رفعت سلام .. شهادة شاعر من هذا الزمان
كتب / محمد الحمامصي أثار كتاب (بحثًا عن الشعر) للشاعر رفعت سلام، الذي صدر مؤخرًا ضمن سلسلة (كتابات نقدية)، جدلاً كبيرًا بين النقاد في الأمسية التي خصصت لمناقشته، بقصر السينما، وأدارها د. محمد بريري، فيما شارك فيها د. محمود الضبع ود. هيثم الحاج علي، في حضور المؤلف.في تقديمه للندوة، أكد د. بريري على ندرة الكتابات النقدية للشعراء المقتدرين، الذين يكشفون المنطلقات “الإبداعية” و”النقدية” للعملية الشعرية، مشيرًا إلى أن كتاب “بحثًا عن الشعر” هو أحد هذه الكتابات النادرة، من شاعر كبير، بالرغم من أنه مبنيٌّ من مجموعة من المقالات المكتوبة والمنشورة في أوقات متفرقة. لكن إحكام البناء الداخلي لا يغيب عنه، مضيفا أن بنيته تعرف البداية (في انطلاقه من رواد قصيدة التفعيلة: نازك الملائكة، الحيدري، لويس عوض..)، لكن نهايتها مفتوحة على القادمين من الشعراء. واقترح بريري على الشاعر تقديم إضاءة عن الكتاب، قبل المناقشة.واعتبر الشاعر رفعت سلام كتابه بمثابة شهادة شاعر من هذا الزمان، شهادة وعي شعري بهذا الزمان، وقضاياه وإشكالياته الشعرية. شهادة امتدت على مدى ربع قرن من الكتابة الأليمة، بحثًا - آناء الليل وأطراف النهار- عن الوردة المستحيلة: الشعر.وأضاف : إن صفحات الكتاب هي خُطاي على الطريق الذي لا ينتهي، كل صفحة خطوة، أو سؤال. خُطًى تضرب هنا وهناك، بقدر ما يمتلك المرء من بصر وبصيرة، تتحسس الأرض والتضاريس، وتبحث عن الطريق. وهكذا، ينطلق الصوت بكل طبقاته، الصارخة والهامسة، المتعقلة والمجنونة، المتشاجرة والمتسامحة، المدافعة والمتهجمة (فهو صوت يختصر الذات، أو يريد ذلك). بذلك، يتجاوز فعل الكتابة صورته التقليدية كفعل تأملي، هادئ، رصين، إلى فعل مفعم بالغليان والعنفوان الروحي، بما قد يتجاوز طاقة الجسد - أحيانًا - على الاحتمال.وتساءل رفعت سلام: هل يمكن للكتابة أن تختصر الروح، أو تكون تجسيدًا ماديًّا لها؟ منتهيًا إلى أنه لم يكتب كتابًا في النقد الأدبي، بل كتب - كشاعر - شهادته على ربع قرن من الشعر، المصري والعربي، مشتبكا مع الأسئلة المطروحة، لا للتوصل إلى إجابة ما، بل لتوسيع الأفق - ولو قليلاً - أمام البصر والبصيرة.وأكد د. محمود الضبع - في كلمته - على أهمية الكتاب وصدوره في هذا التوقيت؛ لكنه تساءل عن طبيعته باعتباره مؤلفًا من مقالات منفصلة، وليس مؤلَّفًا - من الأصل - ككتاب واحد، مشيرًا إلى أن هذه الظاهرة - ظاهرة الكتاب المؤلف من مقالات - قد بدأت مع د. محمود الربيعي، مشددًا على أنه يتساءل عن الظاهرة كظاهرة، دون موقف معين منها.