في العام الماضي ، وفي قلب العاصمة الفرنسية، حيث يوجد ( معهد الفنون والآداب العربية) الذي يشرف عليه الأستاذ أسامة خليل، أتيح لي أن اشهد مناقشة فكرية رفيعة المستوى وقد كان المدعو لإلقاء المحاضرة المصلح الديني الكبير الاستاذ جمال البنا رائد دعوة الإحياء الإسلامي. وعلى الرغم من انه طعن في الثمانين أطال الله في عمره، إلا انه بدا شابا بروحه ومقدرته على النقاش الذي طال أكثر مما يجب، وامتد عدة ساعات متواصلة. ويبدو أن عرب باريس من مثقفين ومثقفات كانوا تواقين إلى محاورته، فخاضوا في شتى الموضوعات، ولم يعودوا يعرفون كيف يتوقفون بالنقاش عند حد. ما الذي قاله الاستاذ البنا في تلك الجلسة العامرة؟ أو بالأحرى كيف فهمته لأني لا أقدم هنا ملخصا لما قاله؟ لقد قدم الخطوط العريضة لمشروعه في الإصلاح الفكري الذي يتمثل في تنظيف التراث من كل تلك التراكمات والشروحات وشروحات الشروحات التي أصبحت تفصل بيننا وبين القرآن الكريم، هذا إن لم تكن قد حلت محله، فنحن نعيش في عصر مضطرب هائج أصبحت فتاوى أصغر شيخ فيه وكأنها كلام مُنزّل! لقد اختلط الحابل بالنابل ودخلنا في عصر الفتاوى الفوضوية والعشوائية التي تجيز قتل هذا أو تبرئة ذاك بدون أي رادع أو وازع، وبدون إي قياس أو ضابط. وفي مثل هذه الظروف المضطربة والمدلهمّة يظهر المصلحون الكبار لكي يعيدوا الأمور إلى نصابها ويقدموا التفسير الصحيح لجوهر العقيدة، وهو الجوهر الذي أصبح مطمورا أو مطموسا تحت الركام الهائل لأقوال المفسرين والفقهاء على مدار القرون، وبخاصة قرون الانحطاط والجمود الفكري في ارض الإسلام. وبالتالي فالعودة إلى النص المؤسس والقول إنه هو وحده الملزم مع ما صح من السنة النبوية الشريفة خلافا لكلام كل البشر ينقذنا من هذه الفوضى والفتاوى العشوائية التي تهيمن علينا اليوم والتي جعلتنا ندخل في صدام مباشر مع أمم الأرض قاطبة وليس فقط مع الغرب الأوروبي ـ الاميركي. وأنظار العالم كله تتركز علينا حاليا وتطالبنا بأن نفعل شيئا ما لكي نحجّم ذلك التيار الظلامي المتزمت الذي أرعب العالم بذبح الرهينة الاميركية على رؤوس الأشهاد مثلما ُذبح الصحافي الاميركي ريتشارد بيرل في باكستان وُقطّع إربا إربا. العالم أصبح يعتقد أننا جميعا همجيون، برابرة، لا أثر للنزعة الإنسانية لدينا، بل وأصبح يعتقد، وهنا وجه الخطر والخطورة، أن عقيدتنا نفسها تأمر بذلك أو تقره وتجيزه، وفاتهم أن التفسير الخاطئ للعقيدة والموروث عن عصور الجهل والظلام والانحطاط هو المسؤول وليس جوهر العقيدة كما تجلت في القرآن الكريم، وهنا يجيء كلام الأستاذ البنا لكي يوضح الأمور ويفرز الأشياء عن بعضها بعضا ويقع في القلوب بردا وسلاما. فكلامه وكلام المفكرين الآخرين من أمثال محمد الطالبي، وعبد المجيد الشرفي، وحسن حنفي، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكريم سورش في إيران وعشرات غيرهم أصبح ضروريا لكي يفهم العالم انه يوجد في الإسلام تيار آخر غير تيار العنف والجهل والقنابل الموقوتة