قبل نحو 3 سنوات تقريبا أطلق طالب في جامعة فرجينيا التكنولوجية بأمريكا واسمه (تشو سونغ هوى) النار من أسلحته المختلفة على زملائه الطلاب وأساتذته ومشرفيه ليقتل اثنين وثلاثين منهم قبل أن يقتل نفسه، ومذاك الوقت راحت محطات التلفزيون والصحف والمجلات تتنافس لكشف حقائق الجريمة والبحث عن مسبباتها، وتفردت مجلة «نيوزويك» بتحقيق مثالي، بحثت فيه اجتماعياً وثقافياً وطبياً وسياسياً عن الأسباب الكامنة للقتل والإجرام.. فكان عنوان غلاف أحد أعدادها: (داخل عقل قاتل). .. في بلادنا نحن نشكو منذ سنوات من عمليات إرهابية وإرهابيين قتلة لا يرحمون، ومصممين على نسف المجمعات السكنية وضرب المنشآت الاقتصادية وقتل النخب، وبعد كل عملية أو كشف لإعداد لها، تروح المقالات تصف هؤلاء بالفئة الضالة والمنحرفة، وأنهم شواذ وخارجون عن الملة، أو أنهم عملاء ومغرر بهم.. إلخ. كل ذلك صحيح في وصفهم، لكننا ونحن نستفز الكُتاب والمقالات، ونستنجد بعشرات فرق النصح، ونعدّ ما لا يحصى عددهم من (خبراء) الإرهاب للظهور في التلفزيون ليقولوا ما نعرفه ولا نجهله، كل ذلك يتم دون أن نجيب عن الأسئلة التالية: لماذا أصبح هذا الشخص إرهابياً قاتلاً؟ لماذا يتركز خروج هذا القاتل الإرهابي في هذه المنطقة وتنجو جاراتها من ذلك؟ لماذا تنبت بيئة في حيز جغرافي بمدينة كبيرة واحدة هذا الكمّ من الإرهابيين، وتخلو منطقة في نفس المدينة تمتاز برفاهيتها منهم؟ يقول أحد ضحايا المذبحة الأمريكية -طبقاً لما تقوله الصفحات الرائعة للنيوزويك- وهو ينظر سريعاً إلى وجه القاتل: «رأيت عينيه أيضاً، لعل هذا أكثر ما أخافني.. كانتا فارغتين، وشبه خاليتين من أي تعبير، عندما تنظر إلى عيون الناس، ترى فيها حياتهم وقصصهم، ولكن نظراته كانت فارغة تماماً»... عندما كان التلفزيون السعودي يعرض اعترافات الإرهابيين من أبنائنا قبل فترة، تذكرت تلك الكلمات، لم أر في عيون (المقرن إخوان) وزملائه أي معنى أو ندم أو قصة عشق أو لهفة لمنظر طائر على شجرة. كانت نظراتهم فارغة بلا معنى، وستصبح كذلك حتى وفرق المناصحة تجالسهم ليل نهار! لماذا أصبحوا كذلك؟ أي رحلة ثقافية أو جينية أو ظروف اجتماعية أوصلتهم إلى الخواء السرمدي في نظراتهم؟ لم أقرأ ولم أسمع ولم أشاهد تحليلاً واحداً محلياً يرد على أسئلتي هذه. وأول نتائج هذا الفراغ المعرفي ستكون -للأسف- زيادة عدد المطلوبين والمقبوض عليهم والمشتبه بهم. يجب علينا أولاً أن نتفق على مسلمات بسيطة: لمَ يولد هؤلاء الإرهابيون وقد لُفّ على أوساطهم أحزمة ناسفة، ولم يرضع هؤلاء وهم صغار حليب فتاوى وزيرستان، ولم يعلمهم المشي مرشد موت الكتروني؛ لابد أن (حدثاً) أو منعطفاً حياتياً خطيراً إنْ لم نقل جينة مجنونة قد جعلت من هؤلاء فارغي النظرات وهم يؤسسون خلاياهم، أو وهم يعترفون بما كانوا ينوون القيام به من شر. هذا لا يعني -قط- إعفاء المجرمين من جرائمهم، ولا يعني تسويغ أفعالهم، لكنه يعني ونحن نبحث الدوافع -كما يفعل غيرنا وهم يئنون من فقدان أرواح أحبائهم مثلنا- يعني ألا نرى لوائح جديدة وقد بلغت الآلاف -للأسف- بعد أن بلغت المئات، وأن لا تقطع البرامج لسرد تفاصيل عملية إرهابية مدمرة تعقبها نفس ديباجات المقالات والتصنيفات وحوارات خبراء الإرهاب المحلي.يضيف مقال «نيوزويك» الرائع: «لماذا لم نرصد جينات المرض لدى الطلاب في جامعاتنا؟ لماذا لم نعرف مقدار العزلة الاجتماعية وطريقة صقل مجتمعنا لأبنائه؟ لماذا لم نتوقع أن العنف الإجرامي يعكس سوداء البيولوجيا والتجارب الشخصية والثقافة المجتمعية المحيطة بالمرء، إضافة إلى إرادة نزع حياة الناس بأعصاب باردة؟ لماذا لم ندرك أن مرتكبي القتل الجماعي تعساء ومجروحون عاطفياً ومكتئبون سريرياً ومنعزلون اجتماعياً، وأنهم مصابون بجنون الشك والاضطهاد، ويظنون أن العالم بأسره ضدهم؟ لماذا لم نتوقع أنه بطريقة ما.. وفي مكان ما زرع أحدهم بذور الشر في نفس (تشو) وأمثاله؟». قد تكون تلك الأسئلة من فوائض الرفاهية في مجتمعات بالكاد يعرف الأب كثير الأبناء اسم أحدهم؛ في مجتمعات لا يستطيع أستاذ المدارس الحكومية إنهاء تحضير أعداد وأسماء طلبته حتى تنتهي حصة درسه؛ في مجتمعات تخلو من أماكن اللهو البريء وممارسة الرياضة غير المدفوعة الثمن؛ في مجتمعات طغت أحاديث منافع الاكتتابات وآخر الأهداف الكروية وأجمل الألبومات الغنائية، على أحاديث آخر الإصدارات!وحتى نقرأ دراسة تشابه الدراسة التي وردت في مقال المجلة الأمريكية تطلعوا بين فينة وأخرى إلى العيون التي ستظهر في التلفاز وهي فارغة.. بلا معنى![c1] صحيفة (عكاظ ) السعودية
داخـل عـقـل إرهـابـي .. !!
أخبار متعلقة