وقال إن الكتاب كان يحتمل عنوانًا آخر، هو “شعراء السبعينيات”، باعتباره القضية الأكثر محورية بالكتاب، متفقًا مع ما طرحه د. بريري على أهمية القسم الذي يتناول ظاهرة شعراء السبعينيات بالكتاب. لكنه رصد انتقاد المؤلف - في بعض الفصول - لقلة الأعمال النقدية التي تتناول “شعراء السبعينيات”، مشيرًا إلى الكثير من الأطروحات الأكاديمية والكتب التي تتناول هذا الجانب أو ذاك من هذا الجيل الشعري. وقال د. هيثم الحاج علي إن المؤلف لم يشر صراحة إلى منهجه، إلا أنه انطلق دائمًا من “الشعرية” و”التأويلية”، في جميع نصوص الكتاب.. متطرقًا إلى فكرة “الجيل الشعري”، التي رأى أنها تنطبق- نقديًّا- على “جيل السبعينيات” الشعري، دون أن تعني أن ينشأ جيل إبداعي كل عقد من الزمن، بالإشارة إلى “جيل الثمانينيات” في الشعر المصري.وأبدى ملاحظة أن المؤلف لم يهتم برصد أسماء شعراء التسعينيات، عند كتابته عن تجربتهم الشعرية. فيما اعتبر فصل “الترجمة” و”زمن الرواية” خارجين على سياق الكتاب. وبرر غياب الكتابات النقدية عن تجربة “شعراء السبعينيات”، أو تأخرها إلى سنوات لاحقة، بأن “المعاصرة حجاب”، تعيق الرؤية.لكنه تساءل عما إذا كان المؤلف يحاول تبرئة ذمته من “شعراء التسعينيات” بالكتابة عن قصيدة النثر، في ضوء موقف غالبية أقرانه منهم! ليختتم كلمته بالثناء على جرأة د. صلاح فضل في نشره الكتاب ضمن سلسلة “كتابات نقدية” التي يشرف عليها.ولدى فتح الباب للنقاش، رد الكاتب أحمد حسن على هيثم الحاج علي بأنه بغمزه - بصورة غير مباشرة - في صلاحية الكتاب للنشر ضمن سلسلة “كتابات نقدية” إنما يكشف عن مفهوم منغلق لماهية “النقد”، باعتباره عملاً ذا حدود مغلقة ونهائية، غير قابلة للاختراق.وأبدى د. مصطفى الضبع اعتراضه على ما طرحه هيثم الحاج علي من خروج الفصل الخاص بالترجمة على سياق الكتاب؛ مؤكدًا أهميته القصوى، في ضوء انتشار التخريب متعدد المستويات للكتب المترجمة، سواء كانت نقدية أو إبداعية، بحيث بات من الصعب - حسب قوله - العثور على كتاب سليم الترجمة. وضرب مثلاً إيجابيًّا بعكوف صالح علماني على ترجمات أدب أميركا اللاتينية، باعتباره مثلاً نادرًا في حقل الترجمة العربي الجاد والرصين.وأضاف - من ناحية أخرى- أن الكتاب يُعتبر نموذجًا رفيعًا في إحكام بنيته، رغم تنوع الموضوعات، وأوقات نشر فصوله في الدوريات المختلفة، حيث عكف المؤلف - على طريقة الشعراء الكبار- على عناصر عمله، وألف منها بناءً محكمًا. أطالب كثيرًا من المؤلفين بتأمله.أما د. صلاح فضل، فأكد أن جميع من كتبوا عن ظاهرة “شعراء السبعينيات” لابد أن يراجعوا كتاباتهم بعد صدور هذا الكتاب الهام، على ضوء ما قدمه من أطروحات جادة وعميقة، من أحد شعراء السبعينيات المهمين، وخاصة أنه يمتلك أداته النقدية بشكل لافت للنظر.وأضاف أن فرادة الكتاب تكمن في أنه “وثيقة” هامة تصدر من أهم الشعراء، وهو ما ينقصنا كثيرًا في الساحة النقدية المصرية والعربية. فمن النادر أن يمتلك الشاعر - على ما امتلك رفعت سلام - أداته وبصيرته النقدية العميقة إلى جانب بصيرته ومقدرته الشعرية العميقة. وعندما يحدث ذلك - كحالة نادرة - فلا بد للنقاد من أن ينصتوا جيدًا لما يُقال، ويعيدوا النظر في رؤاهم وأطروحاتهم النقدية.