أضواء
«المواطنة” ذات بعد أشمل وأعمق من التعلق وجدانياً بحب الوطن، مهما كان هذا الوطن قرية أو مدينة أو إقليم اً أو دولة. فنقطة انطلاق المواطنة هي (المفاعلة والمشاركة) الناتجة عن حب الإنسان لوطنه بكل أطيافه واختلافاته الثقافية. وترتكز المواطنة بدايةً على الانتماء المدني-الحضاري للوطن/الدولة، فيخرج من ذلك التشرذم الناتج عن الانتماءات الفرعية (الأسرة-العشيرة- القبيلة - الطائفة) التي يفترض أن تبقى في فضائها الطبيعي، لكن خطورتها تكمن في طغيانها على الانتماء الوطني. لأن المواطنة ليست مجرد ولاء الشخص لوطن يحمل جنسيته، إنما هي تجسيد فعلي للوحدة الوطنية، من خلال رفض كل ما يهدد وحدة الوطن السياسية والثقافية، ونشر التسامح ونبذ جميع أنواع العنصرية، الدينية والمذهبية والعرقية، والعمل على تأسيس أرضية صلبة لـ”مجتمع مدني” حقيقي ينتمي له كل المواطنين برغبتهم، وتراعى فيه قوانين حقوق الإنسان وتسوده روح الشراكة الوطنية والعمل الاجتماعي المنظم.المفترض أن الذي يثير الوعي بالمواطنة كقضية كبرى هو (المثقف). وهنا تأتي أهمية ممارسة المثقف للتنوير، تعبيراً عن مواقفه الوطنية بحرية واستقلال فكري وذاتي، خاصة إذا ما تعلق الأمر بجوهر الحقوق الإنسانية. فنجد مواقف المثقف تبرز حينما تتعلق الأمور بقضايا الرأي العام؛ فهو يعي أن فكرة المواطنة تتطلب المشاركة، وأن الانتماء لا يعني تقديس الأشخاص والأمكنة والأزمنة على حساب الوطن. ولا تلغي الاختلافات الثقافية أو الفكرية جوهر الحقوق الإنسانية الطبيعية، فالمثقف المؤثر يعتبِر أن واجبه الوطني يحتم عليه الانطلاق من حقه-وحق غيره من الأفراد- في التمتع بالحرية والمساواة. لكن الكثير من المثقفين العرب يتحدثون عن أهمية المواطنة، إلا أنهم يصمتون، أو يغيبون ويختفون، حين يكون الأمر متعلقاً بقضية عامة ترتكز على المبادئ التي أرساها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وفي عالمنا العربي، يحصل أن تغضب أحيانا السلطة السياسية أو الاجتماعية على المثقف الذي يبرز دفاعاً عن منظومة القيم التي يؤمن بها؛ ولذلك من الطبيعي أن يبقى دوره مقيداً ومحدوداً فيصبح العبء عليه مضاعفاً في تلاقي الدولة والمجتمع لئلا تلغي الدولة دور المجتمع أو يلغي المجتمع دور الدولة من خلال تضخم دور القبيلة أو الطائفة أو الحزب؛ فوجود الوطن المتكامل شرط للنهوض والخروج من دائرة التخلف والتمزق الثقافي أو السياسي، ولكن قد يجد المثقف نفسه أمام أول عوائق المواطنة، المتمثلة بفقدان حرية التعبير التي ينتج عنها فقدان البيئة الحافزة على التفاعل الخلاّق بين أبناء المجتمع الواحد. ولربما شعر المثقف بالقزامة أمام جسامة الدور الذي ينبغي عليه القيام به كفرد مؤثر في المجتمع، ليجد بعض المثقفين أنفسهم مجبرين على الانتحاء بشكل أو بآخر، فيضطر بعضهم أن يضع نفسه في مواجهة السياسي، فتكون هناك هوة عميقة و”أزمة ثقة” بين الطرفين.