العولمة المعمارية تغزو مدن العالم ..... وتهدد الطابع المعماري الوطني
إعداد/محمد جابر صلاحتعددت الآراء حول ظاهرة العولمة ،التي لم تعد مجرد فكرة مطروحة للجدل ،أو قضية مثارة للنقاش ولكنها أصبحت أمراً واقعاً تعيشه البشرية منذ ظهورها بشكل واضح خلال عقد السبعينات ومرحلة تاريخية هامة في حياتنا، وستنضم إلى جملة المؤثرات المعاصرة على مستقبلنا.من المؤكد أنها تؤثر على العمارة وعلى شكلها ووظائفها من خلال قيام شركات عالمية متعددة الجنسية بالكثير من مهام العمل المعماري والعمراني في هذه الدول النامية ،حيث تعتبر هذه الشركات هي آلية تنفيذ العولمة في المجال المعماري والعمراني .وهي أولاً وأخيراً تتعامل مع المشاريع من جهة النظر الربحية النفعية وهذا جعل مشاريعها المعمارية بعيدة عن متطلبات البنية المحلية ،ولا تناسبها، والنتيجة هي سيطرة الخبرات الأجنبية على السوق العقارية والاستثمارية في الدول النامية وما الخبرات المحلية التي يتم استقطابها إلا أفراد يعملون تحت استشارتها.هذا ما أوضحته دراسة بعنوان « العمارة والعولمة » أعدتها نادية يحيى الكوكباني ونشرتها مجلة الثوابت في عددها الـ ( 50 ) وأضافت أن العمارة مرت بمراحل تحول حرجة ساهمت في تشكيل الفكر الإنساني الحديث قبل ظهور العولمة وهي فترات التحول من الفكر العقائدي إلى الفكر المادي ،هذا التحول في المفاهيم أنتج شكلاً مختلفاً للحياة الاجتماعية والسياسية منذ عصر النهضة حتى وقتنا الحالي في مجريات الحياة السياسية والاقتصادية في الفنون والأدب والعمارة .[c1]العمارة قبل العولمة :[/c]تقول الدراسة إن نهضة العمارة والفنون في إيطاليا تعتبر أولى المراحل الزمنية لعصر النهضة في أوربا كونها الأكثر شمولاً لإحياء الحضارات الرومانية والإغريقية،نتيجة إجراء دراسات مسرحية ،وتوثيقيه للعمارة الرومانية واليونانية فظهرت اتجاهات العمارة في عصر النهضة على أيدي روادها مثل المعماري برونلسكي(1426-1377)Brunrllrschi ،الذي أتجه في أعماله نحو العمارة القوطية والبرتي (1472-1407) Alberti الذي يعتبر مؤسس المدرسة الأكاديمية إضافة إلى من تبع برولنسكي أمثال ديليوليوDelb Simon والأخوان جوليانيو GIULIANOوأنطونيوNTONIO واسان غالوDasnGalli إن الاتجاه السائد لعمارة عصر النهضة هو توظيف العمارة الكلاسيكية إضافة إلى استخدام المبادئ الجديدة وهذا ظهر في عدة أمثلة ناجحة في أعمال المعماري برولنسكي والمعماري البرتي .فمستشفى الأيتام في مدينة فلورنسا الايطالية والذي يعتبر أولى المباني التي نفذها برونلسكي والأولى من نوعها في أوروبا تميزت بالعقود المشهورة ذات الأعمدة الكورنثية التي تتصف بالتماثل التام أما الكاتدرائية القوطية سانتا ماري أديل فيوري،لبرونلسكي أيضاً احتوت أعجوبة في التصميم حيث مزجت قبة النهضة مع مبنى قوطي والتي أفترضها برونلسكي لتسقيف التقاطع الأوسطي في الكاتدرائية فكان الحل أكثر كلاسيكية في تفاصيله متأثراً بالمقاييس الصريحة والرومانية الكبيرة .كذلك نجد البرتي في العديد من أعماله يتخذ أسلوب برولنسكي ففي قصر روشل أعتمد زخرفة خارجية بتركيب أعمدة غائرة جزئياً في الجدار ليصبح أول مبني من هذا النمط .بعد منتصف القرن الثامن عشر ظهر تغيير واضح في لغة العمارة وإتجاهاتها حينما إستخدمت طرقاً جديدة في تصنيع الحديد الصلب وبرزت المدارس المعمارية المختلفة فبعد المدرسة الباروكية جاءت الكلاسيكية الحديثة في القرن الثامن وبدايات القرن التاسع عشر.