هل يعتبر ما قاله أسامة بن لادن، في "كاسيته" البانورامي الأخير، "آخر كلام" حول الموقف من الأحزاب الاسلامية التي رضيت الانخراط في الحياة السياسية مثل حماس !؟نقول ذلك لأن بن لادن أشار إلى فوز حماس وأدان الضغط عليها، مع أن رفيق دربه أيمن الظواهري يعتقد أن الدخول في أي عملية انتخابية يعتبر شركا وكفرا، كما في كتابه " الحصاد المر"، وبن لادن نفسه ذكًر بموقف صاحبه في خطاب الأمس! هي تحولات مثيرة فعلا، ولكنها لا تعكس تطورا جادا في داخل الخطاب، قدر ما تشي بمحاولة "التقاط" أي حجة من أجل تدعيم النظرة "الفسطاطية" البنلادنية.غير أن هذا ليس مصبَّ مياه كلامنا هنا.. مصبها النكهة الافريقية في شريط اسامة الاخير، او اسامة الافريقي، مستبعدين بطبيعة الحال نسبة افريقية اسامة الى "ليون الافريقي" الذي رسم ملامحه أمين معلوف في روايته الشهيرة، ولا جامع بين الافريقيين، الا شيء واحد، هو التطواف بالمدن، ونقل الهم الثقيل في هذه الرحلات..فليون الافريقي، او حسن الوزان، كما رسمه معلوف: "عرف الطهر والبراءة في غرناطة والغم في فاس، والصبابة في القاهرة، والحكمة في روما، وهي مجموع الاماكن التي عاش فيها".واسامة الافريقي، او اسامة بن لادن، حمل همومه متنقلا ما بين جدة والرياض وخوست وكابول والخرطوم.. يحمل على كاهله همومه المدمرة، ولكنه ليس هم الحب ولا البحث عن الحقيقة، بل هو هم بسيط، وخطير في بساطته، همُّ تغيير العالم، وشق اخدود كبير يفصل بين الفسطاطين، همّ قطْعٍ لا وصْل.. هذا شيء من الفرق بين الافريقيين.حسنا .. ما هو جديد أسامة ؟ زعيم تنظيم القاعدة شرَّق وغرَّب في تسجيله الذي بثته فضائية "الجزيرة"، تحدث عن أزمة دارفور ودعا المعجبين به الى القتال في دارفور ضد الصليبيين، وقال للدولة السودانية: اتفاقيتكم مع الحركة الشعبية الجنوبية لاغية.. (هنا تذكروا أن بن لادن ليس سودانيا!) لكنه لا يلقي بالا لذلك، فيما يبدو، وربما يرى أنه "طُز" في السودان، كما سبقه مرشد الاخوان المصري، لذلك فليس غريبا ان نسمع بن لادن يقول في شريطه الأخير "ليعلم البشير وبوش، أن هذا الاتفاق لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به، ولا يلزمنا بمثقال ذرة". لاحظوا انه يتحدث بضمير الجماعة المتكلمة "يلزمنا" وكأنه ولد في أم درمان!زعيم القاعدة تحدث عن اشياء أخرى، تحسَّر على حصار الغرب "الصليبي" لحركة حماس، رغم انها وصلت بطريقة ديموقراطية وهي خيار الشعب.. نعم هكذا تحدث، ولم ينس راعي تفجيرات القاعدة الاشارة الى بعض قضايا الساعة الساخنة مثل: رسوم الدنمارك، وتطوير مناهج التعليم الدينية.. واخيرا صرخ في آذان الأمة ان لا تصغي الى "المستهزئين بالدين" ويعني الكتاب والمفكرين.