ولكن أهمية المثقف على المستوى الوطني يجب أن تبقى لكي يكون هناك نوع من التوازن؛ فبقاء المثقف كجزء مؤثر في النسيج الوطني يحتم عليه إعادة النظر في موقعه المشهور عنه منذ خمسينيات القرن الماضي، الذي يتخذ شكل المعارضة الدائمة التي تفسر بأنها عبثية أحياناً، حتى لو لم تكن كذلك. ومن الضرورة بمكان ألا تتناقض المواقف مع القيم الثقافية التي يتبناها، ولكن لكي يبقى المثقف في إطار المواطنة والهم الوطني عليه أن يكون “مستقلاً” من الناحية السياسية كما الناحية الفكرية تماماً؛ بأن يكون منطقياً في أحكامه، فيشجع الخطوات الجيدة التي تخطوها السياسة، مثلما يقوم بالضبط بانتقادها حين لا تكون خطواتها جيدة، وهذا يعني ابتعاده عن المواقف الأيديولوجية حتى ولو كان لديه اتجاه سياسي معين، فمثلاً: ليس منطقياً أن يؤيد حكومة بلاده حين تغزو دولة أخرى، كما حدث عقب احتلال النظام العراقي السابق لدولة الكويت، حيث أفرزت تلك الأزمة انحياز بعض المثقفين العرب للدولة الغازية، بدعوى العروبة والقومية! ومن الأهمية ذاتها ألا يتحول المثقف إلى “التطبيل” السياسي، وإلا فقد قيمته وأصبح في خانة (أشباه المثقفين) الذين هم أبعد ما يكونون عن المواطنة بمواقفهم القائمة على الخداع والتسطيح، ومهاجمة أفكار التنوير بدعوى الوطنية أو الدين. ومن المحتمل أن يكون (شبيه المثقف) وجهاً آخر للسياسي في مواقفه التي يهدف منها إلى الوصول لغايات ذاتية النزعة، وذلك حين يكون في أحد مواقع السلطة، ولا سيما السلطة الثقافية، فيتجه للإلغاء والإقصاء بعد أن كان يحاربه ويمقته. فالمواطنة الحقيقية لن يتمثلها المثقف إلا حين يتبنى مواقفه المستقلة ذاتها سواء كان داخل سلطةٍ أو خارجها. كما أن المواطنة تبقى هي ذاتها في السلم والحرب، بل إنّ فعالية المثقف في المواطنة تتضح أثناء الأزمات. وقد أبرزت حادثة الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها، قيمة رؤى المثقف وتجسيده للمواطنة. فعلى سبيل المثال، قام المثقفون السعوديون بدور مهم في رفض وزعزعة الأسس التي يقوم عليها “الإرهاب”، ولم تكن طروحاتهم محل ترحيب من بعض قوى المجتمع آنذاك، وكثيراً ما يتم وصفهم بأنهم “ليبراليون” أو”علمانيون”، وهذا يعني في قاموس (البعض) المروق من الدين الإسلامي، وما زالوا يُتهمون بأنهم يشكلون طابوراً خامساً مؤدين دوراً مرسوماً لهدم الإسلام من قبل القوى الغربية. ومهما يكن الأمر، تعبِّر مواقف المثقفين (الجدلية) عن هموم المجتمع واحتياجه للتسامح، والعيش المشترك، والوحدة في إطار التعدد الثقافي. ولهذا بدأت تأخذ طروحات المثقفين حيز الاهتمام والاقتناع تدريجياً، بعد أن كانت مرفوضة سابقاً. كالدعوة لمحاربة التطرف فكرياً، بالقدر ذاته الذي يحارَب فيه الأشخاص المتطرفون. كما أن بعض العلماء ربما أخذوا يفكرون بآراء بعض المثقفين التي طرحوها على مدى سنوات، ومنها مثلاً ما يخص الدعوة للاستفادة من التقنيات الحديثة لتحديد الأشهر الهجرية وخاصة بداية شهري الصيام والحج وعيديهما، ويبدو أن من بين علماء الدين من اقتنع بهذا الرأي فحدثت بين بعضهم خلافات حيال هذه القضية. هنا يمكن ملاحظة دور المثقف في تجسيد المواطنة، وهو الدور المرتبط بفكرة “التنوير”، حيث لا مواطنة للمثقف دون ممارسة دوره التنويري، بعيداً عن اللجوء إلى الشعارات البراقة، انطلاقاًَ من مبادئ حقوق الإنسان، والتي تصون الحريات وتوفر الكرامة الإنسانية، فالمثقف ربما يعي جيداً أن الهدف الأسمى هو عزة الإنسان في وطنه. [c1]* عن / صحيفة “الوطن” السعودية[/c]