وقال إن طريقة بناء الكتاب - التي يطرحها “بحثًا عن الشعر” - ليست بدعة غريبة، بل هي شائعة في أدبنا العربي والأدب العالمي، لدى طه حسين والعقاد وغيرهم، ولدى ت. إس. إليوت، في الكثير من أعمالهم الهامة المنشورة.وأضاف أنه سبق أن كتب عن مفهوم “الجيل الأدبي”، باعتباره ذلك الذي يستمر ثلاثين عامًا، وليس عشر سنوات كما هو شائع في الوسط الثقافي. وهي الفترة الزمنية الكافية للصعود الإبداعي وتأكيد المنجز الأدبي.والكتاب - الذي يقع في 570 صفحة من القطع المتوسط - يضم خمسة أقسام، فيما بعد المقدمة الموجزة. يضم القسم الأول “أحجار” دراسات ومقالات عن ديوان “بلوتولاند” للويس عوض، والتجربة الشعرية لدى بُلَند الحيدري، ونازك الملائكة، وبنية الشعر الفلسطيني، وشعرية محمود درويش، والحداثة الشعرية في ليبيا، والثوابت والمتغيرات لدى أمل دنقل، وقصيدة سعدي يوسف مفتوحة الأبواب والمصاريع، وتجربة الشاعر الكردستاني جلال الدين الزنكبادي. أما القسم الثاني، فيضم مقالات الشاعر عن تجربة شعراء السبعينيات في مصر، جذورها وتوجهاتها الأساسية، وعلاقاتها بالتيارات الشعرية المختلفة، وملابسات صعودها المفاجئ ابتداءً من مجلة “إضاءة 77”، ومناقشة نقدية - حادة أحيانًا - للأطروحات التي واجهتها خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ومعالجة نقدية لبعض الدواوين الصادرة لبعض شعرائها. ويجمع القسم الثالث كتابات الشاعر عن “قصيدة النثر” المصرية والعربية، وما يطرحه واقعها من قضايا وإشكاليات، شعرية وثقافية ابتداء من مرجعيات قصيدة النثر المصرية والعربية، إلى طبيعة ودلالة الاستقبال الثقافي العربي لها، إلى نقد أطروحات الأكاديمية الفرنسية سوزان برنار في كتابها الشهير “قصيدة النثر”، إلى تخصيص دراسات مستقلة لعدد من الأعمال الشعرية، انطلاقًا من أنسي الحاج وتأسيس قصيدة النثر العربية، إلى ديوان “مدخل إلى الحدائق الطاغورية” أول ديوان مصري في قصيدة النثر، ثم ديوان “مُهمَل” لعلاء عبدالهادي، وصولاً إلى ثلاثة دواوين لعلاء خالد وأسامة الديناصوري وعماد فؤاد.ويقدم رفعت سلام في القسم الرابع - قراءته النقدية في عدد من الأعمال الصادرة أواخر القرن الماضي وأوائل الحالي، المتعلقة - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - بقضايا الشعر، ككتاب “زمن الرواية” للدكتور جابر عصفور، ورباعية محمد بنيس النقدية في إعادة بناء الشعر العربي الحديث.وفي القسم الأخير، يعتمد الذاكرة والتأمل في كتابته عن صلاح عبدالصبور، ومناقشته لمعركة أدونيس مع أحمد عبدالمعطي حجازي، وحضور الشاعر اليوناني كوستيس موسكوف في فضاء القاهرة والشعر، وترجمة الشعر، ويانيس ريتسوس شاعر البساطة الماكرة.