أضواء
مساحة من التطرف تظهر الآن في المنطقة العربية برؤيتها وتقييمها للرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما. فبعض ردود الفعل التي ظهرت عربياً تعاملت مع ظاهرة أوباما وكأنها انقلاب أو ثورة قد حدثت في الولايات المتحدة، ويجب بالتالي أن تصدر بلاغات وقرارات فورية التنفيذ تجعل من أميركا مناصرة لحركات التحرّر الوطني في العالم، وتفرض العدل والمساواة والحرّية لدى كل الشعوب!ردود فعل أخرى جاءت معاكسة تماماً، فنظرت إلى انتخاب أوباما وكأنّه مجرّد حدث عادي لن يغيّر شيئاً من السياسة الأميركية، باعتبار أنّ الرئيس الجديد هو مولود النظام السياسي الأميركي المحكوم من قِبَل شركات كبرى، ومن «اللوبي الإسرائيلي»!في الحالتين أجد رؤيةً متطرّفة، غير واقعية وغير موضوعية، لظاهرة مهمة جداً حدثت في الولايات المتحدة وستؤثر حتماً عاجلاً أم آجلاً على سياستها الخارجية.إنّ المنطقة العربية ليست بحاجة إلى موضوع جديد لتنقسم حوله، وبالرغم من ذلك، هي الآن مختلفة في تقييم أوباما؛ بين من يراه «طبعة جديدة منقّحة من كتاب أميركي صهيوني»، وبين من يتوّهم أنّه القائد المخلّص المسلم العربي الثوري!إنّ انتصار باراك أوباما في الانتخابات الأميركية ليس هو بثورة ولا بانقلاب في المعنى السياسي على ما هو قائم في الولايات المتحدة، بل يمكن اعتباره بمثابة «حركة تصحيحيّة» من داخل النظام الأميركي نفسه، بعدما أوصلت إدارة بوش هذا النظام السياسي الأميركي إلى منحدر ما كان يجب أن تهوي إليه. فهكذا كان تقييم أسماء بارزة عدّة من «الحزب الجمهوري» واضطرارها لتأييد انتخاب أوباما بسبب سياسات إدارة بوش وتبنّي ماكين ـ بالين لمضمون هذه السياسة في حملتهما الانتخابية.إنّ الانقلاب حدث فعلاً في مفاهيم اجتماعية وثقافية أميركية، ممّا سمح لابن مهاجر أفريقي ذي بشرة سوداء، ويحمل اسماً عربياً مسلماً، أن يصل إلى أهم منصب رئاسي في العالم. فقد فشل القس جيسي جاكسون في السابق في الحصول على دعم «الحزب الديموقراطي» له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي، وجذور عائلته العميقة في أميركا. أيضاً، فشل المرشّح «الديموقراطي» للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاع كبير من الأميركيين في وطنيته الأميركية لأنه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من «الأنجلوسكسون» الأبيض المسيحي البروتستانتي!إذا، هو انقلاب على مفاهيم أميركية كانت غير منسجمة أصلاً مع طبيعة الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمع تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين والذين سيشكّلون خلال عقود قليلة مقبلة غالبية عدد السكان.وهؤلاء المهاجرون الجدد والأقليّات غير الأوروبية والجيل الأميركي الجديد كانوا أساس الحملة الانتخابية لباراك أوباما، والقوة الشعبية الفاعلة في انتصاره الكبير.لكن لا ينبغي النظر إلى التحوّل الاجتماعي والثقافي الأميركي في ظاهرة أوباما على أنّه تحوّل سياسي أيضاً في طبيعة الحياة السياسية الأميركية أو نظامها الحزبي الانتخابي والقوى الاقتصادية والسياسية التي تقف خلفه (وأمامه أحياناً)، ولا أيضاً في خدمة المصالح الأميركية في العالم وحرص كل الرؤساء الأميركيين على بقاء التفوّق الأميركي عسكرياً واقتصادياً واستمرار أميركا القوّة الأعظم.