أضواء
إنّ معظم الدعوات الدينية التي كانت تطرح نفسها كفكرٍ ذي نظرية شمولية كانت تتحوّل تدريجياً حين تصل للسلطة السياسية وتدخل في تعقيدات المشاكل التي يفرضها الزمان والمكان وتداخل حاجات البشر وتقلباتهم، حينذاك تبدأ هذه الدعوات بهذه الدرجة أو تلك في التخلّي التدريجي عن أصولها الصارمة التي انطلقت منها، وتبدأ في الميل إلى اكتشاف “مخارج للتنفيس” في أطراف بنيتها الأصولية وخطابها الشمولي، لأنّ حاجات الراهن واليومي وتحديات الواقع تفرض نفسها بقوةٍ، وحين تعجز الأصول الصارمة عن احتوائها يكون اللجوء إلى أطراف النظرية والقواعد الجانبية أكثر إلحاحاً.لم تكن الدولة الإسلامية حين قامت في المدينة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم تواجه تحديات واقعية كبرى، وحين تواجهها، فإن الوحي كان غضاً طرياً يتنزّل أناء الليل وأطراف النهار، والرسول بين ظهراني الأمة يشرّع ويفصل النزاعات. فيما بعد، وعندما تطوّرت الدولة الإسلامية وتوسّعت في عصر عمر، كانت الحاجة ملحّةً للخروج من أسر الأصول الصارمة إلى تخوم هذه الأصول، وإلى القواعد على جانبيها، وتوسيعها واعتمادها كمرجعية لحلّ مشكلات الواقع، والأمثلة على هذا كثيرة في عصر عمر منها تدوين الدواوين، ومنها أرض السواد، ومنها عام الرمادة، ومنها حبس أصحاب الرسول في المدينة، وغيرها.في الدولة العبّاسية التي كانت دولة قد قامت على أساس دعوةٍ دينية وعلى أساس التماهي مع الدين والشريعة، هذه الدولة عندما استتبّ لها الأمن واستقرّ حكمها، لم تستطع أن تبقى على جمود الأصول الصارمة التي قامت عليها، بل كانت مضطرةً إلى تطوير أجهزة الدولة بعيداً عن الأصول الصارمة، وهكذا تدخّلت الحضارة الفارسية وإرثها في إدارة الدول إلى صلب هذه الدولة، وتمّ تنظيم الدولة بشكلٍ شبه كامل من خلال الإرث الفارسي في الحكم وإدارة الدول، بعيداً عن الذين كانوا لم يزالوا يتشبثون بالأصول الصارمة ويطرحونها نظرياً ويصرّون عليها في المساجد وحلقات العلم ومجالات الجدال النظري، بعيداً عن الواقع وضرورات تنزيل النظريات على الأرض. واستمرت الدولة العبّاسية في الابتعاد عن الأصول الصارمة حتى بلغت ما بلغته من التوسّع والنفوذ والتطوّر في شتى المجالات.وفي الدولة العثمانية، كان الأمر كذلك فقد قامت دولة العثمانيين على أصول صارمة لم تلبث أن تخلّت عنها أمام تحديات الواقع، الذي حاولت تجاوزه من خلال مواقف كثيرة منها محاولات تقنين الشريعة، ومن خلال القوانين في عهد سليمان القانوني، الذي كان قائداً تاريخياً في مسيرة استقرار الدولة العثمانية وتطويرها.وفي الدولة السعودية كان الأمر كذلك، وتحديداً في الدولة السعودية الثالثة، فقد كان الفرق واضحاً لدى الملك عبدالعزيز بين المنظّرين الذين يتشبّثون بالدعوة الدينية وأصولها الصارمة، وبين العاملين على التطبيق في مؤسسات الدولة، ففي حين كان الأولون يكتفون بالتشبث الأيديولوجي بالأصول الصارمة، كان العاملون في الميدان ينطلقون من القواعد الجانبية لتلك الأصول، ومن المفاهيم المهمّشة نسبة للأصول الصارمة، حتى يضمنوا الاستجابة المثلى لتحديات الواقع، ولكن من خلال “مخارج التنفيس” التي تقدمها المفاهيم المهمّشة في متن الدعوة الأصلي. فقد كان مستشارو الملك السياسيون ووزراؤه في غالبيتهم العظمى، إنْ لم يكن كلّهم، من العاملين لا من المنظّرين.