (تقدير موقف) يشرح له ولو على وجه التقريب أحوال وطنه كما ورثته قوى الثورة. 4 - ثم أتصور أننا جميعا في حاجة إلى (تقرير حالة) من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن الوزارة، يقول لنا ما تصرفوا به حيال ما وجدوه طوال مائتي يوم، وما هي العبر والدروس؟!! 5 - ثم أتصور أننا في حاجة بعد ذلك إلى حوار وطني مكثف، تحضره نخبة ممثلة لقوى الثورة، وقوى الوطن بعموم، لتجري فيه مناقشة جدية ومسئولة ومستنيرة، وقد تكون بعض جلسات الحوار مغلقة. 6 - وأخيرا أتصور بعد الحوار والتشاور وعلى أساس من الوضوح والثقة في حاجة إلى (حكمة) تضمن ألا تصطدم الباخرة (تايتانيك) المصرية بجبل الجليد العائم وسط موسم خماسين ساخن، وهو تناقض غريب في النشرة الجوية لمناخ ما أن يتحدث أحد عن جبل جليد مع موجة ساخنة في نفس السطر!!❊ البعض يطالب بجدول زمني جديد للمرحلة الانتقالية فيما ترد أصوات كثيرة.. لا مناص من الالتزام بالجدول الزمني الحالي.. كيف ترى أنت المعضلة؟❊ ❊ أعرف مقدما أن أصواتا كثيرة قد ترتفع قائلة بأن مثل هذا فات وقته، والآن لم يعد هناك غير الالتزام بجدول أعمال سبق إعلانه. وبصراحة موضوعي ليس موضوع مواقيت، وليس التفافا حول مواعيد منتظرة بلهفة، لكن حديثنا عن رحلة إلى المستقبل، وبين إجازة نهاية أسبوع في القناطر الخيرية، أو على شواطئ الإسكندرية. بمعنى أن واجبنا هو التصرف بما يناسب المهمة، فالمهمة تحدد مواقيتها، وليس المواقيت هي التي تحدد المهمة، وإذا كنا جاهزين اليوم فليكن الموعد اليوم، ولكن ما لا يصح هو أن نرتجل اليوم بدعوى اللهفة والعجلة، ثم نلفق المسائل كما تجيء، ثم نجد أنفسنا بعد سنة أو سنتين وقد عدنا إلى حيث بدأنا، وربما أسوأ. وقتها سنكون محاصرين بثلاثة خيارات: أن نعيد البداية من جديد، كأي تلميذ راسب يعيد السنة الدراسية مرة أخري. أن يجيء من يقول لنا: لقد أثبتم أنكم غير قادرين على شيء، فاتركوا غيركم يتصرف. أو أن تنشأ أحوال تسود فيها فوضى تفتح الباب لما لا أريد شخصيا أن أفكر فيه. ما أقوله بوضوح أن هناك رحلة انتقال هناك سفر إلى مستقبل هناك إجراءات لكل سفر وهناك شروط لابد من استيفائها لكي يكون هناك سفر أصلا، فضلا عن أن يكون السفر سالما ومأمونا!! وببساطة فإن ما أراه هذه اللحظة لا يستوفي أي شرط.❊ تحدثت عن الحقائب الجاهزة حقائب من وماذا ينقصها لكي نتخلص من فكر النقل وننتقل إلى فكر الانتقال؟❊ ❊ دعونا نتكلم بصراحة تقتضيها أمانة المسئولية، فهناك جمع كبير من الأفراد ومن الجماعات يلملمون الحاجات، ويكدسون الأشياء، ويحزمون الحقائب، وكلهم يريد السفر، وهذه الحقائب الجاهزة المعبأة والمحشورة والمربوطة كلها تحتاج منا إلى فحص ووزن قبل أن تمر عبر بوابات التأمين والأمان. هناك حقائب جاهزة وكثيرة. وهناك فيما نرى جميعا ثلاث مجموعات من الحقائب، ظاهرة يراها كل الناس. أولاها: مجموعة حقائب النجوم وهم عدد من الرجال والنساء، معظمهم لديه الرغبة الصادقة في الخدمة العامة، وكل منهم يتصور في نفسه أهلية تعطيه الفرصة. ومن جانبي فإن كثيرين منهم موضع