خلال هذا الأسبوع وجهت جماعة متطرفة تطلق على نفسها اسم جماعة (( المناصرون لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام )) رسائل عبر البريد الألكتروني إلى (31) من الكتّاب والباحثين والنشطاء الحقوقيين، معظمهم من مصر، ويعيشون إما داخل مصر أو خارجها، وفي مقدمتهم المفكر الإسلامي المعروف جمال أحمد البنا ، شقيق الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الذي يعيش في مصر .اللافت للنظر أن الرسائل التي وقعها (( أمير الجماعة أبو ذر المقديشي )) تضمنت تهديدات صريحة بقتل أولئك المفكرين و الكتاب والباحثين والناشطين الحقوقيين ، وسبي نسائهم ما لم يعلن هؤلاء الكتاب والناشطون " توبتهم و براءتهم " من كتاباتهم وآرائهم في ذات الصحف التي ينشرون بها مقالاتهم وبحوثهم !!ومضى البيان قائلاً (( نحن جماعة " المناصرون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وبعد مداولتنا ومشاورتنا مع إخواننا من إمراء الجماعات والتنظيمات الإسلامية في أرض الإسلام، وبعد إطلاعهم على ما توصلنا إليه في مجلس شورى الجماعة من محاكمة لرؤوس الفتن والردة وإنكار الدين وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وجهرهم بكفرهم ودعوة الناس إليه .وبعد مفارقتهم جماعة المسلمين، وخروجهم من حظيرة الدين، وموالاتهم علناً لأئمة الكفر وعبدة الصليب والأوثان من المسيحيين والنصارى، وحضور مؤتمراتهم ومناصرتهم على شيوخنا وعلمائنا وطلبهم ان تكون ولاية بلادنا من حقهم، وتعاملهم مع أبناء القردة والخنازير من بني إسرائيل، ومؤازرتهم ومناصرتهم على إخواننا في ارض قبلتنا الأولى .فقد قرر مجلس شورى الجماعة، منح من صدر بحقهم أحكام الردة وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضروره وتبديل دينهم ومفارقتهم للجماعة، وما عليه أمر المسلمين مهلة ثلاث ليال لإعلانهم عن توبتهم والتبرؤ من كتاباتهم في إنكار سنة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم وموالاتهم لبلاد الكفر وولاتها، وإشهار هذه التوبة وإعلام الناس بها على مواقع الصحف التي كتبوا عليها، وألا يعودوا لمثل هذه الأقوال والأفعال والكتابات مرة أخرى، وإن لم يستجيبوا لله وللرسول، فإننا سنتعقبهم في كل مكان وكل زمان، وما هم عن سيوف الحق ببعيدين وإنهم لأقرب من سيوفنا من شراك نعلنا، فهم تحت سمعنا وبصرنا ليل نهار وإننا لعلى معرفة كاملة وعلم تام بجحورهم وتواجدهم، وأماكن معيشتهم، ومدارس ابنائهم وأوقات تواجد أزواجهم بمفردهم في بيوتهم، وإننا أصدرنا أوامرنا لجند الله بتنفيذ امر الله فيهم ليتقربوا بدمائهم إلى الله، وحرق بيوتهم، وإننا نحمد الله ان كثيرا من رؤوس الكفر والإلحاد لا توجد في أرض الإسلام كي لا تلوث ديار الإسلام بدمائهم النتنة الزفرة بل هي في ديار الكفر بلاد عبدة الصليب والطاغوت والوثنية، بلاد أميركا وكندا وسويسرا وإيطاليا، وإن كانت أذيالهم في بقعة من أرض الإسلام فلنغسلن أماكن ذبحهم وجز رقابهم سبع مرات إحداهن بالتراب لنطهرن أرض الإسلام من نجاسة دمائهم، ولنسبين نساءهم ولنتخذن من ذراريهم عبيدا وإماءا لنا، ومن اموالهم غنيمة ولنطبقن فيهم حكم الإسلام ولمن قتل منهم أحدا فله سلبه )) .والحال ان الساحة العربية وتحديداً البلدان المجاورة شهدت خلال الفترة الأخيرة موجة متصاعدة من الغضب والقلق إزاء تزايد خطر التطرف والغلو والإرهاب الذي يهدد الأمن والاستقرار بقدر ما يهدد الميول والتوجهات الاصلاحية التي تستهدف تأهيل العالم العربي والاسلامي للتعامل مع التحديات الحضارية في هذه الحقبة من عصرنا. لعل أهم ما يميّز الرفض الشعبي للإرهاب إجماع كافة قوى المجتمع العربي على ضرورة تجفيف منابع الغلو والتطرف والتعبئة الخاطئة ، ومحاصرة ثقافة التكفير والتشدد والإلغاء التي تنتشر من خلال مدارس دينية واعمال دعوية وجماعات حركية تتغطى بالاسلام السياسي ، وتفرز في نهاية المطاف تطرفا مدمرا ً و إرهاباً قاتلاً بغطاء ديني زائف .