نبض القلم
إن من أكثر الأمور حساسية في الإسلام هي معاملة المسلم لأخيه المسلم، ولذلك نجد القرآن الكريم أعطى اهتماماً كبيراً للحياة الاجتماعية بين المسلمين، فهناك آداب للمجالس، وآداب للطريق، وآداب للاستئذان، وآداب للطعام، وآداب للزيارة، وآداب للحديث، وآداب للمخالطة، وغيرها من الآداب الإسلامية التي لو التزام بها المسلمون وتطبعوا بطباعها لقويت العلاقات الاجتماعية فيما بينهم. وإذا تعززت العلاقات الاجتماعية بين الناس تماسكت الأمة وقوي المجتمع، وصار أفراده كالجسد الواحد، يعمل كل عضو لصالح باقي الأعضاء، وإذا أصيب أحدهم بضرر، فإن الضرر يعم سائر الجسد، وهو ما أكده الرسول (صلى الله عليه وسلم) في قوله: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وفي ظل التراحم بين الناس ينتفي العنف الفكري من أوساطهم. ولذلك من اجل أن يتحصن شبابنا من العنف الفكري، وسائر أنواع العنف الأخرى لابد من العمل على تعزيز أواصر المحبة والتعاون والتسامح، فيما بينهم، فهم كالبنيان كل لبنة فيه تساند الأخرى، وتقيم معها البناء، وأي خراب أو ضعف في أية لبنة، فإن ذلك يؤثر في باقي اللبنات على مدى الزمان، إن لم يحصل علاج أو تدارك، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً ). والمجتمع المتماسك تسوده المحبة، فكل واحد من أفراده يحب الخير للجميع، وهو أمر لازم لصدق الإيمان، وأثر للعقيدة السليمة النقية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) بما يفيد أنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه من الخير كما يحب لنفسه من ذلك الخير.ولذلك تقتضي الأخوة الإسلامية أن يشعر كل فرد في المجتمع بالرابطة الأخوية بينه وبين المسلمين الآخرين، وأن يتأثر بما ينزل بأخيه المسلم من خير أو شر، وأن يحاول أن يعمل بما يمليه عليه واجب الأخوة، وهذا هو المعنى المراد من قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).. (الفتح / 29). والرحمة بين المسلم وأخيه المسلم تستلزم أن يشارك كل منهما الآخر في آماله وآلامه، وأن يدفع كل منهما عن أخيه غوائل الشر، وأنواع الضرر، وأن يأخذ بيده لينقذه من أي خطر يتهدده، وهو ما أكد عليه الحديث النبوي الشريف في قوله: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه). وبمقتضى الأخوة الإسلامية يتسم المسلمون بالسماحة والمحبة، والسلام، امتثالاً لقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام). ولذا فإن ما بين الناس من روابط إنسانية وأخوة عامة تدعوهم إلى أن يعيشوا عيشة راضية هنيئة، تسودها المحبة، ويحوطها التسامح، وهو ما يجعل الناس يعيشون في سعادة ورفاهية، وبذلك يتحصنون من العنف بأشكاله وألوانه، بما في ذلك العنف الفكري. ولكن تزاحم الناس على الحياة، وتكالبهم على موارد الرزق، وابتعادهم عن تعاليم الإسلام، جعلهم ينسون المبادئ السامية الرحيمة، ولذا نرى الأثرة وحب الذات هي الغالبة في حياة بعض الناس، وهي المسيطرة على نفوس كثير منهم، إذ نلاحظ أن النزعة المادية لدى بعضهم تدفعهم إلى أن يتعاملوا مع بعضهم بنوع من الضراوة فصاروا شركاء متشاكسين على الدوام، فغلب على أذهانهم العنف الفكري، الذي بموجبه يتحرك غول الطمع الموجود في دواخلهم، استجابة لغرائزهم ورغباتهم الشريرة، فصار الواحد منهم لا يحب إلا نفسه، فيسلك سلوكا مشيناً في علاقته الاجتماعية، فهو لذلك يأخذ ولايعطي، فتراه دائماً متذمراً من واقعه، غير راض بما قسم الله له، وغير زاهد فيما لدى الناس، فإذا نظرت إليه في هذه الحالة، فلا تراه إلا ممتد العين واليد إلى ما في أيدي الناس، وفي نفسه رغبة جامحة في أن يستولي على ما في أيدي الآخرين، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). ونفهم من الحديث الشريف أن الإسلام كره خلة الطمع في الإنسان، وبين أنها الطريق إلى العنف الفكري بما فيها من دلالة على قسوة قلب صاحبها، وخلو نفسه من الرحمة، ومن خلا قلبه من الرحمة فهو شقي، وقد اخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (إن أبعد الناس من الله قاسي القلب) وقاسي القلب هو الذي يسيطر عليه التفكير بالعنف، لخلو قلبه وذهنه من الرحمة، فهو منزوع الرحمة لأنه شقي، كما وصفه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي). والرحمة التي أشار إليها الحديث الشريف هي الرحمة العامة في أوسع ميادينها، وأرحب آفاقها، بما يعني أنها رحمة شاملة تشمل كل شيء، بحيث يظهر أثرها في تعامل الناس مع بعضهم، وفي تخاطبهم فيما بينهم، ويظهر أثرها كذلك في الأخذ والعطاء، وفي البيع والشراء، وفي القضاء والاقتضاء، ولا يستطيع الإنسان أن يبلغ هذه الدرجة من الرحمة إلا إذا كان سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، وسمحاً إذا اقتضى أو إذا قضى، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى وإذا قضى ). وإذا تاملنا في معنى هذا الحديث الشريف لوجدناه جامعاً لمعنى السماحة المطلوبة في المعاملات القائمة بين الناس في أيامنا هذه، ومتى ما ابتعد الناس عن السماحة في تعاملهم مع بعضهم نما في وسطهم العنف الفكري، فكثرت منازعاتهم وزدادت خصوماتهم، وتولدت الأحقاد في نفوسهم، وزرعت العداوة في قلوبهم، وانتشرت البغضاء في أوساطهم. وليس بخاف أن الإنسان إذا ابتعد عن السماحة فإنه يتوغل في كثير من المعاملات المحرمة إلى غير ذلك من الأفعال المنكرة التي يحرمها الإسلام، والعنف الفكري هو الذي دفعهم إلى ذلك، وهو ما يجعلنا بحاجة ملحة إلى الأمن الفكري، الذي بموجبه نحصن شبابنا من مخاطر العنف الفكري وأضراره.