والسيارات المفخخة. وهذا ما فهمه بيرزنسكي وأشار إليه في كتابه الأخير »الخيار الكبير.. اميركا وبقية العالم«، عندما كنت استمع إلى كلام الأستاذ البنا كنت أتذكر بالطبع مارتن لوثر، مدشن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، فلوثر أيضا ثار على التراث الكنسي السائد في عصره وقال بالعودة إلى الكتاب المقدس فيما وراء كل هذه التراكمات والهوامش والخرافات والخزعبلات. وبحركة ثورية رائعة، فطهّر المسيحية الأوروبية من تلك القشور المتراكمة وكنَّسها تكنيساً. من هنا الطابع الراديكالي لمحاولته ومحاولة جمال البنا أيضا. فعصر لوثر كان أيضا مضطربا قلقا، وطبقة رجال الدين كانت قد فسدت في معظمها، والإيمان أصبح يُشترى ويباع بالفلوس!عندما رأى لوثر ذلك ُجّن جنونه وعرف أن الفساد قد وصل إلى ذروة الذرى وغاية الغايات. وبالتالي فلا بد من الإصلاح الديني لكي تستقيم الأمور وتصلح كافة وجوه المجتمع وجوانبه لاحقا. فالذروة الروحية تعلو ولا يعلى عليها. ويخيل إلي انه تجمع بين المصلحين الكبيرين صفة أخرى. وهي الإيمان الديني العميق. الإيمان النقي الصافي، الإيمان المنزه عن أغراض الدنيا. ما الذي نفهمه من جوهر الرسالة الإسلامية إذا ما عدنا إلى القرآن ذاته وليس إلى كلام هذا الفقيه المتأخر أو ذاك؟ نفهم أن الإيمان قضية شخصية لا تدخل فيها ولا إكراه عليها على عكس ما يعتقد المتطرفون الغلاة مع جمهور غفير من المسلمين المعاصرين للأسف الشديد. وهنا يذكر الأستاذ البنّا عشرات الآيات التي تنص على ذلك بكل وضوح »لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ« »وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر«.. أين وقع الخلل إذن ومتى؟ ولماذا تكفر الحركات المتطرفة الحالية أمم الأرض قاطبة بل وحتى جمهورا كبيرا من المسلمين أنفسهم؟ هنا يلقي الأستاذ البنا بالمسؤولية على العصور المتأخرة التي توقفت فيها حركة الفكر في العالم الإسلامي وأدت الى إغلاق باب الاجتهاد. هذا ما نفهمه في كتابه الأخير الصادر بعنوان: »موقفنا من العلمانية. القومية. الاشتراكية« وفيه يقول بالحرف الواحد: لعل أقوى ما يجمع بين العلمانية والإسلام هو ما انتهى اليه اجتهادنا أخيرا من أن الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة.. وقد بنينا هذا الاجتهاد على أساس مبدأ محوري هو أن السلطة تفسد الآيديولوجيا.. ولما كانت خصيصة الدولة هي السلطة، فالمحذور هو أن تتدخل في الإسلام حتى تفسده. وقد حدث هذا عندما ُحّولت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض فيه كل ما في الملك من سوءات (إشارة إلى الأمويين). ثم يتحدث الأستاذ البنا قائلا: »هذا أمر ليس مقصورا على الإسلام، بل هو يمثل كل القيم كالمسيحية والاشتراكية. وفي الكتاب الذي أصدرناه عن هذا الموضوع عرضنا في فصل مسهب كيف حوّلت السلطةُ المسيحيةَ، وهي دين الحب والسماحة، إلى محكمة تفتيش رهيبة«. انتهى كلام الأستاذ البنا وكان بإمكانه ان يضيف قائلا: كيف حولت القوى المتطرفة الإسلام حاليا، وهو دين الرحمة والمغفرة إلى عقيدة تبث الرعب في شتى أنحاء العالم ولا تتورع عن تسمية ضربة مدريد الآثمة باسم: غزوة الأندلس! أخيرا ماذا يمكن أن نقول عن مشروع الأستاذ البنا في هذه العجالة؟ بالنسبة للوعي الإسلامي الحالي يمكن القول إنه يشكل قفزة كبيرة إلى الأمام، فالقول إن القرآن هو وحده المُلزم، يعني تحريرنا من عبء التراكمات التراثية التي تضغط على كاهلنا والتفريق بين ما هو إلهي وما هو بشري، وعدم الخلط بين هذا وذاك* ينبغي العلم بأن القرآن بأسلوبه المجازي الرائع والمنبجس انبجاسا كان أكثر انفتاحا على مطلق الله، مطلق المعنى والوجود من كتابات الفقهاء التي جاءت بعده مباشرة، ولكن لكي نعذر الفقهاء قليلا ولا نحملهم كل المسؤولية ينبغي القول إنهم كانوا مضطرين لتضييق معاني النص القرآني وتوجيهها في اتجاه واحد يخدم مصلحة الدولة الجديدة، أي الامبراطورية العربية الإسلامية الوليدة* ولذلك قدموا بالتدريج تفسيرا أقل تسامحا من القرآن تجاه أهل الكتاب مثلا، أو تجاه العقائد الأخرى بشكل عام. لقد وجهوا معاني القرآن الكريم في الوجهة التي تخدم مصالحهم ومصالح السلالات المتتالية. ثم بعد أن نفدت حيوية الحضارة العربية الإسلامية ضاقت آفاق الفكر أكثر وأصبح التعصب والانغلاق هو السائد، وهذا هو سر انفجار الحركات المتشددة حاليا. ولكن سوف أكون صريحا مع الأستاذ البنا، فإذا كان مشروعه يمثل قفزة كبيرة إلى الأمام، فإنه ليس كافيا على المدى الطويل. وإنما ينبغي أن تتلوه قفزة أخرى إضافية. فبعد الإصلاح الديني في أوروبا جاء التنوير الفلسفي، بعد لوثر جاء كانط. والبعض يقولون إن الفلسفة المثالية الألمانية، أي فلسفة فيخته وهيغل وهولدرلين، ليست إلا علمنة للإصلاح اللوثري. وهذا لا يعني نهاية الدين والإيمان، وإنما يعني تحوله إلى إيمان داخلي لا استعراضي خارجي شكلي. انه يعني استبطان جوهر الدين على هيئة قيم روحية وأخلاقية تتجسد في السلوك العملي للفرد. يُضاف إلى ذلك، أن التنوير الفلسفي أدى إلى استقلالية العقل الكاملة بالقياس إلى النقل وأعطى لكل ذي حق حقه. فللدين جماله وللفلسفة جمالها ولم يعودا متصارعين كما كان عليه الحال في السابق، وحيث تنتهي حدود أو إمكانيات العقل البشري تبتدئ حدود الإيمان الغيبي. ولا أحد يجبر أحدا على عدم الإيمان في مجتمعات الحداثة والحضارة، ولا أحد أيضا يجبره على الإيمان أو يحاسبه على ما في ذات الصدور. هذه الحرية الكاملة للضمير بالقياس إلى المؤسسة الدينية تعتبر إحدى مكتسبات التنوير والحداثة، التي تجاوزت مكتسبات الإصلاح الديني بالمعنى الحرفي للكلمة. وبناء عليها تأسست مبادئ حقوق الانسان وليس توثين الانسان، وكذلك مفهوم المواطنية بالمعنى الحديث للكلمة، ودولة الحق والقانون التي تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة بغض النظر عن أصلهم وفصلهم أو أديانهم ومذاهبهم. كاتب سوري مقيم في باريس
|
فكر
جمال البنا.. بين الإصلاح الديني والتنوير
أخبار متعلقة