عطشى الديمقراطية تعني لهم القطرة شيئاً نفيساً ولو كانت ماء وصبت قطرة قطرة على الحجر الصلد لتفجرت منها أنهار الديمقراطية المنشودة.وفي ضوء ما يحدث اليوم في شوارع العالم الثالث فإن الخوف من أن تغرق المجتمعات بالديمقراطية الفورية إذا صبت على الرؤوس دفعة واحدة وبلا مقدمات تضبط الأمور وتقوِّي الأرضيات حتى تصل إلى درجة من الصلابة كي لا يذهب الماء الهادر من صنبور الديمقراطية هدراً في قاع الصحراء القاحلة، التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ نافعاً.الديمقراطية ليست هياجاً، بل هي سياج لمزيد من الأمن والاستقرار في المجتمعات، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة بإحراق الأخضر واليابس من تحت أي نظام حالي يحكم المجتمعات منذ عقود. فما يحدث اليوم يخشى أن يكون نشوة وبريقاً ساطعاً قد لا يستمر في نفس الطريق لفترة طويلة، لأن الحاجة إلى بناء مؤسسات تدعم إرساء سبل الديمقراطية في المجتمع من الأساس، ورفع الصوت النشاز وتحطيم مكتسبات التنمية في المسيرات والمظاهرات ليست الوسيلة السليمة لإنزال الديمقراطية من السماء وتثبيتها في الأرض، لأن الديمقراطية كمضمون هي كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ويحصل في بعض المجتمعات عكس هذا الوضع.حتى أن الديمقراطية التي تطالب بها الشوارع العامة والخلفية غدت أقرب إلى نوع من ديكتاتورية أخرى. فبعض الحكومات التي تغيرت وقبلت بكل مطالب الشارع في الوقت الراهن وأقرت عملياً ودستورياً وتعهدت ببناء نهج ديمقراطي سليم في الفترة القادمة، لمَ يستمر الضغط عليها بدل التمهل في إيجاد حلول لكافة المشكلات التي غالباً ما تعاني منها كل المجتمعات البشرية مع فارق النسب، فالبطالة لن تحل بضغط الشارع وإنما بجلوس المعنيين حول طاولة الحل وهو ما يحدث في العالم الأول قبل العالم الثالث.أما الفقر فقد ترسخ في أميركا أم الديمقراطيات بقرابة 30 مليون فرد، ومع ذلك لم يخرج واحد منهم لكسر نوافذ البيت الأبيض، لأن في هذا السلوك تراجعاً آخر لمقدرات الدولة.نأتي إلى عملية التنشئة الاجتماعية التي خلت من الديمقراطية المطلوبة في معظم دول العالم الثالث سواء في مناهج التعليم العام والعالي أم في ثنايا تعاليم الأسر منذ الصغر، فشيء اسمه الديمقراطية كما نتغنى بها لا أثر له يذكر إلا فيما ندر.أما في عالم الغرب الديمقراطي فإن كتاباً مثل «السياسي الصغير» يدرس منذ نعومة أظفار الأطفال حتى يصلوا إلى قبة البرلمان، فإن هذه العملية المجتمعية مطلوبة أكثر في الوقت الحاضر منها في السابق حتى لا تتحول مطالب الشارع إلى قيود تخنق صانع الديمقراطية في العالم الثالث.إن ما يحدث في العالم الثالث اليوم تجاهل وتغاض عن كل التجارب الديمقراطية الناجحة في العالم الأول والثاني، بل هو قفز على الواقع أكثر مما هو بناء لواقع جديد أفضل من كل التجارب العالمية المشهورة في هذا الأمر.فعقلنة الشارع أمر مهم في هذه المرحلة الحرجة من عمر المجتمعات التي تصبو إلى ما لدى الغرب المتقدم من مزايا ديمقراطية راسخة الأقدام ولم تكن يوماً من فعل الشوارع الثائرة بل من فعل العقول النيرة والراشدة والمتنورة بالحداثة الواقعية وليس المثالية الصادمة.[c1]*عن/ جريدة (الاتحاد) الإماراتية[/c]
ديمقراطية القطرة... قطرة
أخبار متعلقة