طبول المواجهة بين المناطق الرمادية والزوايا الحادة
في خاتمة مقالنا المنشور في العدد الماضي من هذه الصحيفة أشرنا إلى أنه بقدر ما يؤرخ يوم 22 مايو لميلاد الجمهورية اليمنية الموحدة، وقيام أول نظام سياسي ديمقراطي تعددي منذ قيام النظام الجمهوري في شطري البلاد (1962-1967)، بقدر ما يؤرخ لميلاد أول تجربة ائتلافية حزبية في تاريخ البلاد، انتقل فيها كل من المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني من وضع الحزب السياسي الوحيد في قمة السلطة إلى وضع الحزب المشارك .كان ائتلاف الحزبين موضوعياً بحكم شراكتهما في تحقيق الوحدة ومسؤوليتهما المشتركة عن استكمال توحيد هيئات وأجهزة وقوانين الدولتين السابقتين، وإطلاق مفاعيل الديمقراطية التعددية وتأسيس هياكل الدولة الجديدة خلال فترة انتقالية لا تزيد عن سنتين ونصف . لكن اختلاف الحزبين في فترة الائتلاف كان موضوعياً أيضاً نتيجة للاختلاف الموضوعي بين ذهنيتين وطريقتي تفكير جاءتا من بيئتين مختلفتين من الناحية السياسية والفكرية على نحو ما سبق توضيحه، الأمر الذي انعكس على تفاوت قدرة الطرفين في البحث عن معامل موضوعي آخر لمنع تحول هذا الاختلاف إلى تناقض يؤدي إلى تفجير الائتلاف الذي جاء كمنتج موضوعي للوحدة، حيث كان خروج أي طرف من هذا الائتلاف يعني خروجاً من الوحدة وليس خروجاً من السلطة بحسب ما كان يتصوره البعض في الجانبين.نجح المؤتمر الشعبي العام في توفير محددات الاندماج بالوضع السياسي الجديد بعد الوحدة، حيث طلب من المنضوين في عضوية مختلف تكويناته وهياكله التنظيمية أما البقاء في المؤتمر بوصفه تنظيماً سياسياً لا يقبل الازدواجية الحزبية في داخله، أو الخروج من عضويته وممارسة العمل الحزبي من خلال التعددية الحزبية.. وكان التطور الأبرز في الحياة الداخلية للمؤتمر الشعبي العام هو انسحاب الأخوان المسلمين من عضويته، ومبادرتهم إلى تشكيل التجمع اليمني للإصلاح بالتنسيق مع شخصيات سياسية وقبلية وتجارية أخرى.وبذلك أمكن للمؤتمر أن يتصرف كحزب سياسي منسجم في السلطة التي يشاركه فيها الحزب الاشتراكي اليمني ، بيد أن الوضع كان ينطوي على تناقضات أخرى على مستوى الحزب الاشتراكي وكذلك على مستوى السلطة.. فقد كان الحزب الاشتراكي يتصرف في السلطة بصورة غير منسجمة بسبب وجود جناحين في داخله، أحدهما كان يحكم الدولة في الشطر الجنوبي والآخر يعارض الدولة في الشطر الشمالي.. وبينما كان الجناح الجنوبي معنياً بالائتلاف مع المؤتمر الشعبي العام من أجل استكمال بناء الدولة الجديدة وتوحيد أجهزتها المدنية والعسكرية والأمنية ، ومواصلة السير على طريق الديمقراطية، كان الجناح الشمالي مسكوناً بإرث معارضته الطويلة لسلطة الرئيس علي عبدالله صالح وصداماته الدامية معها، وقد ترتب على هذه الازدواجية دخول الحزب في مأزق حاد، فهو من ناحية شريك في السلطة، ومن ناحية أخرى معارض لدود لها. في الجانب الآخر من الصورة كان المؤتمر الشعبي العام من الناحية النظرية هو الشريك الوحيد للحزب في السلطة، لكن الواقع كان يشير إلى أن التجمع اليمني للإصلاح هو شريك عملي ثالث مع الحزبين، حيث كان لهذا التجمع رجل في السلطة ورجل أخرى في المعارضة. كان التيار الاخواني في التجمع اليمني للإصلاح هو الحزب المعارض الوحيد الذي يشارك في مجلس النواب