في هذا السياق يكتسب موقف علماء الدين المستنيرين والمفكرين الاسلاميين الذين ناهضوا الأفكارالمتطرفة والجماعات الضالة أهمية حيوية لجهة الإدانة القاطعة لجرائم الارهاب ومخاطر ثقافة التطرف التي اجتاحت البلدان العربية و الاسلامية خلال العقدين المنصرمين بدعوى الجهاد في سبيل الله و حراسة الدين في الدنيا ، وجاء موقف العديد من المفكرين الاسلاميين وعلماء الدين المسلمين حاسماً في إيضاح حكم الدين في هذه الجرائم ومرتكبيها، وتبرئة العقيدة الإسلامية السمحاء من المفاهيم المغلوطة والمشوهة والأفكار المتطرفة التي تتعارض مع صحيح الدين وقيمه الإنسانية النبيلة.في بلادنا سبق لعلماء الدين الأفاضل أن أبدوا قلقهم في أكثر من مناسبة إزاء مخاطر الغلو والتطرف على السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية والمصالح العليا للبلاد، ولم تتردد جمعية علماء اليمن اثناء احداث صعدة صيف عام 2004 في الدعوة إلى توحيد مناهج العلوم الشرعية حرصاً على وحدة وتماسك المجتمع ، وحماية للجيل الفتي والأجيال القادمة من الآثار المدمرة التي تتركها الأفكار المتطرفة في عقول ونفوس بعض المتأثرين بها من الشباب.قال علماء اليمن كلمتهم الفاصلة ، بكل شجاعة ومسئولية ، وجسدوا بهذا الموقف التاريخي إخلاصهم لدينهم ومجتمعهم ، ورفضهم كل أشكال التعبئة الخاطئة للشباب ، بما فيها تلك التي تختفي خلف واجهة تدريس العلوم الدينية من خلال مدارس ومراكز ومعاهد خارجة عن النظام التعليمي العام والجامعي، وممولة من جهات غير معروفة، وترمي إلى تحقيق أهداف وغايات لا تتفق مع احتياجات مجتمعنا للتنمية والديمقراطية والتسامح والوحدة.لا ريب في أنّ تعليم العلوم الشرعية واجب على الدولة المسلمة التي تقع على عاتقها وحدها مسئولية تحديد الأهداف الإستراتيجية للتعليم ومخرجاتها ، وصياغة المناهج التعليمية اللازمة لبناء الأجيال الجديدة وإعدادها للنهوض بمسئوليات المستقبل . ولئن كانت السياسة العامة للدولة وقوانينها النافذة تفسح المجال لمشاركة المجتمع - من خلال القطاع الخاص - في بناء وامتلاك وإدارة المشاريع التنموية في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية ، في إطار إستراتيجية وطنية شاملة للتنمية ، فقد سمحت الدولة للقطاع الخاص بالمشاركة في تحقيق أهداف السياسة التعليمية الوطنية من خلال الاستثمارات الخاصة في قطاع التعليم الأساسي والثانوي والجامعي ، على أساس الالتزام بالقوانين النافذة والمناهج التعليمية الوطنية المعتمدة رسمياً.لقد انتشرت في الآونة الأخيرة - كالفطر - معاهد ومدارس ومراكز تقوم باستقطاب آلاف الدارسين الذين يتلقون (علوماً شرعية) وفق مناهج خارجة عن الإستراتيجية الوطنية للتعليم ، وغير خاضعة لقوانين الدولة التي تنظم قواعد وإدارة المدارس والمعاهد الخاصة، وشروط القبول والامتحانات فيها، والشهادات التي تصدرها وفقاً لمناهج التعليم العام والجامعي، وبما يحقق أهداف السياسة التعليمية العامة للدولة.الثابت أنّ هذه المدارس والمعاهد تعتمد في تدريس طلابها على مناهج وافدة ومتناقضة ومتعادية في آن واحد ، وتسعى إلى تشكيل وعي وسلوك ونمط حياة الدارسين فيها بروحٍ التشدد والتعصب وكراهية الآخرين والتميز والدروشة والانعزال داخل المجتمع .. بل أنّ بعضها يحرض علناً ضد الديمقراطية ويجاهر بتكفيرها ويصف المجتمع بالجاهلية ، وما يترتب على كل ذلك من مخاطر تهدد الأسس الدستورية للنظام السياسي ، وتلحق الضرر بوحدة المجتمع وتماسكه . إنّ توحيد مناهج العلوم الشرعية في إطار الإستراتيجية الوطنية الشاملة للتعليم الأساسي والثانوي والجامعي، يجب أن يتزامن مع تصحيح الأوضاع الخارجة على القانون لهذه المدارس والمعاهد، وإخضاع مصادر وطرق تمويلها للقوانين المنظمة للاستثمارات الخاصة، والعمل الخيري ، والتصدي بحزمٍ لكل ما من شأنه تحويل هذه المدارس والمعاهد (الدينية) إلى بؤر لاختراق السيادة الوطنية وتزييف عقول