ففي إنجلترا أصبحت عمارة بداية القرن المسماة عمارة الوصاية امتداداً لعمارة الباروك والركوكو ذات الزخارف الدقيقة والمعقدة يظهر ذلك بوضوح في تصميم المعمار جون ناش لمبنى كارلتون في لندن .كما اتجه بعض المعماريين إلى الطراز اليوناني باستخدام الأسلوب الأكاديمي ويظهر ذلك في تصميم المعماري جونسون للمستشفى الملكي في لندن وتصميم المعماري إيلمز ELMES لبمنى سان جورج في ليفربول ،في السنين الأولى من القرن التاسع عشر ظهرت بوادر العمارة الحديثة باستخدام عناصر العمارة القوطية بمواد جديدة كالزجاج في القصر البلوري لمصممه جوزيف بروكستون Baxtion JOSEBH والحديد الذي أعتبر أستخدامه خطوة متقدمة في مجال أساليب العمارة وفاتحة للعمارة الجديدة والضخامة وذلك في برج ايفل لعمارة إيفل EIFFELحركة الفن الحديث (الارت نوفو ومعناها الفن الجديد وهي حركة رومانسية منفردة (1809-1910) حاولت تحرير الإنسان من الضغوط التقنية للآلة التي اعتبرتها من صنع الشيطان .وتمثل نتاج ضد العقلانية ومحاولة الابتعاد عن المديات باتجاه الخيال والحلم والشعر .[c1]العمارة الحديثة :[/c]
وأكدت الدراسة أن العمارة الحديثة بدأت على أثر الثورة الصناعية ضمن المتغيرات الجديدة التي ظهرت في مجال التقنية والثقافة والمجتمع وكان لظهور مواد إنشائية جديدة كالحديد والزجاج والفولاذ وتلاها الخرسانة تأثيراً كبيرا في مجال التصميم وتخطيط المدن في العمارة .يعتبر المعماري والفنان الانكليزي وليم موريس w.morris هو المؤسس النظري للحركة المعمارية الحديثة من خلال مؤسسته (موريس فوكنر(morrisfokner) حيث دعا إلى إدخال العامل والأثر الاجتماعي في الأعمال الفنية.كان اتجاه تلك الفترة هو أسلوب التصميم المبسط الذي يتلاءم مع المواد الجديدة ومع استخدام الأجزاء الإنشائية المختلفة بأبعاد فضاءات كبيرة مفتوحة وواضحة.إن الاتجاه الجديد للعمارة الحديثة أدي في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى إلى رفض المعماريين أي اتصال بعمارة الماضي والابتعاد عن كل ماهو تقليدي مؤشرات جديدة في لغة العمارة الحديثة فالجدران بيضاء والشبابيك واسعة والسقوف أفقيه فتوحد الشكل في بداية الحركة بما يعرف بالأسلوب الدولي في العمارة.لقد تخلت التصاميم الحديثة عن المترفات البصرية كالزخارف واهتمت بالوظيفة وخلق بيئات ملائمة للنشاطات البشرية واهتمت أيضاً بالناحية الجمالية في خلق عمل نحتي يمكن التجول بداخله وبذلك استطاعت العمارة الحديثة المزج بين الوظيفة والجمال . .عمارة ما بعد الحداثة في الستينيات بتوجهاتها النقدية والمتطرفة للعمارة الحديثة ومواجهة سلبيات فكر العمارة الحديثة الدولية على بد المعماري والمنظر الأمريكي روبرت فنتوري Venturi وبرأى شارل جينكز فإن جذور عمارة مابعد الحداثة قامت على تحولين تكنولوجيين بارزين الأول هو مواصلات المعاصرة .التحول الثاني تمثل في تطوير تكنولوجيا جديدة ,ونتيجة هذه التحولات بات في وسع المعماري أو المصمم الحضري ما بعد الحداثي أن يتعامل بسهولة أكبر وعلى نحو شخصي أكثر مع مطلب التواصل مع مجموعات زبائن متباينة الرغبات.[c1]العمارة التفكيكية :[/c]هي حركة أسهمت فيها قراءة دريدا لمارتن هايدجر أواخر الستينات إلى قلب المشهد كحافز قوي نحو طرائق التفكير ما بعد الحداثي .العمارة التفكيكية ليست نوعاً من التغيير لمواضيع مألوفة في عمارة ما بعد الحداثة لكنها تعتمد الأفكار السابقة كقاعدة لها محاولة كشف مقاوماتها الأساسية والإفصاح عن نقاط كانت مكبوته سابقًاَ.