قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن :
محمد زكريا من الملفات الهامة والمثيرة في تاريخ اليمن الحديث المعاصر وإنّ لم يكن أهمها جميعًا التي لم تفتح حتى هذه اللحظة هو ملف تاريخ يهود اليمن . علمًا أنّ الديانة اليهودية وصلت إلى اليمن في الأزمنة البعيدة على يد مكرب ( أبي كرب اسعد ) والذي أطلق عليه الإخباريون العرب ( أسعد الكامل ) في أوائل القرن الخامس الميلادي ، وبعده الملك ( يوسف ذو نواس ) في أوائل القرن السادس الميلادي . وتذكر بعض المصادر بأنّ الديانة اليهودية دخلت إلى اليمن في فترة تعود إلى أقدم من ذلك بكثير تتمثل في فترة حكم ملكة سبأ التي آمنت بالديانة اليهودية بعد أنّ عادت من رحلتها إلى الملك النبي سليمان بن داود ( عليهما السلام ) في فلسطين ، وتقول تلك المصادر إنها ربما نشرت الديانة اليهودية في مملكتها سبأ باليمن بعد أنّ آمنت بها . وروايات أخرى تذكر أنّ اليهودية وصلت إلى اليمن في فترة حكم الملك بوختنصر ملك بابل ( بلاد الرافدين ) بعد تدميره لهيكل سليمان ، وإحراقه لأورشليم القدس ( بيت المقدس ) . وقد سبى الكثير من اليهود ،. ما دفع بأعداد كبيرة من الناجين من بني إسرائيل أو العبرانيين إلى لفرار من بيت المقدس إلى اليمن . وروايات أخرى تقول بأنّ نبوءة أشيعت بني يهود بأنّ عليهم الفرار من أورشليم القدس قبل مجيء ملك بابل ( بوختنصر ) الذي سيجعلها خرابًا ، وأطلالاً ، ويجعل أهلها أذلة صاغرين ما دفع بمجموعات كبيرة من بني إسرائيل ، قيل أنّ عددهم قدر بخمسة وسبعين ألفاً للنزوح إلى أرض اليمن . وتذكر مصادر أخرى أنّ بني إسرائيل فروا إلى اليمن من اضطهاد أباطرة الروم الذين دمروا بيت المقدس سنة ( 70م ) . [c1]قصة ملكة سبأ [/c]ومازال الكثير ـــ مع الأسف الشديد ـــ من الباحثين الحاليين المتخصصين في تاريخ اليمن القديم يطلقون اسم بلقيس على ملكة سبأ والتي عاصرت فترة حكم الملك سليمان بن داود في فلسطين علمًا بأنّ الآثار ونصوص النقوش اليمنية لم تذكر من قريب أو بعيد اسم بلقيس مطلقاً على ملكة سبأ . وكذلك التوراة ، والقرآن الكريم لم يذكرا اسم ملكة سبأ ، وهذا ما أكدته سورة النمل آية ( 23 ) : “ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم “ ولكن اسم ( بلقيس ) ذكر على لسان الإخباريين العرب فقط . قلنا سابقا : أنّ الروايات تذكر أنّ اليهودية دخلت إلى اليمن عبر ملكة سبأ التي آمنت بدين النبي الملك سليمان ومن ثم نشرت تلك الديانة اليهودية بين قومها . ولكن الدكتور محمد عكاشة يدحض تلك الرواية بقوله إنّ ملكة سبأ آمنت بدين سليمان الذي كان على الحنفية أي آمنت بإله واحد وليس بالضرورة أن تكون آمنت باليهودية وفي هذا الصدد ، يقول : “ جاء في القرآن الكريم في ختام قصة سبأ وعلى لسان حاكمة سبأ ، قالت : «ربِ أني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( 15 ) “ . ويعقب على هذه الآية القرآنية ، فيقول : “ أنّ هذا يعني تحول حاكمة سبأ من العبادة الوثنية ( عبادة الشمس) إلى عبادة رب العالمين “ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ( 16 ) . ويذكر بعض المؤرخين المحدثين بأنه من المحتمل أنّ الديانة اليهودية دخلت إلى اليمن عبر بوابة التجارة حيث كانت هناك علاقات تجارية نشيطة ومتميزة بين اليمنيين وبلاد الشام وفلسطين ، وقيل أنّ النشاط التجاري بين بلاد اليمن ( العربية السعيدة ) وبلاد الشام وفلسطين بلغ ذروته في عهد فترة حكم الملك سليمان بن داود ، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل . وفي هذا الصدد ، يقول عكاشة : “ فقد ورد في التوراة إشارات إلى نشاط التجار السبئيين ووصول قوافلهم التجارية إلى بلاد الشام محملة بالسلع التجارية الهامة كالذهب واللبان ، والأحجار ، والبخور وغيرها من السلع “ . ونستخلص من تلك الروايات التي أشرنا إليها قبل قليل أنّ الديانة اليهودية كانت معروفة لدى اليمنيين القدامى من خلال النشاط التجاري بين اليمن ( العربية السعيدة ) وبلاد الشام وفلسطين ، وكان من البديهي أنّ تصل مع البضائع والسلع من بلاد الشام وفلسطين إلى اليمن ومنها الديانة اليهودية . فضلا عن الزيارة الملكية التي قامت بها ملكة سبأ إلى أورشليم القدس ( بيت المقدس ) التي آمنت بالديانة التوحيدية أي برب السموات والأرض الواحد . [c1]ذو نواس واليهودية [/c]وتشير كثرة من المصادر إلى أنّ أول من أدخل اليهودية إلى اليمن من ملوك حمير هو الملك ( أبو كرب أسعد ) والمعروف عند الإخباريين باسم ( أسعد الكامل ) ويفهم من هذا أنّ هذا الملك الحميري هو الذي بذر البذور الأولى للديانة اليهودية في أرض اليمن . ولقد وصلت مملكته حمير إلى أوج قوتها من النفوذ ، والسلطان ، والجاه . وتولى بعد ( أسعد الكامل ) الملك ( معدي كرب يعفر ) الذي أعتنق الديانة المسيحية ، وكان من نتيجة ذلك أنّ أرتبط بالنفوذ البيزنطي المسيحي ارتباطًا وثيقاً ، وسمح لهم ببناء عدد من الكنائس في أهم مدن مملكته إحداها في أحد موانئ الخليج العربي , ولكن المعلومات التاريخية لا توضح الأسباب التي جعلت الملك ( معدي كري يعفر) يعتنق الديانة المسيحية ، علمًا أنّ الديانة اليهودية وصلت اليمن في أوائل القرن الخامس الميلادي على يد الملك الحميري ( أسعد الكامل ) ـــ كما ذكرنا في السابق ـــ . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ حمود جعفر السقاف : “ إنّ بعثة تبشيرية مسيحيّة أرسلها الإمبراطور قسطنطيوس الثاني (337 ـــ 361م ) إلى اليمن قامت ببناء ثلاث كنائس: إحداها في ظفار عاصمة الدولة الحميرية ، والثانية في عدن ، والثالثة في أحد الموانئ الواقعة في مدخل الخليج العربي ، وقد تم ذلك على يد ثيوفيلوس الذي أرسله قسطنطيوس الثاني ، والذي قال عنه فيليوستورجيوس في تاريخه الكنسي أنه قام بتنصير الملك الحميري “. وجملة القول ، أنّ النفوذ المسيحي أو بعبارة أدق أنّ نفوذ روما بدأ يتسلل إلى اليمن من خلال هذا الملك الحميري ، واتخذت من الديانة المسيحية شعاراً لتغطية أطماعها السياسية والاقتصادية في اليمن وهي سحب البساط التجاري من أقدام اليمنيين في البحر الأحمر والذين كانوا همزة وصل بين الغرب ( مصر ) والشرق (الهند ، وشرق أفريقيا ) .[c1]اليمن و الصراع اليهودي المسيحي[/c] وكان إزاء اعتناق الملك ( معدي كرب يعفر ) النصرانية أنّ صار للدولة البيزنطية موطئ قدم في اليمن وصار لها الكلمة العليا في شئون هذه المنطقة . وهذا ما أثار حفيظة الملك يوسف ذي نواس على هذا الملك بسبب ولائه للبيزنطيين الذين كانت لهم مصالحهم الحيوية في المنطقة المتمثلة بطرد الفرس ألد أعدائها من حوض البحر الأحمر من جهة و من جهة أخرى العمل على الاستحواذ على التجارة من يد اليمنيين الذين كانوا همزة وصل بين الشرق ( الهند ، وشرق أفريقيا ) والغرب ( مصر ) منذ التاريخ البعيد , وكانت تجارة ( الترانزيت ) هذه تدر أرباحًا خيالية على اليمنيين مما أسال لعاب الدولة البيزنطية ومن ثم قررت القضاء على نشاط التجار اليمنيين في هذا البحر وتكون هي المهيمنة على تجارة ( الترانزيت ) . ويذكر الأستاذ حمود جعفر السقاف مسألة غاية في الأهمية تستدعي الوقوف أمامها وهي أنّ ذا نواس “ تسمى باسم يوسف عند تحوّله إلى الديانة اليهودية “ . ونستنتج من ذلك أنّ ذا نواس كان مسيحيًا على غرار الملك ( معدي كرب يعفر ) ، ولكنه عندما رأى التدخل السافر للدولة البيزنطية والحبشة المرتبطة بها ارتباطا دينيًا وسياسيًا في الشؤون اليمنية تحوّل إلى الديانة اليهودية لغرض طرد النفوذ البيزنطي المسيحي من الأرض اليمنية من ناحية وأنّ تمسك اليمن بزمام أمورها من ناحية أخرى فقرر الانقلاب على هذا وخلعه من عرش حمير . وهذا ما أكدته الدكتورة أسمها الجرو حيث تقول : “ جاء بعد الملك ( معدي كرب ) ( 517م) ، الملك “ يوسف أسارن يثار “ . . . الملك الذي لقب نفسه “ بملك كل الشعوب “، وأطلق عليه الإخباريون ( ذا نواس ) ، لقد تخلى “ يوسف “ عن اللقب الطويل المعروف لدى ملوك حمير ، وتخلّيه عن ذلك اللقب يوحي بأكثر من احتمال ، حيث يرى بعض المؤرخين أنّ سبب تخليه يعود إلى أنه لا ينتمي للأسرة المالكة ، وأنه وصل إلى الحكم نتيجة انقلاب قام به في حوالي ( 517م ) ، قضى خلاله على سلفه ( معدي كرب ) ، الذي انتهج سياسة مواليه لبيزنطة “ . [c1] اليمن الطريق إلى فارس[/c]وكيفما كان الأمر ، فإن المصادر تذكر أنّ الديانة اليهودية انتشرت انتشارًا واسعًا بين اليمنيين وذلك بسبب التعصب الشديد الذي أبداه الملك يوسف ذو نواس للديانة اليهودية من ناحية والقضاء على النصرانية في اليمن من ناحية أخرى التي شكلت تهديدًا صريحًا لأمن بلاده نظرًا لأنها ديانة الدولة البيزنطية وحليفتها الحبشة من ناحية أخرى . والحقيقة أنّ الدولة البيزنطية ، كانت تتخذ من الديانة المسيحية ونشرها في المنطقة ستارًا لتحقيق مآربها السياسية . ولقد اتخذت الدولة البيزنطية حادثة الأخدود التي وقعت في سنة ( 517م ) بنجران والتي راح ضحيتها الكثير من النصارى بأمر من الملك يوسف ذي نواس ذريعة للقضاء على هذا الملك والسيطرة على مقاليد اليمن . فأعدت حملة عسكرية ضخمة قامت بالنيابة عنها حليفتها النصرانية الحبشة التي كانت تتطلع بالتالي إلى بسط نفوذها السياسي على اليمن . في الوقت الذي طلب ذو نواس ملك حمير من الفرس مساعدته ضد البيزنطيين ، ولكن الأولى تخلت عنه في أشد الأوقات الحرجة ، ورفضت أنّ تمد له يد العون والمساعدة . وفي هذا الصدد ، تقول أسمهان الجرو : “ بدأت بيزنطة والحبشة بالإعداد للغزو إعدادًا عسكريًا وسياسيًا ، ودبلوماسيًا ـــ وقد ذكر آنفًا ـــ أنّ حماس بيزنطة للانتقام للنصارى ، لم يكن دفاعًا عن العقيدة الدينية ، ولكنه كان رغبة قوية السيطرة في على المسالك التجاريّة عبر البحر الأحمر، أي السيطرة على الجانب الغربيّ من شبه الجزيرة العربيَة ، بعد أنّ اضطرب طريق (الفرات) المسيطرة “ فارس “ . وستفقد بيزنطة مصالحها إذا ظلّ الطريق الغربي بيد ملك يهودي معادٍ لبيزنطة “ . [c1]يهود اليمن في ظلال الإسلام[/c]أجمع المؤرخون المتقدمون والمتأخرون على أنّ يهود اليمن عاشوا في ظلال الإسلام في أمان وأمن واطمئنان ، فقيم ومبادئ الإسلام المثلى تحث على معاملة ( أهل الذمة ) ومن بينهم اليهود بالحسنى ومن واجب المسلمين حماية دمائهم ، ممتلكاتهم ، و أعراضهم ، ومنحهم ممارسة طقوسهم الدينية بكل حرية ، طالما أنّ اليهود يتحركون في الإطار الذي رسمه لهم الإسلام المتمثل بدفع الجزية والتي تدفع فقط على الذكور وليس على الإناث والتي تدفع على حسب ثروتهم . فالبعض منهم لا يملكون شيئاً فهؤلاء