طبعا هناك لمسات جديدة تنسجم مع أحداث المرحلة، فلا تخطئ العين نزعة استغلال لزخم الاحداث، وتجميل لأجندة القاعدة الفكرية الجوهرية، فهو يركز على حماس، وضمنيا هو فرح بوصولها الى السلطة، مع انها سلطة منبثقة من اتفاقيات مع "اسرائيل" لكن كل ذلك تبعد عنه لاقطات القاعدة الصوتية، لأنها لا تخدم الغرض المرجو، وهو تثبيت الرؤية الرهيبة في "تديين" الصراع.مع هكذا نية مبيتة لتصوير الجاري من الاحداث، ومع مثل هذه المقاربات المتفرعة من شجرة "الفسطاط" البنلادني الشهير، يصبح من الضار، بالنسبة للخطاب الجهادي الحالي، الاشارة الى ان الخلافات مع الاحزاب الاصولية السياسية، الناعمة منها والنصف ناعمة، والخشنة تماما مثل القاعدة، هي خلافات "داخلية" بين ابناء الامة نفسها، حتى ولو لم يتدخل الطرف الخارجي، صليبيا كان أم بوذيا.. فمن يصارع الاخوان في مصر، هم مصريون، دعنا من الحكومة، اعني مصريين في المعارضة، وكذلك الشأن في فلسطين، وغيرها.بن لادن في خطابه هذا يؤكد ما قاله كثيرون، وسبق أن اشرت اليه في بعض المناسبات، من ان القاعدة تركب أي موجة، وتأخذ أي شيء تجده في طريقها، وتلقيه في فرنها من اجل المزيد من الحرارة واللهب وخلود النار!واذا ما أردنا ان نظل في المفردات الافريقية في حديث أسامة الاخير، فإن كلام بن لادن عن وجوب "النفير" الى دارفور للجهاد، وحثه الشباب على التعرف على وضع قبائل دارفور، وجغرافيتها... الخ، وهو أمر، كما أظن ، يجيء من أجل فتح جبهة "تهوية" جديدة للقاعدة.. هذا الحديث فيه مفارقة هى أنه أتى في نفس الاسبوع الذي تحدث فيه عراب الاسلام السياسي في السودان حسن الترابي عن أزمة درافور. الترابي وفي حديث مع " الشرق الاوسط" قال انه يستطيع حل مشكلة دارفور في "جلسة واحدة" من خلال اعطاء قبائل الاقليم المسلمة بعض الترضيات في المناصب والاعتمادات في الميزانية العامة، وكفى الله المؤمين القتال، خصوصا، كما يقول الترابي، أن أهل دارفور ظُلموا من قبل الاستعمار الانجليزي ومن الحركة الوطنية التي تلت الرحيل الانجليزي، لأنهم وقفوا الى جانب العثمانيين في الحرب العالمية. وعليه فالترابي يرى أن المشكلة داخلية بحتة، لا قصة حرب صليبية مفتعلة.لكن بن لادن يرى أن ما يجري هو مؤامرة صليبية لضرب الاسلام والمسلمين، والرجلان كانا قبل سنوات قريبة في خندق واحد، لبعض اللحظات، وكان بن لادن ضيفا على الخرطوم، في ذروة قوة الترابي، وتدبيره لشؤون البلد، وعن ذلك يقول حارس بن لادن ومرافقه الشخصي، اليمني ناصر البحري (ابو جندل) في حلقات مثيرة نشرتها "القدس العربي" قبل اشهر، إن الترابي زار بن لادن ثلاثة أيام متواصلة ".. وكان يعقد خلالها معه جلسات مطوّلة ونقاشات ساخنة تستمر ساعات طويلة، حتى وقت متأخر من الليل لإقناعه بالخروج من السودان".كان هذا بعد انقضاء شهر العسل بين الطرفين، بين حكومة الإنقاذ وعرابها حسن الترابي، وبين اسامة بن لادن الذي جاء اليها 1991 تاركا السعودية، بعد محطة قصيرة في افغانستان.