الناشئة ، ومنابع لتغذية منابع التطرف والإرهاب ، وإثارة الفتن المذهبية والتحريض ضد الديمقراطية والنظام السياسي التعددي وإشاعة روح السلبية والانعزال داخل المجتمع ، مع الأخذ بعين الاعتبار ان تراكم هذه المخاطر سوف يسهم في تحويلها الى ألغام موقوتة قابلة للإنفجار مهما طال الزمن . ما من شك في أنّ بعض أحزاب المعارضة في بلادنا وتحديداً تلك المنضوية في إطار ما يسمى "اللقاء المشترك" اعتادت على الخلط بين المتاجرة بالدين والاشتغال بالحسابات السياسية من خلال الكيل بمعايير مزدوجة جسدت خطورة التوظيف السياسي للدين في المكايدات الحزبية والصراعات على السلطة و الثروة والنفوذ . و بوسع كل من يطالع ارشيف بعض الصحف الحزبية المعارضة التي شنت في السنوات الماضية حملات تحريضية - ضمن حسابات حزبية وانتخابية ضيقة - ضد أطباء مستشفى جبلة في محافظة إب والراهبات في محافظة الحديدة ، ان يكتشف دور الخطاب الاعلامي والسياسي المعارض في صناعة ثقافة التطرف والتعصب التي تهيئ المُناخ لولادة الإرهاب وتحرض على ممارسة القتل والتصفيات الجسدية ضد الآخر المغاير.من نافل القول إنّ الجريمة الإرهابية هي نتاج لثقافة التطرف.. بيد أنّ التعامل مع الجريمة الإرهابية بعد وقوعها وثبوت الأدلة على مرتكبيها ، لا يمكن أن يتحقق خارج سلطة القضاء.. أما التعامل مع أسباب ومصادر الجريمة الإرهابية فيحتاج إلى وسائل أخرى من أهمها تجفيف منابع ثقافة التطرف والتعصب ، وإيقاف التعبئة الخاطئة للشباب ، سواء عبر مناهج التعليم العام والجامعي ومخرجات البيئة الثقافية والإعلامية المنغلقة والمتزمتة ، أو عبر خطب وفتاوى ومحاضرات بعض الدُعاة والقادة الحزبيين الذين ينشرون أفكارهم المتطرفة بواسطة المساجد والشرائط الصوتية والكتب التي " تهدى ولا تُباع " !!لا نبالغ حين نقول ان الذين قتلوا جار الله عمر وأطباء مستشفى جبلة وراهبات الحديدة ، لم يخفوا تأثرهم بما درسوه وسمعوه في الجامعات والمعاهد التي التحقوا بها ، والخطب والمحاضرات والفتاوى والشرائط الصوتية التي استمعوا إليها والكتب التي طالعوها.. وكذلك فعل ذلك الشاب الذي حاول قتل الأديب العربي والعالمي الكبير نجيب محفوظ لمجرد أنّه سمع أحد الدعاة يتهم ضحيته بالكفر رغم أنّه لم يقرأ كتاباً أو سطراً واحداً لنجيب محفوظ .. ولن نستغرب أن يقوم معتوه آخر بتهديد حياة النساء المشاركات في الهيئات البرلمانية والحزبية ، لأنّ أحد شيوخ (( اللقاء المشترك )) يعارض مشاركة المرأة في عضوية البرلمان والهيئات الحزبية ، ويدعو إلى منعها من العمل وحبسها في البيت ، بذريعة أنّ عملها الاقتصادي والاجتماعي ونشاطها السياسي يخالفان أصلاً معلوماً في الدين ، ويهددان بوقوع معصية الخلوة غير الشرعية بين الرجل والمرأة تحت سقف البرلمان أو المصنع أو داخل اجتماعات الهيئات الحزبية!!!يقينا ًان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية ــ وبدون استثناء ــ توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة استبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ًوايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التـتـرس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة الممتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفــــــة ((المرتدة )) فرصة التترس .. والمثير للدهشة ان الذين روجوا ولا يزالون يروجون لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن (( العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !!صحيح ان أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في إرتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الإستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب التي ندعو الله ان يجنب البلاد أضرارها ومفاسدها في الطريق الى الانتخابات الرئاسية والمحلية القادمة . نقلا عن / صحيفة (( 26 سبتمبر))
الغام قابلة للإنفجار
أخبار متعلقة