تسقط عنهم الجزية ، وعدم التعامل بالربا ، وعدم التعرض للإسلام والمسلمين بالأذى والعدوان . وعندما بزغت أنوار فجر الإسلام في السنة السابعة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم في سماء اليمن ، عامل عمال الإسلام في عهد النبي ـــ عليه السلام ـــ ، وخلفاؤه الراشدون يهود اليمن معاملة حسنة كما نصت عليها الشريعة الإسلامية السمحة ــ كما قلنا آنفاً ــ . وعندما اشتعلت الفتنة الكبرى بين المسلمين ، وتحديدًا بين معاوية بن أبي سفيان وعلى بن أبي طالب رضي الله عنه ، وانتهى الأمر أنّ تولى الأول مقاليد أمور المسلمين . وعلى الرغم من صراعات الفرق الدينية المختلفة القاسية التي انفجرت بعنف في عصر الدولة الأيوبية . فقد كان يهود اليمن في منأى عن تلك المشاكل ولم يعكر صفو حياتهم شيء . وفي عصري الخلافة الأموية والخلافة العباسية بصورة عامة ، ظل ولاتهما في اليمن يعاملون يهود اليمن معاملة طيبة بناء على ما أقرته قواعد الشريعة الإسلامية التي تحافظ وتحمي حقوق أهل الذمة سواء كانوا يهوداً أو مسيحيين . [c1]الدول اليمنية ويهود اليمن [/c] وعندما جنحت شمس الخلافة العباسية إلى المغيب لأسباب كثيرة ليس هنا محل لذكرها خرجت من تحت معطفها الكثير من الولايات العربية والإسلامية ومن بينها ولاية اليمن “ فمنذ العقد الثاني من القرن التاسع الميلادي ( القرن الثالث الهجري ) بدأت اليمن تشهد ظهور الدول اليمنية المستقلة وشبه المستقلة عن دولة الخلافة الإسلامية ، تقاربت أو تباعدت في تاريخ قيامها ، وتعاصرت وتداخلت سنوات حكمها ، وفي أحيان كثيرة يكون ظهور دولة نهاية لأخرى” . وكان من البديهي أنّ يسود الاضطراب والفوضى في ربوع اليمن عندما تزول دولة وتحل محلها دولة أخرى ، وبالرغم من ذلك فإن يهود اليمن ، كانوا بمنأى عن تلك القلاقل التي كانت تعصف باليمن واليمنيين . وتقول كثرة من المصادر إنه بسبب الفراغ السياسي الذي شهدته اليمن من جراء سقوط دولة وظهور دولة أخرى ـــ إذا صح هذا التعبير ــ عمد يهود اليمن إلى التوسع في بناء الكثير من الكنس ( المعابد ) . وأكدت الروايات أنّ يهود اليمن عاشوا في كنف الدول اليمنية المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن منها على سبيل المثال الدولة الصليحية ، الرسولية ، و الدولة الطاهرية في أمن وسلام من ناحية وأنّ حياتهم الاقتصادية كانت مزدهرة من ناحية ثانية وكان لهم حرية التنقل بين القرى والمدن اليمنية ، وممارسة طقوسهم الدينية بحرية كاملة . وتروي الروايات التاريخية أنّ الفتن والخطوب السياسية التي كانت تندلع بين الحين والآخر بين القبائل اليمنية المتنافسة على النفوذ السياسي والمصالح المادية كانت تلقي بظلالها الثقيلة على اليمنيين المسلمين بخلاف يهود اليمن الذين لم يتعرضوا للاضطهاد السياسي أو الديني من قريب أو بعيد .[c1]الدولة القاسمية ويهود اليمن[/c] وعندما أشرقت شمس الدولة القاسمية سنة ( 1045هـ / 1635م ) في سماء اليمن السياسية والتي حملت لواء مقاومة العثمانيين في اليمن حتى رحلوا عنها بعد كفاح مرير استمر قرابة 40عامَا . أنه على أية حال ، عاش يهود اليمن تحت كنف حكام الدولة القاسمية حياة هنيئة ، آمنة ومطمئنة ، وقد زاول يهود اليمن بكل حرية نشاطهم التجاري وتنقلوا في ربوع اليمن بكل سهولة ويسر مثلما كان يحدث من الدول اليمنية المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن في العصور الوسطى ـــ كما ذكرنا سابقاً ـــ . وكانت الدولة القاسمية حريصة كل