احترام عندي، بل وفيهم أصدقاء وأعزاء أريد لهم كل خير، وأدعو لكل واحد، وإن كنت مازلت أتصور أن الأزمات تحتاج إلى الحشد الشامل أكثر مما تحتاج إلى وهج نجوم باهرا أو خافتا، ولأن الوهج عندنا وعند غيرنا فيه كثير خطف الأنظار، وهذه ليست مرحلة خطف أي شيء، وربما من هنا فقد تحفظت على هوس جرى به استقبال نجم لمع في الدنيا كلها، وكسف ضوؤه كل من عداه من النجوم في وقته وأعني به باراك أوباما (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحالي) لم يكن نجما فقط ولكنه عندما ظهر بدا أنه نجم النجوم، وقد أخذته الأضواء إلى البيت الأبيض، لكنه لسوء الحظ أثبت ويثبت أنه غير قادر على زمانه، برغم أنه في تعبيره عن نفسه استعمل كل وسائل العصر، حتى بدا في وقت من الأوقات وكأنه يملك بنفسه ذلك العصر لكنه عند التجربة وحتى هذه اللحظة فإنه يقود بلدا مثل الولايات المتحدة الأمريكية إلى هاوية، لأن هناك فارقا كبيرا بين (لمعان نجم)، وبين (مقدرة وإرادة فعل)!! ثانيتها: هناك مجموعة حقائب لأحزاب سياسية، أشهرها حزب (الوفد)، لكن الوفد حتى بمجرد ما يدل عليه اسمه تذكرة بزمن مضي، فاسمه في حد ذاته إشارة إلى سنة1919، عندما أعطت جموع المصريين توكيلات مختومة وأحيانا مبصومة تفوض (سعد زغلول)، و(علي شعراوي) و(عبد العزيز فهمي) و (وفدا) لـ: مقابلة المعتمد البريطاني في مصر وقتها السير (رونالد ونجت) يطلبون منه إذنا بالسفر إلى مؤتمر (فرساي) لطلب الجلاء بعد أربعين سنة من الاحتلال البريطاني، وحدث بعدها أن ذهب من ذهب من شخصيات مصر إلى مؤتمر (فرساي)، كما ذهب من ذهب منهم إلى المنافي في (مالطة) وفي (سيشيل)، ومع ذلك ظل الاحتلال قائما حتى جاءت ثورة1952، ثم تحقق الجلاء البريطاني عن مصر مرتين في سنة واحدة (1956)، مرة باتفاقية، ومرة ثانية بغير اتفاقيات بعد معركة تأميم قناة السويس، وبعد ربع قرن عاد الوفد بعد غيبته الطويلة بإذن وسماح، وفي ظروف كانت السلطة تبحث فيها عن مجرد زركشة تنسب إلى الديمقراطية، وفي الحقيقة فإنه ولو كان للوفد وجود مؤثر في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، لما قامت ثورة23 يوليو، ولو كانت له قوة في مطلع الألفية الجديدة، لما قامت ثورة 25 يناير، لأن كلتا الثورتين لم يكن لهما داع، إذا كان هناك حزب كبير يملأ فضاء الحياة السياسية لكن ذلك لم يكن حاصلا. تجيء بعد (الوفد) على ساحة القوى السياسية الآن تجمعات اليسار. والغريب أنه في زمن ظلم اجتماعي فادح يستدعي ضمن ما يستدعي بعض فكر اليسار، فإن أحزاب اليسار كلها تبدو غير فاعلة، تكاد أن تكون ظلالا هائمة لأفكار وحركات كانت هناك ذات يوم. حتى جماعات الناصريين رغم أن وراءهم واحدة من أعظم التجارب في العصر الحديث، إلا أن الظروف تغيرت من حولهم لأن التجربة الناصرية كلها جرت برجل استثنائي هو (جمال عبدالناصر). وإحقاقا للحق فإن ثورة 1952 توقفت بضربة سنة1967، بصرف النظر عن الفاعل الخارجي فيها. ثم إن النظام الثوري الذي واجه ظروفا كان مرهقا، وكان خروج الجماهير المذهل يومي9 و10 يونيو1967 في طلب عودة (عبد الناصر) طلبا وطنيا وقوميا يكلفه البقاء، لتصحيح آثار ما وقع. وقد بقي (جمال عبد الناصر) بعد ذلك ليرتب للمعركة ويقودها، لكنه فعل ذلك بمسئولية تفويض وطني وقومي، وليس بثورة يوليو، مع أن مكتسبات ثورة يوليو ومنجزاتها كانت في خدمة معركة إزالة آثار العدوان وتعزيز قدراتها، إلا أن الفاعل المباشر في مرحلة المعركة كان قوى الوطنية المصرية، والمدد العربي من القلب ومن الأجنحة. مضافا إلى ذلك فإن ناصرية (عبد الناصر) استفادت ضمن ما استفادت من عاملين: مدد شعبي قومي عربي ينحسر الآن، ويوشك أن يذوب. ثم: حرب باردة انتهت وحل محلها عالم آخر لاتزال ملامحه تتبدى كل يوم. والمحصلة أن كل الأحزاب والتجمعات السياسية القائمة ليس لديها هذه اللحظة لا جواز سفر صحيح إلى المستقبل، ولا تأشيرة دخول، ولا تذكرة سفر. وأبسط دليل على غياب هذه الأحزاب والتجمعات، أن ثورة 25 يناير خلت ميادينها من أي علم يشير إلى حزب أو شعار يدل على تجمع، مع تسليمي بأن الثقافة السياسية لمراحل التاريخ كلها كانت ولو بدون قصد موجودة في أعماق وعي شكلته عناصر كثيرة.❊ أنت لم تنس طبعا حقيبة جماعة الإخوان؟❊ ❊ نعم، بقيت آخر الحقائب المربوطة والمحزومة والجاهزة، ولعلها الحقيبة الحقيقية الأكبر حجما، والأثقل وزنا، وهي حقيبة (الإخوان). وللأمانة فإن الإخوان المسلمين هم العنصر الأظهر في المشهد السياسي هذه اللحظة وهم عنصر شديد التعقيد وشديد الحساسية، فقد بدؤوا في أواخر العشرينيات من القرن الماضي القرن العشرين جماعة تدخل إلى الساحة، ووراءها خلفية إسلامية ظاهرة، وأمامها تنظيم شبابي نشيط صنعته مهارات استثنائية في الحشد توفرت للمؤسس الأول للإخوان المسلمين، الأستاذ (حسن البنا)، وقد كنت دائما أقول لمن أعرف من أقطاب الإخوان المسلمين، وفيهم أصدقاء أعتز بهم. إنني خلافا لمعظم الإخوان رأيت مرشدهم الأستاذ (البنا) في كافة أحواله: رأيته في عز قوته في الشباب بعد صلاة الجمعة ذات مرة سنة 1946، ثم رأيته في شدة ضعفه يوم كان يستعد ليقدم لوكيل وزارة الداخلية بيانا يتبرأ فيه من قتلة (محمود فهمي النقراشي) ( باشا)، وكان عنوان بيانه: (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين) وتلك وقائع معروفة ومنشورة لا داعي للعودة إليها الآن. لكن الذي حدث هو أن الإخوان المسلمين لم يكونوا في أي وقت من الأوقات في وضع يمكنهم من حضور سياسي قانوني، أو من حضور فكري عصري. وكانت تلك ملابسات ظروف أوسع منهم. ذلك أن التجديد الحديث في الفكر الإسلامي قام به الشيخ (محمد عبده). لكن التنظيم الإسلامي المستجد قام به الأستاذ (حسن البنا). ولم يحدث أن التقى فكر (محمد عبده) مع تنظيم (حسن البنا)، ولو حدث لكان للإخوان المسلمين الآن شأن آخر يفوق ما تطورت إليه التنظيمات الإسلامية في (تركيا) مثلا. لكن الإخوان المسلمين في مصر عرضوا أنفسهم أولا ثم تعرضوا هم ثانيا لكوارث. والسبب أنهم مع وجود خلفية إسلامية لها قيمتها، وإن كانت غير محددة ولا متجددة وراءهم وفي نفس اللحظة مع وجود تنظيم قوى بناه (حسن البنا) وقعوا في مآزق