تتميز إتجاهات العمارة التفكيكية بالتعقيد وبأسلوب جديد من التعابير الشكلية ،حيث اعتمدت التفكيكية على تقليد الأشكال الهندسية المجزئة والمتراكبة وعلى السطوح الطويلة دون الرجوع إلى النظرية والأفكار التي أنتجت هذه الأشكال.نجد أن الثورة التي أحدثتها التفكيكية هي مماثلة لما يحدثه كل تغيير جذري في مفاهيم كان الإنسان يعتبرها حقائق ثابتة .برز تأثير التطورات والعلوم الحديثة على أعمال المعماريين الذين عرضت أعمالهم في معرض الفن الحديث MOMA الذي اقيم في نيويورك عام 1988م تحت إسم العمارة التفكيكية DECONSTRUCTIVEArhitecture ومعبراً عن إتجاهات هذه العمارة ومنهم فرانك جيري ريم كولهاس ،زهاء حديد ،بيتر إيزنمان،وبرنادرد تشومي ،وهيرومي فيوجي .[c1]العمارة العربية قبل العولمة :[/c]وتشير الدراسة إلى أن النفوذ السياسي الغربي على العالم العربي جاء معه نفوذ ثقافي ظهر بشكل واضح في مجال العمارة وأثر على اتجاهاتها .فأنتشر الطراز الباروكي للقرن التاسع عشر في أبنية الدولة العثمانية والطراز الكولينيالي الذي كان سائداً في جنوب أوربا وفي المدن العربية على امتداد سواحل البحر المتوسط الجنوبية وبعد الحرب العالمية الثانية تأثرت الدول العربية باتجاهات الحداثة للعمارة في الغرب التي سادت جميع إنحاء أوربا القائمة على التجريد والحيادية، خلال العقود الثلاثة بعد الحرب العالمية الثانية توسعت الحركة العمرانية للمدن وزادت منشآتها وخاصة الرأسية فلجأ المعماريون في الوطن العربي إلى التصاميم المستوردة الجاهزة وإلى إقتباس ما ليس في العمارة العربية ولا يلائم بناياتها المختلفة ،وبدأت المدن التقليدية تفقد طابعها المميز وهويتها التي عرفت بها منذ ألاف أو مئات السنين لتغدو مدناً ذات طابع عالمي مستعيرة أشكالاً ومواد بناء لا تتلاءم غالباً مع الواقع المناخي ولا تلبي الحاجات الاقتصادية بعيدة كل البعد عن الواقع الاجتماعي ،وفي الوطن العربي برز معماريون اهتموا بالبحث عن الهوية المعمارية للعالم العربي ،واستدلوا بأمثلة على المستوى المحلي والعالمي في جدية الأطروحات حيث تركزت جميع أعمالهم على احتياجات المجتمع المحلي ومن أبرزهم المعماري حسن فتحي ،عبد الواحد الوكيل من مصر رفعت جادرجي وحمد مكية من العراق ،وراسم بدران من الأردن ،عبدالسلام فراوي وباتريس دي مزييرمن المغرب .
[c1]العمارة و التحول للعولمة :[/c]بعد عمارة ما بعد الحداثة والتفكيكية ظهرت عمارة العولمة التي جعلت التغيرات المكانية لا تمثل أي أهمية للعمارة ولاتجاهات المعماريين،حيث زادت قابلية الحركة والاتصالات ،ليصبح مجتمع اليوم شديد الولع بأساليب التكنولوجيا الحديثة التي تلبي احتياجات التميز والتفرد ،هذا التميز والتفرد يؤثر في استعمالات الأماكن العامة والمباني التي يمكن رؤيتها على أنها أقل مكاناً شعبي عن كونه مكان يمكن لجميع الناس أن يستخدموه ولكن لا أحد منهم يشعر بالخصوصية والارتباط بهذا المكان إن مباني المطارات هي نموذج ممتاز للتواجد الفعلي للعولمة في العمارة .لقد ظهرت العولمة في مجال العمارة كنتيجة لاندماج النهج اللاعقلاني الذي سار عليه نهج ما بعد الحداثة ،مع ظهور مفهوم السوق الحرة المنفلتة،فأنتقل الكثير من هموم القادة الطليعيين من معالجة الإسكان ومشاكل الرفاهية الاجتماعية إلى إرضاء متطلبات الرأسمال الغني ،وعرض بهرجته ،مع تركيزها على التعبير عن خصوصيات الذات الاستعراضية ،ويتمثل هذا الفكر بأعمال فيليب جونسون (GOHNSON) الأخيرة ،وبيترآيزنمان(Eiseman) وفرانك جيري ( GehrY (برناردتشومي(Tschumi) ودانيال ليبيسكند(Libwskind)وزهاء حديد(hadid).