الحرص أنّ يؤدي يهود اليمن طقوسهم الدينية بحرية تامة ، وعدم تعكير صفو حياتهم . [c1] حركة سبتاي اليهودية[/c]وعلى الرغم من أنّ يهود اليمن ، عاشوا حياة هادئة آمنة ، ومطمئنة ، وأوضاعهم الاقتصادية مزدهرة في ظلال الدولة القاسمية . الإ أنهم قلبوا لها ظهر المجن , فقد أعلنوا العصيان عليها وذلك بسبب الحركة التي ظهرت بين يهود اليمن والتي أوقد نارها اليهودي سبتاي زيفي ( Sabbtai Zevi ) القادم من تركيا . وتتلخص دعوته بأنه المسيح المخلص، وأنه يدعو يهود اليمن للهجرة إلى أرض الميعاد فلسطين ، والحقيقة كانت تلك الدعوة مكتوبة عندهم في معتقداتهم ما أطلق العنان لحماسهم وخيالهم ، وأخذ الكثير منهم يبيعون ممتلكاتهم للهجرة إلى فلسطين ، دون أنّ يستأذنوا سلطات الدولة القاسمية بالرحيل عن اليمن . وفي هذا الشأن ، يقول الدكتور عكاشة : “ وأنّ فكرة العودة إلى فلسطين بظهور الماسيح ( المسيح ) المخلص ، كانت فكرة أساسية وراسخة في عقيدتهم ، وعلى هذا فقد وجدت دعوة سبتاي زيفي الزاعمة أنه الماسيح ( المسيح ) آذانا صاغية لدى الطائفة ، خاصة وأنّ أحبارهم وزعماءهم هم الذين باشروا الاتصال بها ( الطائفة ) والدعوة إليها “ . والجدير بالذكر أنّ ظهور فكرة المسيح المخلص على يد سبتاي زيفي ، كانت معاصرة في فترة حكم الإمام المتوكل إسماعيل ابن القاسم بن محمد ( 1644 ـــ1676 م ) والذي وصلت الدولة في عهده إلى أوج قوتها ، فقد سيطرت على أجزاء كبيرة من اليمن . والحقيقة أنّ يهود اليمن لم يظهروا هذا الحماس في مغادرة اليمن مسقط رأسهم إلاّ بعد أنّ رأوا ولمسوا كبار أحبارهم يحثونهم على الهجرة إلى فلسطين بعد ظهور المسيح المخلص سبتاي زيفي. وكان من جراء ذلك أنّ باع الكثير من يهود اليمن ممتلكاتهم للرحيل إلى أرض الميعاد فلسطين لرؤية المسيح المخلص ، وكان ذلك نابع من إيمانهم العميق بعقيدتهم. وفي هذا الصدد ، يقول محمد عكاشة : “ بدأت جماعات من أعضاء الطائفة باتخاذ خطوات عملية استعدادًا لمغادرة اليمن والسفر إلى فلسطين للالتقاء بهذا المسيح. فباشروا بيع ممتلكاتهم على وجه السرعة . ومن الملاحظ أنهم قاموا بعملية البيع عن طيب خاطر وبرغبة ذاتية ودون أنّ يأمرهم بذلك الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم بن محمد ، ودون أنّ يطلبوا منه الأذن بذلك (( .. ثم تواصوا ببيع جميع أموالهم المنقولة وغير المنقولة في أسبوع واحد وفعلوا ذلك لمحبة منهم ورغبة وطمأنينة من غير أنّ يؤمروا بذلك ولا أذن لهم بذلك إمام العصر أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد » . [c1] واستمرت الفتنة [/c]ومن نتائج حركة سبتاي زيفي أنّ تواصل اشتعال نيران المشاكل بين يهود اليمن من جهة وسلطات الدولة القاسمية واليمنيين المسلمين من جهة أخرى . فيذكر الدكتور عكاشة أنّ يهود اليمن رددوا أقوالاً قاسية استفزوا بها المسلمين بأنه أتى اليوم الذي يدفع فيه المسلمون الجزية مثلما كانوا يدفعونها بالأمس لهم ( المسلمين ) ، وكانت تلك الأقوال كافية لأنّ تفجر براكين الغضب والاضطرابات والفوضى في كثير من المناطق التي تسكنها الطائفة اليهودية . فقد هاجم جماعة من المسلمين في شبام وكوكبان ممتلكات الطائفة اليهودية ولكن سرعان ما أوقفتها السلطات القاسمية بحزم ، وسيطرت على الموقف . وعلى الرغم من الإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات بردع الطائفة اليهودية عن استفزاز اليمنيين المسلمين إلاّ أنهم ساروا في غيهم ولم يرتدعوا ، وكان من الضروري أنّ يتدخل