كثيرة. أولها: أن هناك من حاول من البداية استعمالهم في معركة الخلافة بين الطامعين في الخلافة من العرب بعد سقوطها في (إستانبول)، يستوي في ذلك ملوك مصر من أسرة (محمد علي)، أو ملوك السعودية وأسرة (عبد العزيز)، فالطرفان حاولا، الملك(فؤاد) بقوة النفوذ، والملك (عبد العزيز) وخلفاؤه بقوة المال!! والثاني: أن الإخوان حين حاولوا أن يثبتوا أنفسهم طرفا لابد أن يحسب له حساب فعلوا ذلك بقوة التنظيم السري اختصارا للطرق، وذلك أدخلهم في غياهب العنف. وقادهم ذلك إلى صراع مع النظام الملكي في مصر، وصل بعد اغتيال (النقراشي) ( باشا) أواخر سنة1948 إلى أمر ملكي-!- باغتيال مرشدهم الشيخ (حسن البنا) أوائل سنة1949، ثم إلى أول حملة اعتقالات وتشريد لحقت بهم في وزارة (إبراهيم عبدالهادي) في تلك الفترة. وعندما جاءت ثورة1952 تكرر الصدام بين الإخوان وبين السلطة، وكانت هذه المرة سلطة الثورة، فقد طالبوا بحقوق لم تكن لهم، وعندما لم يستجب لهم (جمال عبد الناصر)، حاولوا اغتياله ومن العيب حتى أخلاقيا أن يقول أحد منهم اليوم: أن حادث المنشية كان تمثيلية، مع علمي أن بعضا من أكثرهم استقامة اعترفوا بها وانتقدوا تنفيذها، وكذلك تكرر بعد ثورة1952 نفس ما كان قبلها بين الإخوان والسلطة، وتعرض الإخوان وأنا في هذه النقطة بالتحديد متعاطف معهم لمحن قاسية!! ثم عاد الإخوان المسلمون بعد غيبة طويلة في أواسط عهد (مبارك) إلى الساحة، وكانوا محظورين رسميا، نشيطين فعليا، فقد تعلموا درسا سمعت ملخصه على لسان كثيرين من زعمائهم: (تعلمنا ألا نصطدم مع سلطة الدولة، لأن وسائلها أقوى منا بكثير). عاد الإخوان المسلمون إلى الساحة، ساكتين ومنتظرين، ولا يتحركون إلا بحذر!! ومن سوء الحظ أنهم لم يستطعيوا تقييم تجربتهم، لا في الحضور ولا في الغيبة. ثم إنهم راحوا في الانتظار والتربص، ينقسمون على أنفسهم، ويخرج منهم الفوج بعد الفوج من (الجماعة الإسلامية) إلى (الجهاد) إلى (طالبان) إلى (القاعدة) إلى جماعات أخري شطحت بها السبل، فإذا هي تظهر في حكاية (الجهاد الإسلامي) في أفغانستان، وفي (القاعدة)، وفي قاعدة (السودان) وفي قاعدة (اليمن) وغيرها!! ووقع إخوان مصر في مأزق مع أنفسهم، وفي لحظات قريبة قبل الثورة، بدا وكأن الجماعة تتفكك. وتدفقت أحداث وأحداث ليس هذا مجالها وفوجئ الإخوان بالربيع العربي الذي لم يكونوا قد لحقوا به عند البداية، بل إنهم تحفظوا عليه بسياسة (محظور الاصطدام) بسلطة الدولة، وفجأة هرولوا إلى الميدان عندما بدا أن نظام (مبارك) يتهاوى!! وكل ذلك مفهوم، وكل هذه قضايا تخصهم، لكن الحوادث جاءت بما هو أخطر، ويخص كل الناس وليس الإخوان وحدهم، ذلك أن الإخوان بعد نجاح الثورة، وفي خلال فترة الحيرة في أعقاب الثورة راحوا يتخذون مواقف تثير التساؤل. فجأة تجمعت صفوفهم التي كانت على وشك أن تتفرق وتتبعثر. وفجأة شكلوا حزبا سياسيا مع بقاء الجماعة وراء ظهره! وفجأة تغير خطابهم وطالته نبرة ثقة ليس في ظاهر الأمور ما يبررها. وفجأة تصرفوا بقسوة مع بعض أبرز أقطابهم: (عبد المنعم أبو الفتوح) مثلا!! وفجأة