وإذا كان من الطبيعي أن تختلف معايير رؤية فوز أوباما من بلد لآخر، بل حتى من جهة لأخرى داخل البلد نفسه، فإنّ من الخطأ تقييم الرئيس الأميركي الجديد وفق أولويات غير أميركية. فرغم أهمّية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب وعموم العالم الإسلامي، فإنّ إدارة أوباما المقبلة ستتعامل مع هذا الملف وفق المصالح الأميركية التي قد ترى تأجيل البحث فيه إلى ما بعد ترتيب الأوضاع في العراق، أو في الحدّ الأدنى، ترتيب العلاقات الأميركية مع موسكو، وطهران، ودمشق، وهي عواصم قادرة على التأثير الكبير في الملفّين العراقي والفلسطيني معاً. فعهد أوباما سيبقى حاملاً لعناوين القضايا نفسها اللصيقة الآن بالسياسة الأميركية والمصالح الأميركية، لكن التغيير سيحدث في كيفيّة تحديد هذه المصالح وأساليب الحفاظ عليها. وأعتقد أنّ ما كانت عليه إدارة بوش، خاصّةً في فترتها الأولى وحتى العام 2006، كان هو الانقلاب الذي حدث في المؤسسة السياسية الأميركية. وها هو عهد أوباما يأتي مدعوماً من جهات أميركية عديدة فاعلة لتصحيح المسارات التي اتبعتها إدارة بوش، في ظل هيمنة تيار أيديولوجي محافظ أراد التحكّم بكل المؤسسات الأميركية، من خلال سيطرته على البيت الأبيض، وعلى وزارة الدفاع أيام الوزير رامسفيلد. فقد كان «البنتاغون» تحت إدارة رامسفيلد دولة داخل الدولة، حيث قام بتهميش دور مؤسسات أخرى كوزارة الخارجية، ووكالة المخابرات الأميركية مع إقصاء للمؤسسة التشريعية عن قضايا هي معنية داخلياً وخارجياً بها. إنّ الأساس في السياسة الخارجية القادمة لإدارة أوباما سيكون في إسقاط نظرية «الحروب الاستباقية»، وفي استخدام أسلوب المفاوضات مع خصوم واشنطن، وفي الاستناد إلى المرجعية الدولية وعدم الانفراد الأميركي في قضايا عالمية مصيرية.وهذا النهج الجديد سينعكس إيجاباً على المنطقة العربية، وما فيها من حروب وأزمات افتعلتها إدارة بوش، أو رفضت المفاوضات الجادّة بشأنها لحلّها بشكل سلمي وعادل.وقد لا يكون باراك أوباما بمستوى الآمال التي وضعها عليه كثير من شعوب العالم، لكنّه سيحاول حتماً أن يرقى بالنسبة للأميركيين لذلك، فهم الذين انتخبوه إلى سدّة الرئاسة الأميركية وليس غيرهم. كذلك هو حال العرب والمسلمين في أميركا الذين، رغم تحفّظات لديهم على بعض فريق العمل لدى أوباما، فرحون حتماً بفوزه، فقد كان الوحيد الذي تحدّث في مؤتمر «الحزب الديموقراطي» عام 2004 عن مخاطر الحملات ضد الإسلام والمسلمين في أميركا، بسبب أحداث سبتمبر 2001، وفي انتخابه الآن ضمانة لحقوقهم المدنية، وبداية جيدة لإزالة ما ساد المجتمع الأميركي من هواجس حول كل ما يتّصل بعربي ومسلم، وما كان في حملة ماكين ـ بالين من تشويه للعرب والمسلمين.فلا ضير أن يفرح العرب والعالم بما فاتهم من إدارة بوش ـ تشيني، وبعدم فوز ماكين بعدهما. ولا مبرّر أن يحزن العرب والمسلمون بما آتاهم من رئيس أميركي جديد أفضل حتماً بالنسبة لقضاياهم من الإدارة الراحلة، ومن كان سيخلف بعدها لو لم يفز أوباما. المشكلة ليست فقط في واقع حال السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. المشكلة أصلاً هي في استمرار المراهنات على تغيير في الخارج، بينما يبقى الجمود والركود سمة لازمة للمنطقة العربية، وحكوماتها، وسياساتها. وإذا كان من حق كينيا وأفريقيا والمنطقة العربية والعالم الإسلامي أن يفرحوا بوصول أوباما لرئاسة الولايات المتحدة، فإنّ فرحتهم لا يجب أن تختلف عن فرحة شعوب أوروبا والشرق الأقصى وأميركا اللاتينية، وعشرات الملايين من الأميركيين البيض المسيحيين ذوي الأصل الأوروبي. فمبعث فرح هؤلاء انتهاء إدارة بوش، وانتصار المعترض على سياستها منذ بدء عهدها، لا لأنّ أوباما من عرق أفريقي أو أنّ أباه مسلم ويحمل اسماً عربياً... إذ لا يجوز أن نمدح الأميركيين على تجاوز العنصرية واختيار رئيس اسمه باراك حسين أوباما، ويقع العرب والمسلمون فيها فيكون معيارهم أصل أوباما واسمه لا فكره وعمله![c1]*عن/ صحيفة (الرأي) العام الكويتية [/c]