بدأت الحكومة الجديدة هذا الأسبوع عملها برئاسة الدكتور علي محمد مجور بعد أن أدى رئيس الوزراء والوزراء القسم الدستوري أمام فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية، وسط ترقب يسوده تفاؤل من قبل الحزب الحاكم وأنصاره ومريديه من جهة، تقابله مراهنات من قبل أحزاب المعارضة على فشل الحكومة واستعداد لمواصلة الهجوم عليها والتشكيك بقدرتها على تنفيذ المهام المنوطة بها في ضوء البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية الذي حاز على ثقة غالبية الناخبين والناخبات في الانتخابات الرئاسية التي جرت في سبتمبر 2006 المنصرم.من الطبيعي جداً أن يتفاءل الحزب الحاكم وأنصاره بإنجازات جديدة تضاف إلى رصيد الإنجازات السابقة التي حققتها حكومات المؤتمر الشعبي العام خلال الأعوام الماضية . ومن الطبيعي أيضا أن يأتي رد فعل أحزاب المعارضة وصحافتها بالاتجاه المعاكس. في هذا الاتجاه يغدو طبيعياً أن يشهد أي تشكيل حكومي جديد تغييراً لبعض الوزراء وإحلال وزراء جدد محلهم، إلى جانب تنقلات محدودة أو كبيرة لبعض الوزراء من حقيبة وزارية إلى أخرى، بيد أنه من غير الطبيعي أن يصر وزير المالية السابق على البقاء في منصبه الوزاري السابق رافضاً حقيبة وزارية أخرى أسندت إليه، وأن يخرج أنصار وزير الثقافة السابق في تظاهرة علنية للمطالبة بإقالة الوزير الجديد وإعادة الوزير السابق حاملين لافتة تشير إلى أن الوزير السابق «خُلق للثقافة» بمعنى أنه لا يمكن أن يحيا ويعمل بغيرها أو لغيرها!! لا ريب في أن ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي في ردود الفعل المشار إليها سابقاً يدخل في سياق إشكاليات الديمقراطية التي تعطي للناس سواء كانوا قادة أو وزراء أو مواطنين الحرية الكاملة في الاختيار والتعبير عن الرأي واتخاذ المواقف الحرة بعيداً عن الخوف والضغوط والقبول بما هو غير مرغوب من قبل الأفراد أو الجماعات.ولئن كان من حق كاتب هذا السطور أن يتفاءل بإنجازات أفضل وأكبر تحققها الحكومة على النقيض من تشاؤم أحزاب المعارضة، فمن حقه أيضا أن يبدي رأيه في بعض ردود الفعل التي جاءت من قبل بعض أنصار الحزب الحاكم الذين نظموا هذا الأسبوع مسيرة صغيرة باسم ( المثقفين ) طالبوا فيها رئيس الجمهورية بتغيير وزير الثقافة الجديد وإعادة الوزير السابق بحجة أن الحياة الثقافية تتطلب ذلك.لست هنا بصدد الإشادة بالوزير الجديد والانتقاص من الوزير السابق، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود صداقة شخصية وعلاقة ودية تربطني بالأستاذ خالد الرويشان وزير الثقافة السابق. لكنني أود التأكيد على أن إشكاليات الحياة الثقافية ومتطلبات النهوض بها لا يمكن لوزير بعينه الوفاء بها، ناهيك عن أن شخصنة القضايا تؤدي دائماً إلى تسطيح أي مشكلة مطروحة للجدل، وتجويف المناقشات والخلافات الدائرة حولها . تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إن المشهد الثقافي في اليمن يعاني من نقاط ضعف خطيرة في بنيته التحتية وأدواته ومخرجاته.. ويزيد من تعقيد هذا المشهد تخلفه الشديد عن المشهد الثقافي العربي الذي يواجه هو الآخر تحديات الحداثة والعولمة في عالم متغير، أسهمت تحولاته العاصفة في تغيير كثير من المفاهيم المتعلقة بوظائف الثقافة كمنظومة شاملة تضم فروعاً مختلفة مثل الهوية – اللغة – التربية – الإعلام – الأدب – الفن – نظام القيم والأخلاق.الصورة العامة للمشهد الثقافي العربي واليمني تتسم بالاختناق والتآكل، ما أدى إلى ضيق مساحة الإبداع وغياب قيمة الحوار الداخلي وضحالة المستوى الثقافي عند العاملين والناشطين في مجال التعبير الإبداعي، الأمر الذي جعل النخب المثقفة بمختلف مذاهبها الفكرية والسياسية والفنية عاجزةً عن إدراك ما يجري حولها وما سيحدث لها في المستقبل!من الصعب أن يظل مفهومنا للثقافة أو المثقف نمطياً وموروثاً عن الماضي القريب أو البعيد، فيما العالم من حولنا يتغير على نحوٍ مطَّرد ومتسارع.. وعليه فمن الضروري أولاً أن نتفق على الاعتراف بحقيقة أنّ العالم والوطن اليوم يختلفان عن العالم والوطن في القرن الماضي والقرون السابقة، بمعنى أنّ الزمن الجديد والمغاير يتطلب بالضرورة مثقفاً جديداً وثقافة جديدة، ومفهوماً جديداً لوظائف الثقافة والمثقفين.