بكتلة برلمانية كبيرة تصل نسبتها إلى 12% ، فيما كان له حضور نافذ في الكثير من أجهزة الدولة بحكم نفوذه في السلطة منذ عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، ومشاركته في التصدي للمقاومة المسلحة التي قادها الجناح الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني في المناطق الوسطى مطلع الثمانينات، وما ترتب على ذلك من استحقاقات، ناهيك عن سيطرته على نظام تعليمي كامل ومواز للنظام التعليمي الخاضع لوزارة التربية والتعليم، بكل ما ينطوي عليه ذلك النظام من موارد مالية هائلة وجهاز إداري وتدريسي ضخم، وسلطات داخلية وخارجية، حيث جرى استخدام كل هذه المفاعيل لأغراض الاستقطاب الحزبي ، والتأثير في المجتمع، إلى جانب تفعيل علاقاته الخارجية بالجماعات الإسلامية المتطرفة التي كان ينسق معها في استقدام آلاف الإسلاميين العرب إلى الجمهورية للتدريس في المعاهد التعليمية الخاضعة لسيطرته ومن بينهم شخصيات بارزة طردتها الحكومة اليمنية من البلاد في النصف الثاني من التسعينات قبل أن تصبح تحت طائلة الملاحقة من قبل المجتمع الدولي بعد الإعلان عن تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى عام 1998 وتشكيل جهازها السري الخاص والمعروف باسم تنظيم «القاعدة» بعد ذلك ، حيث كان هؤلاء القادمون يشكلون مصدر قوة لدعم نفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح ، وتطوير خبراته في الداخل ، بقدر ما كان وجودهم في اليمن تحت مظلة الإخوان المسلمين يشكل دعماً للحركات والتنظيمات التي جاءوا منها ، وملاذاً آمناً لبعضهم ممن كانت حكوماتهم تلاحقهم بتهمة الإرهاب.هكذا كانت صورة الائتلاف بين شريكي الوحدة شديدة التعقيد منذ بداياتها الأولى.. فالحزب الاشتراكي كان مزدوجاً في موقفه من السلطة.. والسلطة بالمقابل كانت تحمل في أحشائها نوعاً من التماهي الملتبس لجهة المشاركة غير المعلنة للتجمع اليمني للإصلاح فيها.وإذا أخذنا بعين الاعتبار نجاح المؤتمر الشعبي العام قبل الوحدة في تأهيل بيئته السياسية الداخلية بصورة منهجية للتأقلم مع البيئة العالمية والاستجابة للتحديات الديمقراطية، مقابل تخلف كل من الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح في هذا الجانب، فإننا سنجد أنفسنا أمام عملية سياسية ثلاثية الأبعاد وهي الوحدة، الديمقراطية والبيئة الداخلية والخارجية التي تتداخل مع محددات الحلول اللازمة لإشكاليات وتناقضات الفترة الانتقالية.وجد الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح نفسيهما شريكين غير مباشرين في بيئة سياسية جديدة يكاد أن يكون المؤتمر الشعبي العام هو الوحيد الذي بادر إليها وسعى إلى إيجادها، وهيأ نفسه جيداً لها ، بعد أن امتلك القدرة على المبادرة في إطلاق مفاعليها والتحكم بمفاتيحها.. فالحزب الاشتراكي اليمني انتقل إلى بيئة سياسية جديدة وجد نفسه فيها معنياً بإنجاز مشروع جديد للتغيير لم يكن على الإطلاق في أجندته التي رسمت اللجنة المركزية خطوطها العامة في دورتها المنعقدة أواخر سبتمبر 1989، أي قبل شهر واحد فقط من الاجتماع المفاجئ للجنة السياسية المشتركة في تعز، وقبل شهرين من زيارة الرئيس علي عبدالله صالح غير المتوقعة لعدن وتوقيع اتفاق الوحدة، وقبل بضعة أشهر من قيام الجمهورية اليمنية الموحدة.