صدرت عنهم إعلانات فيها كثير مما لا لزوم به في أبسط الأحوال!! مثل قول بعضهم: أنهم سوف يتنافسون على ثلث مقاعد البرلمان فقط، ولن يزيدوا عليها (والمعنى أنهم يستطيعون الحصول عليها كلها، ولكن التعفف السياسي يري بإرادته أن يتنازل عن شيء للآخرين). ثم قول بعضهم: إنهم لن يتنافسوا على رئاسة الدولة (والمعنى أنها في متناول أيديهم إذا شاؤوا). ومع الأيام راحت الحصص تزيد، وسقف المطالب يرتفع حتى وصلنا إلى الإنذارات: فترة الانتقال لابد أن تنتهي في الموعد الذي أعلن عنه، إذا تأخرت فهناك عواقب، ووصل الأمر إلى حد القول بأنه إذا تأخرت الانتخابات يوما، فإن سيلا من دم الشهداء سوف يسيل!! وكان ذلك كله ملفتا، وكثيرون لم يجدوا له داعيا مستجدا إلا أن هناك قوى دولية كبرى أولها الولايات المتحدة الأمريكية كانت تضع على الإخوان حظرا (فيتو)، ثم إن هذه القوى رفعت حظرها أخيرا عن الإخوان، وأعلنت أنها لا تمانع في التعامل معهم، وذلك ما قاله (باراك أوباما) ( رئيس الولايات المتحدة)، وكررته (هيلاري كلينتون) وزيرة خارجيته!! وذلك موضوعيا له سبب قد أعود إليه فيما بعد!!كل ذلك ولا يسأل أحد عن شريك في الوطن منذ كانت بداية الوطن ولا يمكن لرحلة المستقبل أن تتم بدونه وهو أقباط مصر، وهم بالعدد أكثر من عشرة ملايين، أين هم؟! ما هي حقوقهم في العيش المشترك خصوصا عندما يجيء الدور على وضع دستور، والدساتير كلها إجماع طوعي، وليس أغلبية وأقلية، لأنها كما قلت مواطنة عيش مشترك، لا يقبله طرف إلا بكامل حريته، وبرضاه واختياره، وهذه مسألة لا أريد الآن الدخول فيها بالتفصيل، لكنها عصية على الحل بمقولات غريبة يرددها البعض هذه الأيام دون فهم للحقائق، ودون فهم للعصور، بل ويحزنني أن أقول دون فهم لمعاني الألفاظ ومسئولياتها. مثل أن يقول أحد لهم ولغيرهم: مصر دولة إسلامية، ومن لا يريدها كذلك عليه أن يرحل منها، ومثل أن يتحدث أحد عن خضوع أقلية لأغلبية، ومثل ما يقال عن السماحة، وعن عهد الذمة، ومثل هزل قبول الآخر، إلى غير ذلك مما تكرر والقول غير مسئول، وأهم من ذلك غير مدرك!!❊ هل من الصواب لمصر المسافرة أن تتخذ قرارات أساسية الآن؟❊ ❊ الكل يحزم حقائبه ويحشر أمتعته، ويضغط ويربط، وتنزل الحقائب استعدادا للسفر، ويذكرني المشهد كله بنكتة شهيرة عن رجل مسافر في القطار ومعه اثنان أو ثلاثة من مودعيه، وكان القطار على وشك أن يقوم من محطته، وتعثر المسافر، ووقع على الأرض، لكن مودعيه ظلوا يهرولون بأقصى سرعة قبل أن يتحرك القطار. ووجد بعض الناس أن المسافر الذي تعثر قبل الوصول إلى الرصيف ممدد على الأرض، وهو يضحك ولا يكف، وعندما سألوه السبب جاء رده: أضحك لأنني أنا المسافر وهم المودعون!! وهم مازالوا يجرون وأنا متعثر هنا أمامكم!! وكذلك تبدو الصورة. الشعب المسافر بالثورة إلى المستقبل، تعثر قبل الرصيف، ومرافقوه يهرولون للحاق بالقطار، وهم ليسوا على قائمة ركابه، وأيضا ليس معهم جواز سفر ولا تأشيرة، والأجراس تدق مشيرة إلى أن القطار على وشك أن يقوم!! أقول ذلك وأنا أعرف أن عجلة الترتيبات للانتخابات تدور بسرعة وهو الظاهر المرئي أي أن الوقت فات وترك وراءه أي اجتهادات أخري، ومن سوء الحظ أنني أعرف أن الوقت متأخر جدا، ولا يضايقني أن تبتعد عجلة الحوادث عما أقترح، وإن بقي لدي عدد من الملاحظات والتحفظات: 1 - أنه يستحيل على أي بلد بل على أي إنسان فرد أن يتخذ قرارا في شأن مستقبله، وهو في حالة عصبية: سياسية، واجتماعية، وأمنية. 