لعل أبرز ما يميز الحقبة الراهنة من تطور العالم المعاصر أنّ الثورة الجذرية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات جعلت مصير العالم مرتبطاً بنتاج العقول، بعد أن تغيّرت على نحوٍ جذري وظائف الثقافة والمثقفين، حيث تمارس تكنولوجيا المعلومات تأثيرها النوعي على الثقافة من فضائين واسعين.. الأول فضاء طبيعي عبر الأقمار الصناعية، والثاني فضاء اليكتروني عبر شبكة الانترنت التي تحولت إلى وسيطٍ إعلامي وثقافي جديد.حال المثقف في عالم تكنولوجيا المعلومات لا يختلف عن حال الثقافة.. كلاهما يواجه خيارات صعبة وتحديات داخلية وخارجية تتطلب نمطاً جديداً من الأفكار والمفاهيم والمناهج والأدوات والأهداف، تبعاً للمتغيرات الحاصلة في شكل ومحتوى العمليات الثقافية الجديدة التي أصبحت كونية ومترابطة وانسيابية.. أما أبرز هذه التحديات فهي تلك التي ترتبط بضرورة تجديد الأدوات المعرفية للمثقف، واكتساب مهارات الحوار والاتصال بين الثقافات، وتجديد وسائل التعبير.بوسعنا القول إنّ الفضاء الطبيعي والفضاء الاليكتروني أصبحا بفضل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ساحة ثقافية موحدة تتعامل مع المتلقي في منزله أو موقع عمله، فيما أصبحت هذه التكنولوجيا تلعب دور المبدع إلى جانب دور الوسيط في آن واحد . وذلك من خلال قدرتها على ترميز وتخييل وتجسيد شكل ومحتوى النصوص والموسيقى والصور والجرافيك، سواء في مجال الإبداع الإذاعي والتلفزيوني والسينمائي، أو في مجال التحرير الصحفي والرسائل الإعلامية الحيَّة والجرافيك، حيث لم تُعد النصوص والصور مجرد حروف وكلمات وخطوط وظلال وألوان مجردة، بل شبكة كثيفة من التراكيب البنيوية الحيَّة والمخيالية.في سياق كهذا لم يُعد مجدياً اجترار التجارب والمذاهب الفنية القديمة في الشعر والقصة والرواية والفنون التشكيلية، وإحياء السياسات الثقافية الشمولية للحكومات في عالم لا مستقبل فيه لمثل هذه المذاهب والسياسات.. فالساحة الثقافية الكونية لم تُعد بحاجةٍ إلى المثقف الذي يبشر بالآيديولوجيا ويحرسها، كما أنّها لا تحتمل أمراض المثقف الذي يرى الإسفاف إبداعاً والمحاكاة تجديداً والتدليس تنويراً، أو المثقف الذي يسعى إلى تحصين التراث والهوية بالحصون والقلاع المنيعة بهدف الحيلولة دون التفاعل والاتصال بالآخر.. أما ذلك النموذج المعروف بمثقف السلطة فإنّ ملعبه الأثير والمحكم لم يُعد فاعلاً.. فمن الصعوبة بمكان اختزال وظائف الثقافة عن طريق احتكار سلطة المعرفة، أو ممارسة القمع والاحتساب والانغلاق بدعوى حماية نظام القيم!.ما أحوجنا اليوم للتعامل مع إشكاليات الثقافة والمثقفين من منظور جديدٍ يتجاوز موروث طرائق التفكير والعمل القديمة والمفاهيم البالية والانعزال النخبوي، سواء على مستوى السياسات الثقافية أو الإبداعات الفردية، فكل الأطراف ينشط اليوم وسط عالم متغير، وفوق ساحة كونية واحدة لا سيادة عليها سوى للعلم.. فكما جعلت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات من الفضائين الطبيعي والإليكتروني ساحة ثقافية عابرة للحدود والقارات والقوميات، فإنّها حولت هذه الساحة أيضاً الى حقل معرفي يختزن ويستقبل ويبث جميع أنواع المعلومات في مختلف فروع المعرفة.أجل.. إنّه فضاء غزير بالأفكار والمعارف والتصورات التي تخوض في قضايا الفلسفة وأمور الدين والأخلاق، وترصد أحوال الرياضة والتجارة والصناعة والفن والأدب والموسيقى والسينما والصحافة والهندسة الوراثية.. وفي ساحة هذا الفضاء الواسع تتلاقى العقول وتتحاور الثقافات والحضارات، وتُقام المؤتمرات والمعارض الحيَّة وحلقات الدردشة والمواجهات الساخنة عبر الأثير.. بمعنى أنّه فضاء بلا حدود للأفراد والجماعات.. للأفكار والتصورات.. للمعارف والمعلومات.. للرجال والنساء، حيث تتم عمــلية تاريخيـــة جـــديدة لإعادة صياغة العَلاقة بين الإنسان والعالم.. بين المجتمعات والثقافات.. بين الحقيقة والأيديولوجيا.. وبين العقل والحريـة.[c1]نقلا ً عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
الحكومة الجديدة وبعض ردود الفعل
أخبار متعلقة