والحال نفسه ينطبق على التيار( الإخواني) في التجمع اليمني للإصلاح الذي أفرط في خطابه السياسي الرافض للوحدة مع ( الكفار) عقب التوقيع على اتفاق 30 نوفمبر 1989، وارتكب خطأ تاريخياً عندما امتنعت كتلته البرلمانية في مجلس الشورى عن التصديق على مشروع دستور دولة الوحدة واتفاق إعلان الجمهورية اليمنية في مجلس الشورى ، تنفيذاً لاتفاق 30 نوفمبر 1989، ومعارضته لدستور دولة الوحدة بعد الاستفتاء عليه من قبل الشعب .. ناهيك عن مواقفه الملتبسة إزاء القضايا الجوهرية المتعلقة بالديمقراطية وما يرتبط به من تعريف لسلطة الأمة ، والدولة والقانون الدولي والعلاقات الدولية وحقوق وواجبات المواطنة المتساوية، وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية الفكر وسلطة الأغلبية ووحدة وتنوع العالم.[c1]خطوط وظلال متداخلة :[/c]على مستوى الاجتماع السياسي كان ثمة حراك معارض للسلطة ومتقاطع معها في آن واحد، حيث حرص الجناح الشمالي للحزب الاشتراكي اليمني على إعادة تعريف الوضع الجديد للحزب خلال الفترة الانتقالية، وذلك من خلال اهتمامه بتشكيل اصطفاف يضم الأحزاب التي كانت قبل الوحدة تعارض سلطة الرئيس علي عبدالله صالح، وصياغة خطاب سياسي وإعلامي معارض لتقاسم السلطة من جهة، وللتجمع اليمني للإصلاح من جهة أخرى، خصوصاً وأن التنظيم السري للإخوان المسلمين في اليمن وجه خطابه السياسي والإعلامي وجند كل طاقاته من خلال حزب ( الإصلاح ) لتشويه صورة الحزب الاشتراكي اليمني وإضعافه والسعي إلى إخراجه من السلطة ، وإضعاف علاقته بالمؤتمر الشعبي العام شريكه في الوحدة والسلطة الانتقالية . في الاتجاه نفسه وكمحصلة موضوعية للحراك السياسي الناشئ عن الوضع الجديد نشطت بقايا المعارضات السابقة للحزب الاشتراكي ونظامه السابق في الجنوب وانخرطت في إطار الاستقطابات التي فرضتها الأدوار المزدوجة لمختلف الأطراف، ما أدى إلى تورّم الحالة الائتلافية بين المؤتمر والاشتراكي وتحولها من الشراكة التي تتطلب بناء الثقة وتعميق القواسم المشتركة كشرط لحماية الوحدة وتعزيزها، إلى الصراع والإفراط في الاستقطاب الداخلي والشكوك المتبادلة. وهكذا أصبح المشهد ملتبساً بين سلطة ائتلاف مخترقة من قبل عدة أطراف معارضة لطرفي الائتلاف من جهة.. وبين معارضات مفترضة لكنها تستمد برامجها ومفاعيل حركتها من تناقضات الائتلاف الحاكم من جهة أخرى. وزاد من خطورة هذا الوضع دخول بعض الخطوط والظلال القاتمة إلى صورة هذا المشهد الملتبس بالتناقضات والتقاطعات والرواسب الموروثة عن حقبة التشطير، حيث أسهمت أعمال العنف والإرهاب والاغتيالات التي حدث بعضها في فنادق مدينة عدن ومطار عدن الدولي مطلع التسعينات واستهدف بعضها الآخر قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي في إلحاق أضرار كبيرة لم تشمل فقط الائتلاف الحاكم بل امتدت لتمس مباشرة البيئة السياسية الجديدة التي كان للمؤتمر الشعبي العام فضل المبادرة في تأسيسها تحت قيادة الرئيس علي عبدالله صالح منذ وقت مبكر بهدف تأهيل اليمن للاندماج في النظام العالمي الجديد ، والاستجابة لتحديات التحول نحو الديمقراطية .. فقد أدت تلك الأعمال الإرهابية إلى إنعاش رواسب النزعات الشمولية القديمة، وإحباط قوى التغيير والتجديد داخل مختلف أطراف المنظومة السياسية للدولة