الكلمة ميثاق شرف، وقد عُرف عن العربي أنه شديد الاعتداد بكلمته، وأنه قد يضحي بحياته من أجل كلمة ألزم بها نفسه دون أن يبالي بحياته في سبيل الثبات على كلمته. ومن جهة أخرى، فإن العربي شديد الحساسية للكلمة، لذلك قال أهل البلاغة قديما: لكل مقام مقال، وهي قاعدة في التواصل بين الناس، خصوصا من ذوي المقامات المختلفة ، تؤدي مخالفتها إلى عواقب غير محمودة، كما تذكر المصادر الأدبية عن مواقف كثيرة حدثت بين بعض شعراء العصر الأموي وخلفائه، لم يراع فيها الشاعر مقام الخليفة فلاقى ما لم يرضه من ردود فعل غير متوقعة. وكم من كلمة رفعت شخصا، وحطّت من قيمة آخر، وإذا كان الإنسان يموت فإن الكلمة لا تموت، كما لا يموت أثرها بين الناس، ومن أوضح الأمثلة على هذا تأثير قصائد المدح والهجاء التي تُقال في حق بعض الأشخاص، فتخلّدهم كما وصفوا شعريا، وليس كما عُرِف عنهم واقعيا. وقد كان هجاء المتنبي لكافور الإخشيدي، ومدحه لسيف الدولة الحمداني خير دليل على ثبات الكلمة -خصوصا حين تقدَّم في سياق أدبي- حتى إن خالفت الواقع التاريخي، إذ تذكر بعض المصادر التاريخية لكافور خصالا حسنة جمّة تفوق ما وصف به المتنبي سيف الدولة، ولكنّ كلمة المتنبي المقدمة في قالب الشعر كانت أبقى. والكلمة تؤدي أحيانا إلى موت شخص، وبكلمة قد تُكتب لآخر حياة جديدة، وإذا أردنا أن نبدأ بسرد أسماء الأدباء والشعراء الذين قتلتهم الكلمة فإننا لن ننتهي من ذلك بسهولة، إلا أنه يمكننا ذكر أقدمهم في تراثنا العربي وهو طرفة بن العبد، أو الشاب القتيل كما يُطلق عليه في مصادر الأدب العربي. كما يمكننا ذكر أشهرهم عندنا وهو المتنبي الذي يُقال إنه قُتل ببيت شعر قاله. والكلمة على مدى التاريخ الإنساني فتحت بلادا، وهزمت جيوشا، وقد دخل الناس الإسلام في عصر النبوة بالكلمة، وكان القرآن معجزة رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام، إذ اعتمد على بلاغة الكلمة في الوصول إلى عقول الناس وقلوبهم، فكان ذلك سر إعجازه أمام أمة اشتُهرت بفصاحتها وبلاغتها، بل أمام أفضل قبائلها فصاحة وبلاغة. وتعدّ الكلمة وسيلة مهمة من وسائل تحفيز الجند وبث روح الحماسة فيهم في حالة الحرب، وذلك من خلال الخطب التي يلقيها القائد أمام جموع جنده، أو من خلال الأغاني والأناشيد الحماسية التي يرددها الجند أو الفرق المصاحبة لهم. وكثيرا من يقول علماء الاجتماع إن قوة الكلمة تعادل أو ربما تتفوق على أية قوة أخرى توصل لها الإنسان، كقوة الكهرباء أو الطاقة الذرية أو النووية أو غيرها، لأنها تمس الروح والعقل والقلب، فيكون تأثيرها أكبر إذ تحفز الجسد لفعل أو رد فعل، أما بقية القوى الأخرى فإنها تمسّ الجسد فقط وقد تفنيه، فلا تكون بمستوى التأثير الذي تلحقه الكلمة. وعلى صعيد الأدب والفن، نجد أن الكلمة الجميلة كانت دائما ذات تأثير كبير على العربي، فقد كان العرب شديدي الاحتفاء بالشعر، يهتزون عند سماعه، ويطربون له وبه، لإحساسهم بالكلمة، وليس فقط لتأثرهم بالوزن والقافية، والدليل أنهم كانوا يحتفون بروائع النثر احتفاء كبيرا أيضا. لكن أين موضع الكلمة اليوم في حياتنا، وما مدى إحساسنا بها، وتأثيرها فينا؟ إن قوة تأثير الكلمة فينا تنبع من قوة إحساسنا بها، ومدى تفاعلنا معها، ولكن علاقتنا بالكلمة التي تتمثل في لغتنا العربية تشوبها اليوم شوائب عدة، ناتجة عن رفض شريحة من أبنائها لها، والتأثير السلبي لهذا الإحساس بالرفض يؤثر على الرافضين. ولا يمسّ اللغة بشيء، لأنهم يفقدون شيئا من ملامحهم كلما أمعنوا في رفضها وذمّها، ويصبحون أقل قدرة على استقبال العلوم والمعارف كلما جاءتهم بلغة غير لغتهم الأم مهما ادعوا قدرتهم على الفهم والاستيعاب باللغات الأخرى، وهذا يعني أنهم يحصّلون قدرا أقل من المعرفة -ونحن في ذروة عصر المعلومات- مقارنة بقدراتهم الحقيقية إذا استغلوها باستخدام لغتهم الأصلية. كما أنهم في تواصلهم اليومي، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وفي علاقتهم بأنفسهم أيضا، لا يمكن أن يستغنوا عن اللغة التي تمثل جزءا أساسيا من بنية أية شخصية سوية، لأن الحصيلة اللغوية الغنية تعد وسيلة مهمة جدا في تطوير الشخصية، وتطوير قدرات التواصل والاتصال مع الآخرين، وأيضا في تطوير الأداء الوظيفي. وقد كانت اللغة هي إحدى الأدوات التي طرحها أنتوني روبنز في كتابه (خطوات عظيمة: القليل من التغيير لتحقيق الكثير من الفارق)، إذ يقول - في سياق حديثه عن أثر الكلمة على مستوى التواصل مع الآخرين عاطفيا- إن من لا يتمتعون بحصيلة كبيرة من المفردات يعيشون حياة فقيرة عاطفيا، أما من لديهم حصيلة مفردات غنية، فكأن لديهم وعاء زاخرا بألوان متعددة يلونون بها تجربتهم في الحياة، ليس فقط للآخرين، ولكن لأنفسهم كذلك. والحصيلة اللغوية الغنية تساعد في تجديد النفسيات عن طريق تجديد اللغة، كما تساعد في إعادة رسم العلاقات الاجتماعية بين الناس، بحيث يمكن للشخص تجديد لغته، واستبدال ألفاظ جديدة أكثر مناسبة وتعبيرا عنه بألفاظه القديمة التي اعتاد على استخدامها، أو شعر بعد استخدامه لها فترة من الزمن أنها تطبع شخصيته بطابع معين، يهمه أن يغيره، ويمكنه فعل ذلك من خلال تغيير مفرداته. من جهة أخرى، يمكن للحصيلة اللغوية الغنية أن تساهم في رفع مستوى الإنتاجية عند الموظفين، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن اللغة قادرة على رفع المعنويات، وهذا يؤدي إلى رفع مستوى الإنتاج الذي يحدث مباشرة بعد أن يتحسن الوضع النفسي للعامل أو الموظف،. وهي أمور نكاد نفتقدها في مجتمعنا، لأن علاقتنا مضطربة جدا بلغتنا العربية، ولأن كثيرين منا يتعاملون بمزيج من اللغات في وقت واحد، مما يجعلهم فاقدي الإحساس بلغتهم الأم، وغير قادرين على التفاعل معها بشكل طبيعي، وهذا يتضح كثيرا حين نكتشف ضحالة القاموس اللغوي عندنا، الذي يكشف عمق جهلنا بلغتنا في حين نسعى جاهدين لاكتساب لغات أخرى. إن الكلمات أدوات مؤثرة ومحركة، وهذه هي خلاصة فكرة روبنز في القسم الخاص بمفردات النجاح من كتابه سالف الذكر، وهو يطرح فيه سؤالا مهما يتناول أهمية اللغة في تشكيل تجربتنا في الحياة، ويجيب على هذا السؤال الذي يبدو بسيطا في ظاهره، بجواب بسيط فعلا إذ يقول: إن اللغة شيء أساسي للغاية، فالكلمات التي نصف بها تجربتنا تصبح هي نفسها تجربتنا بكل بساطة!! وإذا كنا نظريا ندرك هذه الفكرة، والجواب البسيط الذي قدمه روبنز على سؤاله المفترَض لا يغيب عن ذهن أي عاقل منا، فإننا على مستوى التطبيق نستبعد كل ما نعرفه نظريا، ويصبح الفعل شيئا مختلفا. فإذا كانت الكلمات التي نصف بها تجربتنا تصبح هي نفسها تجربتنا، فعن أية تجربة سيتحدث الفرد منا إذا كان لا يجد ملامح واضحة للغة التي سيصف بها تجربته الخاصة؟ ويمكن إعادة صياغة السؤال بشكل مختلف ليصبح كالتالي: ما اللغة التي سيصف أحدنا بها تجربته الخاصة إذا كانت لغتنا اليوم خليطا من بضع لهجات عربية، وآسيوية، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية المتربعة على عرش اصطنعته لنفسها عندنا؟ لا شك أن إجابة هذا السؤال ليست عسيرة على المستوى النظري، لكنها مؤلمة حد الفاجعة على المستوى الواقعي. [c1][email protected]نقلاً عن / صحيفة البيان الاماراتية[/c]
أثر الكلمة في حياتنا
أخبار متعلقة