صباح الخير
يوجد الكثير من المتعلمين والمتخصصين ، ولكن قليلون منهم هم المثقفون والثقافة لاتعني فقط امتلاك أصحابها لبعض المعارف والمعلومات المنقولة من الكتب والمجلات أو الصحف ومن الإذاعات والتلفزيونات ، وإنما الثقافة هي ما يمتلكه المرء من مقدرة تفكيرية ورؤية للعالم والأشياء بصورة أشمل وأعمق ، وقدرة على تمثل كل ذلك في تصرفاته وسلوكه ونمط عيشه وأسلوب حياته وعلاقاته بالآخرين ، بحيث يقدم نفسه للآخرين كمثقف حقيقي على المستوى النظري وعلى مستوى الممارسة الاجتماعية .فالثقافة التي تؤمن لها هنا هي الثقافة السائدة في مجتمع ما ، وهي تشير إلى نوعية هذه الثقافة : هل هي ثقافة تقليدية أو ثقافة أخرى يسعى الناس لإحلالها بدلاً عن الثقافة القائمة، بحيث تكون أكثر إنسانية وأكثر حداثة وحضارة من ذي قبل ، ثقافة تؤسس لمجتمع العدل والمساواة والديمقراطية فعلاً هنا فقط تكتسب الثقافة قدرة تغييرية ، عندما تصبح الثقافة البديلة المنشودة في متناول الشعب كله ، وفي كل مناطق العالم أجمع . فالثقافة بهذا المفهوم معطى تاريخي واجتماعي ، يأخذ بالتحقق بشكل متواتر ومتدرج من مجتمع لآخر ، لأن الثقافة والحضارة العالمية شيئ متكامل ، لامجال فيه للتصارع والتناحر، فالجيد فيها يفرض نفسه ويسود دون أوامر أو توجيهات أو تدخلات من أحد! ، هكذا إذاً تتشكل ثقافة حياتنا الجديدة ، في البيت لم تعد مطبخاً أوسرير نوم فقط ، وإنما تطورت لتصبح مكتباً أو مشغلاً أو معملاً وتتوفر فهي أرقى الأثاث والأدوات المنزلية الحديثة التي تختصر الجهد والوقت ، وفيها أيضاً أحدث وسائل الاتصالات من تلفون وكمبيوتر موصول بشبكة عالمية للمعلومات ، وجهاز لاستقبال الفنون التلفزيونية العالمية .. الخ . وهكذا الأمر في المدرسة الحديثة ، وفي مواقع العمل ومختلف المؤسسات ، صارت الأمور نداء اليكترونياً وبمنتهى الشفافية أو هكذا يراد لها أن تكون ، ولازال في الأمر متسع لكثير من مظاهر ثقافتنا الحياتية الجديدة ، التي لا تخطر على بال البدوي أو القبيلي الأمي القابع خارج الثقافة والحضارة المدنية الحديثة ، والتي تتسرب إليه شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً ، ولا يدركها أو يستوعبها بالسرعة المطلوبة لكن إبنه وأحفاده حتماً يستوعبونها ويفهمونها وسيتعاملون معها كثقافة بديلة وجديدة ومفيدة ونافعة لهم ولمن سيأتون بعدهم وبسلاسة فائقة .هكذا إذاً تأتي سلطة الثقافة لتحل محل سلطة الهمجية والتوحش وسلطات القتل والإبادة والتدمير . ومنذ وقت بعيد ، لكن تبقى مع ذلك كل سلطة العلم والثقافة والمعرفة الإنسانية السمحة هي سيدة الموقف باستمرار ، وبعد كله دوره من دورات الحياة ، ومنعطفاتها الحاسمة تاريخياً.عالمنا يتشكل وفقاً لقوانينه الموضوعية ، وبصورة طبيعية ، رغم الهزات والآلام المفجعة هنا وهناك وهذا يجرى وفقاً للثقافة الإنسانية الموروثة والمكتسبة ، ويجري تصحيح أخطاء هذا العالم بصور شتى ، بعيداً عن العدمية والفوضى والعشوائية المناقضة تماماً للثقافة الجديدة التي ننشدها ، ولا مكان هنا لما يسمى غزوا ثقافياً أو فكرياً ، فكل شيء قابل للتمحيص وإما القبول به أو رفضه من قبل المتلقي ذاته ، وليس بتدخل تعسفي من أحد . ويبقى العنصر الحاسم في الموضوع التجسيد المادي لهذه الثقافة على الأرض ، وفي أذهان الناس وفي نطاق علاقاتهم الاجتماعية بكلتيها ، وفي الكيفية التي يجعلون بها حياتهم ومعيشتهم أجمل وأروع وأكثر إنسانية وعدلاً .