كانت الأمور تسير وفقاً لهذه المعادلة التي تجعل المنظّرين مطمئنين لثبات الأصول الصارمة يأخذون فيها ويعطون، يتناظرون ويتناقشون في عالم النظريات ما شاءوا، والدولة تسير وفق رؤية العاملين الذين ينطلقون من حاجات الواقع وشروطه، ويروضون للحلول هوامش الأصول الصارمة، حتى جاء عهد الملك فيصل فكان التنافر على أشدّه، وكانت ضرورات الواقع وحاجات الدولة تفرض تطويراً كبيراً يمسّ بعض الأصول الصارمة بتأويل جديدٍ يبعدها عن صفائها المتخيّل لدى المنظّرين، فكانت مناطق اصطدام عديدةٍ عبّرت عن نفسها في أكثر من موقعٍ، في عظائم الأمور وفي صغائرها، مثال العظائم كان في موضوع إصدار الأنظمة والقوانين العامة والخاصة التي كانت حاجة ملحة للدولة، وكانت تعتبر لدى المنظّرين “كفراً” أو “ردةً” أو “خروجاً عن شريعة الله” حسب تعبيراتهم بأنفسهم، ومثال الصغائر موضوع نقل المقام أو تعليم البنات أو غيرها من المواضيع الكثيرة التي اصطدمت فيها حاجات الدولة، بتمسك المنظرين الجامد بالأصول الصارمة، وقد استطاع الملك فيصل حلّ هذه المشكلة، من خلال جلب عدد من الفقهاء الأكثر اعتدالاً وتفهّماً لحاجات الواقع من خارج البلاد، والذين انطلقوا من خلال أصول هامشية بالنسبة لهذه الدعوة حتى استطاعوا تقديم التبرير الديني للحلول المطروحة لحلّ هذه الحاجات الملحة للدولة، واتخذ الملك قراراته بناء على ذلك وطبّقها بقوّة الدولة وسلطتها.بل حتى حركة “طالبان” التي تمثّل نموذجاً صارخاً للتمسّك بالأصول الصارمة التي قامت عليها، عندما استقر لها الحكم كانت مضطرةً لتغيير خطابها وخاصة فيما يتعلّق بالأمور الخارجية، فكانت تطالب بالانضمام لمجلس الأمن مع أنّ هذا يمثّل خروجاً على أصولها الصارمة، وغيرها من تصرفاتها، ولو كتب لها الاستمرار، فإنها بالتأكيد كانت ستخضع لحاجات الواقع وشروطه وضروراته.دائماً ما يكون الفارق كبيراً بين أيّة نظريةٍ وتطبيقها على الواقع، فالتنظير يكون معنياً في الغالب بالتصورات الذهنية لوضعٍ معين، ورسم الطرق لجعله وضعاً مثالياً يحتوي على جميع الإيجابيات وينفي جميع السلبيات، ولكنّ تنزيل هذا التنظير على أرض الواقع يخضعه لاختباراتٍ عسيرةٍ ولتحدياتٍ أعسر، وغالباً ما يسعى القائمون على التطبيق بتجاوز صرامة النظريات ومنظريها والتعامل مع الواقع كما هو واجتراح الحلول الواقعيّة والعملية وتطبيقها، واستيعاب ردّة فعل الغارقين في التنظير بشكلٍ أو بآخر، حدث هذا في التاريخ الإسلامي كما سبقت الإشارة، كما حدث مع الثورة الفرنسية وكما حدث مع النظرية الماركسية وتطبيقاتها المختلفة في روسيا والاتحاد السوفييتي أو في الصين وغيرها من الدول، إنّه الواقع سيّد الأحكام الأقوى من جميع النظريات والآراء.يعلّمنا التاريخ أنّ الدول التي تعجز عن الانعتاق من أصولها الصارمة وتطوير نفسها وإداراتها وتصوّراتها هي دولٌ محكومٌ عليها بالضعف فالانهيار، وفي التاريخ الإسلامي كان الأمويّون نموذجاً على هذا، وكان العبّاسيّون نموذجاً على القدرة على الانعتاق والتطوير، ولذلك كان عمر دولة الأمويين يقارب القرن فيما دولة العباسيين قاربت الخمسة قرون.طبيعة الأيديولوجيا التي تقوم عليها الدول هي طبيعة ثوريّةٌ، تجمع الأصول الصارمة مع الحماسة الشديدة واليقين الجارف والطموح اللامحدود، ثم لا تلبث هذه الدول أن تواجه مشكلات صرامة هذه الأيديولوجيا وانعدام مرونتها فتضطر عندئذٍ- إنْ أرادت البقاء- إلى تبديل هذه الأيديولوجيا التي هي “أيديولوجيا ثورةٍ” وتنتقل منها إلى “أيديولوجيا دولةٍ” والفوارق بين الاثنتين أكثر من أن تحصى، ويكمن الفرق في عملية الانتقال بين من يتبنّى طريقة انتقال راديكاليةٍ صارمةٍ أيضاً، وبين من يختار طريقة انتقال سلسة وتدريجية. [c1]- عن / صحيفة “الاتحاد” الإماراتية[/c]