الإمام إسماعيل بن القاسم بنفسه لوأد تلك الفتنة الخطيرة. والحقيقة كانت السلطات القاسمية تدرك تمام الإدراك أنّ انفجار الوضع بين الطائفة اليهودية واليمنيين المسلمين سيكون له عواقبه الخطيرة على أمن وسلامة الدولة برمتها. وفي هذا الصدد ، يقول : محمد عكاشة : “ أدت عملية بيع اليهود لممتلكاتهم ، وكذا ترديدهم الأقوال التي مورست عمليًا من قِبل الطائفة اليهودية اليمنية والمتمثلة في هذا التجاسر والتطاول على الشريعة الإسلامية وعلى القواعد والتعاليم التي أرساها الحكم الإسلامي بخصوص أهل الذمة إلى قيام الإمام المتوكل إسماعيل بأخذ زمام المبادرة بهدف ردع اليهود ووضع حد لتصرفاتهم وتعدياتهم ، وبهدف إنهاء حالة البلبلة والفوضى وإيقاف استشرائها “.[c1] علماء اليمن والطائفة اليهودية [/c]ويمضي عكاشة في حديثه ، قائلاً : “ فاستدعى الإمام جماعة من كبراء الطائفة ( اليهودية ) في صنعاء ، وأراد قتلهم على اعتبار إنهم نقضوا العهد ومن ثم فلا ذمة لهم . غير أنه وبناء على مشورة من بعض أعوانه العلماء وغيرهم ، تراجع عن تنفيذ ذلك مكتفيًا بإزالة أعمالهم والتعزير بهم ، وأمر بحبس كبيرهم المسمى النقاش في جزيرة كمران “ . وما يسترعى النظر أنّ العلماء والفقهاء اليمنيين كان لهم حظوة كبيرة لدى حكام الدولة القاسمية ودليل ذلك أنّ هؤلاء الفقهاء رفضوا أنّ يعدم الإمام إسماعيل زعماء الطائفة اليهودية في اليمن ، فنزل عند رأيهم ، واكتفى بأنّ زج بأحد كبار طائفتهم في السجن بجزيرة بكمران ـــ كما قلنا سابقاً ــــ . وهناك أيضًا موقف آخر من علماء اليمن في حماية يهود اليمن ( أهل ذمة ) من الاضطهاد ، عندما أمر الإمام المتوكل إسماعيل “ بإجلاء اليهود عن اليمن ، وهدم كنائسهم ( معابدهم ) وأنه كتب ذلك الأمر بخط يده في مرض وفاته . غير أنّ هذا الأمر لم ينفذ في عهده بسبب موقف بعض العلماء والفقهاء اليمنيين من مسألة الإجلاء “ . وهذا إنّ دل على شيء ، فإنه يدل على أنّ علماء وفقهاء اليمن كانوا يتحلون بتسامح كبير إزاء يهود اليمن ، ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ علماء اليمن وفقهاءها ، كانوا يجسدون الشريعة الإسلامية في أعظم وأروع صورها . فقد كان ميزانهم في وزن الأمور الشرعية هو ميزان الإسلام الحساس . وكيفما كان الأمر ، فقد عادت الأمور إلى نصابها . وعاد يهود اليمن إلى الأمن والسكينة ، ومارسوا حياتهم ونشاطهم بصورة طبيعية . وانغمسوا مع المجتمع اليمني ، وباتوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج اليمني .[c1]قاع اليهود[/c] والجدير بالذكر أنّ أحياء اليهود المتفرقة في كثير من مناطق اليمن لم تكن منعزلة عن أحياء اليمنيين المسلمين مثلما كان يحدث في أوربا حيث تعرضوا لسياسة الاضطهاد والمذلة ، والعنف بسبب ديانتهم اليهودية. وكانت لهم أحياء خاصة بهم تسمى ( الجيتو ) لا يسمح لأحد بدخولها . حقيقة ، أنشئ في صنعاء حي خاص لليهود وذلك في فترة حكم الإمام المهدي أحمد ابن الحسن بن قاسم وهو رقاع اليهود في بئر العزب من الجانب الغربي من صنعاء القديمة. ولكن لا يفهم من هذا أنّ هذا الحي ، كان حيًا مغلقاً على يهود اليمن ، بل كان حيًا مفتوحًا لليمنيين بمختلف مشاربهم الثقافية ، وبيئاتهم الاجتماعية . والجدير بالإشارة ، أنّ الحكام اليمنيين ، كانوا يرون يهود اليمن مواطنين يمنيين ولدوا وتربوا على حجر اليمن مثلهم مثل اليمنيين المسلمين . وهذا ذروة التسامح الديني مع الطائفة اليهودية في اليمن . وهذا ما أكده الدكتور عكاشة ، قائلاً : “ منح الولاة والحكام المسلمون اليهود بشكل عام ومنهم يهود اليمن حق الإقامة والسفر والتعليم . فقد تواجد اليهود اليمنيون في أنحاء مفرقة من اليمن خاصة في المدن الرئيسية كصنعاء ، وعدن ، وإب ، وبيحان ، وصعدة ، وذمار ، كما أقاموا في العديد من القرى اليمنية ، الأمر الذي يفسر روح التسامح ، كما أنّ الطمأنينة والأمان اللتين عاشها هؤلاء اليهود اليمنيون تحت ظلالهما ، كانت تعبر عن فكرة التعايش السلمي بينهم وبين اليمنيين المسلمين “ .