بن لادن وحسب شهادة مرافقه البحري، كان في حالة "بيات" في السودان، ولم يشأ إفساد هذه الارض عليه او تحريكها، وكان يخطط "بعمق" للمرحلة المقبلة، كما يذكر "ابو جندل"، لكن هذه المراقبة لم تجعله يكف عن التطلع لجبهات اخرى، يستوعب فيها اتباعه الذين رهنوا حياتهم بوجود جبهات جهادية مشتعلة باستمرار.كان اسامة في تلك اللحظة يراقب حرب اليمن، يقول البحري: "عرفت أنه كان يتابع الحرب اليمنية في صيف 1994عن كثب، وكان على إطلاع دائم بها، وأنه حاول إرسال عناصر من القاعدة" للمشاركة في تلك الحرب إلى جانب القوات الحكومية".كما كان يراقب الصومال ويراهن عليها، ويستغل تفسخ الدولة المركزية، فينشئ المعسكرات ويبعث المقاتلين، لاحقا كان بن لادن ينتشي كثيرا بجبن الجنود الامريكان الذين هزموا في حملة "اعادة الامل" في الصومال على يديه، حسبما يرى. بل ان هموم بن لادن في القارة السمراء لم تقف عند هذا الحد، فالبحري يذكر ان جنود بن لادن كانوا يتحرقون شوقا للمشاركة "على طريقة الافغان العرب" في احداث ليبريا، والحجة كالمعتاد: دينية الصراع، ناهيك من ارتيريا والشمال الافريقي.. الخ.وفي لحظة تجلٍ يقول مرافق بن لادن عن احد قيادات القاعدة الشهيرين، وهو المصري " ابو عبيدة البنشيري"، الذي غرق في بحيرة فيكتوريا في صيف 1996: "حسب ما عرفته من الشيخ أسامة وبعض الأخوة الآخرين، كان الأخ أبو عبيدة البنشيري يحاول الاستفادة من الصراعات المسلحة التي كانت تدور في إفريقيا، كقضية وسط إفريقيا، بروندي ورواندا، وغيرها، لتسهيل عملية تغلغل عناصر (القاعدة) في إفريقيا".وهكذا، نرى أن الفكرة الرئيسية في كل هذه المحطات هي "حلب" كل ساحة، وهنا ساحات افريقيا، بما يضمن امتلاء إناء القاعدة بالأنصار، وديمومة بقاء الصراع في شكل ديني. إن ركوب الخطاب القاعدي والجهادي على كل هذه المراكب، بدا انه من قبيل، أو هكذا يجب، بدهيات الامور.. مع شكي في ذلك !الجانب الظريف في حديث بن لادن كان حملته على الكتاب العرب، وهذا يدل على أن بعض ما يقال ويكتب في الصحف يقرأه بن لادن في كهوفه، وربما يُعَدُّ له تقرير صحافي يومي، شأن الوزراء والسياسيين الكبار، واذا كان افتراضي هذا صحيحا، فإنني أتمنى على من يعد له التقرير الصحافي اليومي أن يختار مقالي هذا ضمن تقريره اليومي، ويقرأ عليه التالي: سيد أسامة هل قرأت فتاوى وآراء الترابي الاخيرة حول المرأة واهل الكتاب وزواج المسلمة من غير المسلم..؟ اذا كنت قرأتها، فأرجو أن تقول لنا هل تعتبره من الفئات التي اشرت اليها، من الضالين، ام لا ؟ ثم هل تعتبر رد جماعة حماس على خطابك الاخير، وعلى رفيقك ايمن الظواهري، من قبل وخلاصته : أنهم ادرى بمصلحتهم، ولا يحتاجون الى ارشادات منكما، هل تعتبر هذه الردود ايضا من قبيل الضلال والإعراض عن الحق؟!أتمنى، رغم تقديري لمشاغلك، ان تخبرنا : ماذا ترى، وأن لا تنسى الاجابة في شريطك المقبل، مع رجاء خاص ان تترك افريقيا، ودارفور وشأنها ، لأن "اللي فيها مكفيها".. ـــــــــــ * كاتب سعودي
أسامة الأفريقي
أخبار متعلقة