2 - أعرف أيضا أن هناك فارقا بين أحوال مختلفة لدور النار في الثورة، خصوصا عندما يتحدث طرف عن نار ثورة اندلعت، أي أن هناك أدوارا مختلفة للنار حتى في الثورة، هناك نار تحرق ما يصح له أن يتحول إلى رماد، وهناك نار أخري تهيئ وتنضج أي غذاء، وهناك نار ثالثة تلين وتطوع أي معدن، وهناك نار معبأة يصبها الناس على أعدائهم في الحرب، وكذلك النار أنواع!! ومن الخطر أن يتحدث أحد عن اندلاع نيران ثورة، ويتذكر نار الحريق، وينسي نيرانا أخري غيرها! 3 - وفيما يتعلق بما وقع في مصر فإنه لم يمض علينا وقت لإنضاج وتسوية غذاء، ولا لتليين وصياغة معدن، وخشيتي من القفز على النحو الذي أراه، وإجراء الانتخابات بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة أننا سوف نعيد إنتاج الماضي، وسوف نقوم بتدوير عناصره الأساسية، حتى وإن اختلفت بعض الألوان والأصوات، وبعض الناس يتصور أن الديمقراطية هي نتائج الصندوق، وذلك ليس دقيقا، لأن الصندوق نفسه ليس غير حصالة لما حوله من قريب ومن بعيد، وحتي إذا كان فرز الأوراق في الصندوق صحيحا فإن ما قبل الصندوق وحوله هو الحقيقة، وهو المعني. والمنطق الواضح لكل دارس أن الديمقراطية عملية تنظيم لممارسة الحرية، ثم إن الديمقراطية بداعي الحرية هي ممارسة حق الاختيار، لكن داعي الحرية له شروط أولها ظهور وتثبيت الحقائق إلى أبعد حد إنساني ممكن. 4 - وأعرف أن بعض الناس يقلقهم أن تأخير الانتخابات يترك ما يسمونه خطأ بـ: (المجلس العسكري) وحده في موضع القرار مدة أطول، وهم كما يقولون يخافون (حكم العسكر)، ومثل ذلك يمكن فهمه، على أنه يبقى أن كل مشكلة يجب أن تطرح بعنوانها، بمعنى أن مشكلة انفراد (المجلس العسكري) بالقرار الآن أو بعد شهور لا يحلها الاندفاع إلى الصناديق بلهفة، فهذه قضية وتلك أخري، وربما أنني من تحسب لذلك اقترحت في وقت من الأوقات مع انتداب القوات المسلحة، وبأمر الشعب حارسا لشرعية الدولة أن يكون هناك مجلس لأمناء الدولة والدستور تدخل فيه نخب العناصر القادرة على المستقبل، وأولها الشباب. 5 - ويرد على بعض الناس متسائلين، ومن يملك سلطة اختيار مائة أو مائتي شخصية لهذا المجلس، وظني أن التاريخ يعرف نماذج كثيرة لناس جرى اختيارهم في الأوقات الصعبة من التحول التاريخي، وعلى سبيل المثال فمن اختار الجنرال (ديجول) مثلا لقيادة فرنسا الحرة التي أخذت فرنسا من صف المهزومين والمستسلمين إلى صفوف المقاتلين المنتصرين، ومن الذي اختار (جورج واشنطن) و(جيفرسون) و(ماديسون) وغيرهم من الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية، وكلهم لم يظهر على الساحة وفقا للدستور، وإنما كانوا هم الذين كتبوا نصوص