والمجتمع بدون استثناء.. ولم يعد خافياً على أحد ضلوع بعض الجماعات المتطرفة في تلك الأعمال التي أدى دخولها على خطوط وظلال ذلك المشهد الائتلافي الملتبس، إلى تسويد جزء كبير من الصورة الداخلية لأول تجربة ائتلافية في الجمهورية اليمنية. وما من شك في أن التصميم الذي أبدته و لازالت تبديه القيادة السياسية للدولة وقيادة المؤتمر الشعبي العام لمكافحة الإرهاب بكل صوره وأشكاله وتجفيف مصادره ومنابع تمويله ، سيحول دون تسويد صورة المشهد السياسي لبلادنا داخلياً وخارجياً في المستقبل.. ومن نكد الدنيا أن يكون القدر المؤلم لضحايا تلك الأعمال الإرهابية في الحزب الاشتراكي اليمني قد أسفر في وقت لاحق وحتى الآن عن انتقال قيادة هذا الحزب ذي التاريخ الوطني والرصيد المستنير من موقع الحداثة والاستنارة إلى موقع الذين يحاولون اليوم فرض مشروعهم المعادي للعقل والحرية للحداثة والموسيقى والفنون ، وممارسة مختلف الأساليب الملتوية والمموهة لإضعاف تصميم القيادة السياسية للدولة والمؤتمر الشعبي العام وحكومته على مكافحة التطرف و الإرهاب، بعد أن أسهم الإرهاب الذي بطش بالكثير من قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي اليمني ، والحسابات السياسية الضيقة التي أعمت قيادته، في إضعاف قدرة ضحاياه في الحزب الاشتراكي اليمني على التمييز بين الألوان والخطوط والظلال المتداخلة !! في خضم ذلك التداخل والتوازي والتقاطع كان الائتلاف المفترض بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني يواجه أحد خيارين : خيار الإقامة الدائمة في وضع ملتبس تغيب عنه محددات الائتلاف ووظائفه ، وما يترتب على ذلك الخيار من إعادة تعريف الفترة الانتقالية والعواقب الناجمة عنها ، أو خيار إعادة تعريف الائتلاف نفسه، مع المحافظة على المحدّدات والوظائف التي اقتضت قيامه وتُُوجب استمراره .[c1] مشروع دمج الحزبين :[/c]جسد تحول المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني من وضع الحزب الواحد الذي يقود السلطة إلى وضع الحزب المشارك ، إرادةً مشتركة للتغيير الديمقراطي من قبل قيادتي الحزبين اللذين بادرا بصورة طوعية وسلمية إلى تبني مشروع الوحدة والديمقراطية. لعل هذا المشترك السياسي بين القيادتين هو الذي طرح خيار دمج الحزبين، كوسيلة لحماية الوحدة ، وتجنيب البلاد مخاطر حرب أهلية محتملة ، ونزع الألغام من طريق استكمال توحيد هياكل ومؤسسات الدولة خلال الفترة الانتقالية التي لم تؤهلها تناقضاتها وتداعياتها للانتقال السلس من التشطير إلى الوحدة، ومن الشمولية إلى استحقاقات الديمقراطية التعددية .لكن هذا الخيار واجه مقاومة مشتركة من قبل الجناح الذي كان يمثل حزب الوحدة الشعبية (الفرع الشمالي للحزب الاشتراكي) قبل الوحدة ، واللوبي الذي استبقاه التنظيم السري للإخوان المسلمين في اليمن داخل المؤتمر الشعبي العام خلال المرحلة الانتقالية ، إلى جانب التحريض الذي مارسه حزب التجمع اليمني للإصلاح ضد مشروع دمج الحزبين ما أدى الى إجهاضه ، وإفساح المجال لولادة أزمة سياسية حادة على أثر نتائج انتخابات 1993، وصولا إلى قرع طبول المواجهة وإشعال شرارة حرب صيف 1994 وإعلان مشروع الانفصال الذي ولد ميتاً ، على نحو ما سنتناوله بالتفصيل في مقالنا القادم.[c1]* نقلا عن / صحيفة(26سبتمبر)[/c]