[c1]حركات يهودية وافدة[/c] والجدير بالذكر أنه حدثت عدد من الحركات اليهودية في اليمن يزعم كل أصحابها أنهم المسيح المخلص, وأنه آن الأوان ليهود اليمن لهجرة إلى أرض الميعاد فلسطين . فقد زعم أحد اليهود واسمه ( الفيومي بن سعديه ) في بداية الحملة الأيوبية على اليمن سنة ( 569 هـ / 1174م ) أنه هو المسيح المخلص ، ولكن محاولته باءت بالفشل الذريع ، ولم تجد صدى لدى يهود اليمن . وفي عصر الدولة الطاهرية سنة ( 876 هـ / 1472م ) زعم أحد اليهود بأنه المسيح المخلص ولكن سرعان ما فشلت دعوته أيضًا ، وتم قتل هذا المسيح المزعوم . وقد صمتت الروايات التاريخية عن ذكر اسمه ، وما هي شخصيته ؟ . وما يسترعي نظرنا أنّ كبار أحبار اليهود سواء في داخل اليمن أو في مصر ، كانوا دومًا ضد هؤلاء اليهود الذين يزعمون بأنهم المسيح الخلص ويبدو أنهم ( أحبار اليهود ) لا يرغبون باستفزاز مشاعر المسلمين في اليمن من ناحية وأنّ تلك الحركات اليهودية قامت بصورة فردية دون الرجوع إلى كبار أحبارهم اليهود في اليمن من ناحية أخرى . وأمّا بخصوص دعوة سبتاي زيفي اليهودي التي وجدت صدى واسع بين اليهود اليمنيين . فقد كان لها أوضاعها وظروفها الخاصة بها وتتمثل أنّ أحد كبار أثرياء اليهود في مصر ساند تلك الحركة بالمال وكان من جراء هذا أنّ استمرت مشتعلة فترة من الزمن في اليمن وأحدثت الكثير من الاضطرابات ، والفتن بين الطائفة اليهودية من جانب وسلطات الدولة القاسمية واليمنيين المسلمين من جانب آخر ـــ كما قلنا سابقاً ــ وسرعان ما عادت الأمور إلى طبيعتها بعد أنّ تبين لكثير من يهود اليمن كذب مزاعم هذا اليهودي سبتاي زيفي . وتؤكد بعض المصادر أنّ بعض يهود اليمن هم الذين تبنوا حركة سبتاي زيفي ، وأمّا الغالبية العظمى من الطائفة اليهودية في اليمن ، فلم تؤيد تلك الحركة . وقد زعم بعض الكتاب الإسرائيليين أن حركة سبتاي زيفي اليهودية كادت تعصف باليمن ولكن هذا محض افتراء ، وقلب للحقائق . وما يسترعي النظر هو أنّ زعماء تلك الحركات اليهودية التي حدثت بين يهود اليمن لم يكونوا يهوداً يمنيين أي أنها كانت حركات يهودية وافدة على اليمن . وهذا سبتاي زيفي ، كان يهوديًا من أزمير في تركيا في عصر السلطنة العثمانية نشر فكرته تلك في سنة ( 1648م ). وأمّا الحركة الأخرى وهي لليهودي ( الفيومي بن سعديه ) ، فإن اسمه يدل على أنه يهودي مصري . وهذا ما دفع رئيس يهود مصر ( موسى بن ميمون ) إلى التصدي له ، وطلب من أحد أحبار يهود اليمن الوقوف ضده وضد مزاعمه ، وفشلت دعوته فشلاً ذريعًا .