الدستور في ظروف صعبة، وعلى مراحل ممتدة تنقل من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، وأوراقا من الولايات الشاردة المطالبة أحيانا بالاستقلال عن الاتحاد. بل وأقرب من ذلك كله، أن نسأل من الذي اختار (المجلس العسكري) كما يصفه البعض، وهو الذي يجلس الآن في موقع القرار؟! والحقيقة أنها مصادفة الترقي في السلك العسكري لا ندرك أحيانا أن التطور التاريخي له ضروراته وملابساته، بل وحتى مصادفاته، والتاريخ أكبر من السياسة، كما أن السياسة ليست مسألة فرص متاحة، ثم إن الفرص ليست سباقا بغير قواعد، وحتى في الملاعب فإن كل سباق له شروط. 6 - ولم يكن صعبا تشكيل مجلس لأمناء الدولة والدستور من مائة أو مائتي عضو، يبرز فيهم عشرة أو عشرون بالاختبار الحي أمام الناس، وبحيث تظهر القضايا، إلى جانب ظهور قسمات وملامح رجال ونساء لديهم القدرة والهمة، ومن غير المفيد في تصوري أن يكون طريقنا إلى ما نراه الآن في ممارسة السياسة، إما غرف بعيدة عن الضوء العام، وإما استوديوهات تليفزيون لا يتوقف الكلام حتى إلى ما بعد صياح الديك في الفجر!! 7 - وقلت أنني أعرف أن الوقت فات، لكن كل واحد مطالب بأن يقول رأيه، خصوصا إذا كان يقوله من بعيد، ويقوله بصرف النظر عن الاستجابة، وأظنني أختلف مع مدرسة تقول أنه (لا رأي لمن لا يطاع)، وفي ظني أن الرأي حق، لكن طاعته ليست واجبا، بمعنى أن الرأي يبقى رأيا، وتظل مسئولية صاحبه أن يقوله إذا كان يؤمن به!! وذلك ما أفعله من بعيد، رجل يعرف أن مستقبله وراءه، ولكن المستقبل يعنيه، مع إدراكه أنه ليس طرفا فيه!! ودعا الأستاذ هيكل إلى وقفة مع النفس.لكي نقوم بما يمكن أن يسمي في المناهج العسكرية تقدير موقف، مطالبا المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة بإصدار تقرير عن الأحوال التي وجدوها عند قيام الثورة وكيف تم التصرف حيالها وعن حصيلة200 يوم تولوا فيها الأمور. وشدد هيكل على الحاجة بعد ذلك إلى حوار وطني مكثف تحضره نخبة ممثلة لقوى الثورة وقوى الوطن لتجري فيه مناقشة واسعة ومستنيرة، وقد تكون بعض جلساتها مغلقة. وفي تصويره لأحوال مصر الآن، قال الأستاذ: أحوالها أشبه ما تكون بجبل الجليد أكثره غاطس تحت الماء وأقله ظاهر.. وليس من حقنا أن نعيد تمثيل مأساة الباخرة تايتانيك التي اصطدمت وسط الضباب بالخفي غير الظاهر من الجبل الجليدي العائم تحت إمرة كابتن ألقيت عليه المسئولية وتحملها وحده. واستطرد قائلا: العملية الثورية المصرية في25 يناير كانت بناء عظيما يماثل تايتانيك حينما جرى بناؤها في زمانها، لكن على كل الناس أن يحذروا من جبال الجليد الغاطسة وسط الضباب. وقال الأستاذ: إننا الآن في مرحلة انتقال وهي مثل السفر من حاضر ضاق به الجميع، وإن اختلفت أسباب ضيقهم، مشددا على أن مرحلة الانتقال مثلها مثل إجراءات السفر إلى المستقبل لابد أن تكون محددة ومعروفة. ولاحظ الكاتب الكبير أن الكل في مصر الآن ليس لديه ـ حتى هذه اللحظــــــــــة ـ لا جواز سفر إلى المستقبل، ولا تأشيرة دخول ولا تذكرة سفر.[c1](يتبع يوم الأربعاء القادم)