[c1]العولمة والنتائج المعمارية :[/c]يبدو واضحاً وبشكل رئيسي أن تأثير العولمة على النتاج المعماري يكمن في مسألة التهجين أو المزج بين ثقافتين مختلفتين،ويظهر هذا الاتجاه بوضوح شديد في مدن العواصم الأسيوية شانغهاي،طوكيو،سنغافورة،هونج كونج،سيول.حيث تشابهت أعمال المعماريين الأجانب في مختلف دول العالم،وفي نفس الوقت فإن أعمالهم تلك تعطيهم التفرد والتميز.على ضوء ما سبق تؤكد الدراسة أن كل النتاج المعماري في عصر العولمة أحدث تغييرا واضحا في المفهوم الحاكم باتجاه تعميمه،حيث أن كل التصاميم المعمارية أصبحت لا تشكل أي فروق فيما بينها،فهي تصلح لكل مكان في مناطق عمرانية مختلفة ،وأصبحت كل مدينة توصف بشكل سلبي بدون شكل أو خطة،وبدون تركيب أو مركز،نمط معين من عدم التعبيرية ،وإلغاء الخصوصية والمكان بما في ذلك الهوية المعمارية أيضاً.[c1]حيادية العمارة في عصر العولمة :[/c]ظهر مفهوم الحياد خلال الحرب الباردة للإشارة إلى الدول التي لم تنظم إلى أي من طرفي تلك الحرب .بل أصبحت مباني ذات واجهات ملساء لصناديق لا معاني لها ،مباني تصلح لأي وظيفة سواء كانت مكتباً أو مدرسة أو بنكاً أو مركز أبحاث أو فندقاً .وتتميز عمارة عصر العولمة باستخدام المواد الحديثة والتكنولوجيا في الإنشاء ،وهذا مثلاً ما عبر عنه التصميم الهائل لميناء OM A البحري ذو القبة البلاستيكية الشفافة ،وواجهة مبنى باريس ذو الواجهة الزجاجية بالكامل للمعماري Jean Novel والشفافية هي ماتميز به في أعماله حيث أستند في مبنى عبارة عن ناطحات سحاب عملاقة بارتفاع 420متراً ولها قمة شفافة تعبر عن ذوبان المبني في المحيط بدلاً من النهاية المغلقة .أما مشروع القبة الألفية للمعماري”ريتشارد روجر “فهو من الانجازات المعمارية الضخمة والفريدة .يقع المشروع على التايمز في لندن وقد اعد لتستقبل به بريطانيا القرن الجديد. معبرة عن اكتشافات مثيرة لعالم الفضاء ،وعن عروض تصويرية مبهرة,وعن عالم الخيال والمستقبل هذا إلى ما تمثله القبة الألفية ذاتها من استفادتها من الانجازات التكنولوجيا الحديثة في البناء والإنشاء واستخدام الطاقة الشمسية حيث صنعت القبة من مادة التيفلون المغلف بالزجاج التي تتميز بمقاومتها للـتآكل وعدم قابليتها للاتساخ. [c1]آليات العولمة :[/c]وفي المجال المعماري والعمراني تعتبر الشركات المتعددة الجنسيات هي آلية تنفيذ للعولمة في هذا المجال ،خاصة بعد أن زاد تدفق الاستثمارات الخارجية مع بداية ظهورها ،وهذا فتح المجال أمام تلك الشركات والمؤسسات وبيوت الخبرة الأجنبية للعمل والبناء بحرية حول العالم .ورغم أهمية الدور الأساسي التي تلعبه الشركات المتعددة الجنسيات في مجال النمو والتجديد التكنولوجي والإبداع وكذلك خلق فرص العمل واستثمار رؤوس الأموال غير أنها أحياناً تضر بالسياق المحلي ولا تراعي حرمة البناء ، وهذا أدى إلى ظهور نوعيات جديدة من المباني المختلفة (إدارية سكنية تجارية صحية ...) تحتوي بعضها على وظائف لم تكن موجودة من قبل مثل البنوك لتسهيل المعاملات المالية إضافة إلى استخدام مواد البناء بشكل لا يتلاءم مع المناخ المحلي كالمسطحات الزجاجية العاكسة شرائح الألمنيوم والوحدات سابقة الصب لمعالجة أجزاء من الواجهات . وبذلك فإن تلك الشركات تتعامل مع المشروعات من وجهة نظر ربحية.ومن هنا يظهر التناقض بين ملاءمة المنتج المعماري لظروفه المحلية ولمتطلبات محتواه وسياقه العمراني مع توجيهات تلك الشركات،وهم بذلك يشوهون عملية التطور لكي تخدم أهدافهم أكثر من أهداف الدول المضيفة .