[c1]الإمام الهادي ويهود اليمن[/c]وتذكر المصادر التاريخية أنّ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى ( 298 هـ / 911م ) مؤسس الدولة الزيدية في اليمن في أواخر القرن الثالث الهجري ( القرن التاسع الميلادي ) أولى الطائفة اليهودية الكثير من العناية والاهتمام ، وقد منحهم الكثير من الحرية في أداء طقوس عقيدتهم وأيضًا في حرية التنقل ، وحرية مزاولة النشاط التجاري . وتشير الروايات إلى أنه عصفت بالبلاد في فترة حكم الإمام الهادي أزمة اقتصادية طاحنة ألقت بثقلها على اليمنيين المسلمين ما دفع بكثير منهم إلى بيع أراضيهم للطائفة اليهودية ، واستغلت الأخيرة تلك الضائقة المالية التي وقعت بهم ، وقامت بشراء الكثير من الأراضي منهم “ . وهذا دليل على أنّ الأوضاع الاقتصادية للطائفة اليهودية في عهد الإمام الهادي كانت أفضل بكثير من اليمنيين المسلمين . وهذا ما أكده الدكتور محمد عكاشة ، قائلاً : “ علمًا بأنّ الأوضاع الاقتصادية ليهود اليمن في عهد الإمام الهادي ، كانت أفضل بكثير من وضع سكان اليمن المسلمين خاصة شريحة الفلاحين التي خضعت لأعمال السلب والنهب والابتزاز من قِبل القوى السياسية في صراعها على السلطة والهيمنة ولحاجة تلك القوى المتصارعة للأموال في الوقت الذي كانت فيه الطائفة اليهودية في منأى عن تلك الصراعات مما جنبها عمليات السلب والنهب “ .[c1]يهود اليمن من أصل يمني[/c]ولقد زعم عدد من الكتاب الصهاينة والإسرائيليين أنّ يهود اليمن أصلهم يعود إلى العبرانيين أو الإسرائيليين وأنّ أصلهم وجذورهم تعود إلى المجموعات اليهودية التي هاجرت من أرض الميعاد فلسطين إلى اليمن واستقروا بها بسبب الغزو والاضطهاد الديني الذي تعرضوا له من قِبل فترة حكم بوختنصر ملك بابل ، وبعدها في عهد حكم الروم ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . ويفند الدكتور محمد عكاشة أكاذيبهم ، ومزاعمهم تلك ، فيقول : « يتضح لنا مما تقدم أنّ يهود اليمن من أصل يمني ، وأنّ جميع هؤلاء اليهود اليمنيين ، كانوا من السكان الأصليين لليمن وذلك على عكس مزاعم الكتاب الصهاينة الذين حاولوا جاهدين وباستخدام كافة أشكال التشويه والتزييف وقلب الحقائق التاريخية وليّ أعناقها ـــ كما هو حال معتنقي الديانة اليهودية في مناطق العالم المختلفة ـــ الزعم أنّ يهود اليمن إنما هم من أصل عبراني أو إسرائيلي . ولا شك أنّ الحركة الصهيونية اليهودية وكذا الحركة الصهيونية غير اليهودية . قد استندتا إلى إدعاءات زائفة لا تستند إلى أساس عملي أو واقع تاريخي وذلك بهدف الربط بين الحركتين وبين تاريخ بني إسرائيل الديني القديم المزعوم في فلسطين لتبرير أهدافها السياسية الرامية إلى إقامة الكيان الصهيوني وعلى أرض فلسطين « . ويمضي في حديثه ، قائلا: من بين الحقائق والمعطيات التاريخية والتي تثبت وبشكل قاطع اعتناق أقوام غير عبرانية أو إسرائيلية ـــ في فترة لاحقة لوصول الديانة اليهودية إلى اليمن ـــ حقيقة اعتناق الخزر الآريين للديانة اليهودية . والخزر هم شعب تركي ينتمون إلى الجنس الآري . وقد أقاموا لهم دولة في المنطقة الاستراتيجية الواقعة بين البحر الأسود وقزوين . كما فعل (( أب كرب أسعد )) في أوائل القرن الخامس الميلادي ، و (( يوسف ذو نواس )) في أوائل القرن السادس الميلادي ، عندما اعتنقا الديانة اليهودية ، وهما يمنيان ... » .[c1]الهوامش :[/c]الدكتور محمد عبد الكريم عكاشة ؛ يهود اليمن والهجرة إلى فلسطين 1881 ـــ 1950 ، الطبعة الأولى عدن 1993م .حمود محمد جعفر السقاف ؛ تبابعة وملوك اليمن ، الطبعة الأولى 1425 هـ الموافق 2004م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ـــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ــــ .الدكتورة اسمهان سعيد الجرو ؛ موجز التاريخ السياسي القديم لجنوب شبه الجزيرة العربية [ اليمن القديم ] ، مؤسسة حمادة للخدمات والدراسات الجامعية ـــ اربد ـــ الأردن ـــ .