الخدمات الصحية في اليمن قبل الثورة .. وضع مزرٍ وحقائق مروعة
رصد/ د. نشوان محمد العطاب : قلة من اليمنيين كتبوا عن الوضع الصحي في اليمن قبل الثورة خصوصا في المحافظات الشمالية في ظل عهد الإمامة البائدة، وحتى أن وجدت بعض الكتابات فإنها كانت تعبر عن وجهة نظر المريض فقط، نظرا لعدم تواجد أي طبيب يمني متخصص في تلك الحقبة, بل كان جميع الأطباء العاملين في اليمن آنذاك من الأجانب، وبالتالي فقد كانوا هم المصدر الوحيد لعكس النظرة المحايدة لواقع الخدمات الطبية والمرجع الأول والأخير لتقصي الأوبئة الفتاكة والأمراض التي اجتاحت البلاد في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الشعب اليمني.ورغم قلة المعلومات والمراجع التي حصلنا عليها, سنحاول في هذا الرصد عرض وتحليل ومناقشة الوضع المتردي للخدمات الصحية قبل الثورة اليمنية المباركة، وتسليط الضوء على نوعية ومدى انتشار الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بالآلاف من أبناء الشعب، في ظل غياب شبه تام للخدمات الصحية وكذا توضيح اللامبالاة والإهمال التي كان النظام الإمامي يتعامل بهما تجاه المشكلة الصحية.[c1]أولا/ المشاكل الصحية قبل الثورة:[/c]1- الأمراض الشائعة: كانت الأمراض المعدية هي الأكثر شيوعا بحسب ما تظهره كتابات الأطباء الأجانب الذين عملوا في ذلك العهد، حيث اجتاحت اليمن أوبئة معدية وخطيرة سببت آلاف الوفيات، وفي مقدمتها وباء "التيفوس" و"الحمى الراجعة" التي ظل منتشرة في العديد من المناطق بما فيها حتى المناطق المحيطة بقصر الإمام، حيث انتشرت في أوساط رهائن الإمام من القبائل والتلاميذ في مدرسة دار الأيتام بصنعاء.وفي هذا يقول الطبيب البريطاني "بيتراي" الذي عمل في صنعاء خلال عهد الإمام يحيى في الفترة من 1937 و1943: أو أكثر من ذلك في غرفة واحدة !!؟ و يتركون لتدبير أمورهم بأنفسهم وعاجلاً ما يصبحوا قذرين وملابسهم غاصة بالهوام والحشرات, ونتيجة لذلك يصابون بالتيفوس والحمى الراجعة"، وفي عام 1943م تفشت حمى "التيفوس" في اليمن ووصلت إلى مستوى وباء وتفاقمت المجاعة الشديدة (...)، ولجأ الآلاف من أبناء تهامة إلى المرتفعات، إضافة إلى ذلك تفشى الإسهال والدوسنتاريا بسبب الاكتظاظ والجوع وانعدام النظافة وارتفع عدد الموتى.وتصف الطبيبة الفرنسية "كلودي فايان" التي عملت في اليمن في الفترة من 1950-1951م، نساءً وأطفالا منتفخة بطونهم وبادية على وجوههم حمى الملاريا عند مرورها بأحد قرى تهامة، مشيرة إلى أنها خرجت من القرية دون أن تستطع أن تقدم لهم شيئا بالرغم من أن إمكانية الشفاء عالية، إذا استخدم العلاج المناسب، فلكم أن تحددوا حجم مشكلة العدوى بالملاريا حينها في القرى اليمنية التي ما تزال تظهر بين حين وآخر في بعض المناطق اليمنية حتى الآن بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها وما تزال تبذلها الدولة منذ فجر الثورة المباركة لمجابهة الملاريا، من خلال توسيع انتشار الخدمات الطبية في كافة أرجاء البلاد و توفير العلاج المجاني للمصابين بالملاريا، وتنفيذ حملات الترصد الوبائي، وحملات مكافحة لقتل البعوض الناقل، وتوزيع الناموسيات مجانا وتبني حملات مكثفة للتوعية والتثقيف الصحي لتجنب الإصابة وتفادي انتشار هذا الوباء الفتاك.وإضافة إلى ذلك كان مرض السل الرئوي "الدرن" يفتك بالمرضى بالآلاف دون أن يستطيع أن يقدم الطبيب أي شيء، تقول الطبيبة الفرنسية "كلودي فايان" "لا يتم فصل مرضى السل في المستشفيات عن غيرهم، وحينها غادرت صنعاء ولدينا بالمستشفى 25 امرأة مصابة بالسل الرئوي ينتظرن العلاج دون فائدة"، فلنا أن نحدد حجم مشكلة ذلك الوباء الخطير إذا ما قورنت بالوضع الحالي الذي ما يزال فيه الدرن يهدد حياة المئات من المواطنين بالرغم من الإجراءات الوقائية الحالية التي تتبناها الدولة بدء بالتحصين المجاني ضده، وتوفير العلاجات مجانا للمصابين و انتهاء بالتثقيف بطرق انتشاره والوقاية منه.كما اجتاحت البلد في ذلك العهد أوبئة تخلصت منها معظم دول العالم، كالجذام وجدري الأبقار ودودة غينيا، بجانب البلهارسيا والتهابات السحايا، التي ذكرها الأطباء الأجانب الزائرين لليمن في تلك الحقبة, وكذا أمراض عديدة شائعة،منها التهاب المفاصل الروماتيزمي والفشل القلبي والكبدي والكلوي إضافة إلى مرض التصلب المنتشر بكثرة في عدد من المناطق، بحسب وصف الطبيب البريطاني "بيتراي".2- وفيات الأطفال: ارتفعت وفيات الأطفال في فترة الإمامة إلى نسب لا يمكن تصورها، حيث كان يتوفى 40 بالمائة من الأطفال المواليد في السنة الأولى من العمر، وترتفع النسبة إلى 50 بالمائة قبل بلوغهم سن العاشرة، ومن المعروف أن وسائل منع الحمل كانت منعدمة قبل قيام الثورة اليمنية، وكان معدل الولادات للمرأة الواحدة خلال فترة حياتها أكثر من 10 ولادات، وذكرت الطبيبة الفرنسية "كلودي فايان" في كتابها "كنت طبيبة في اليمن" امرأة يمنية كان لها 17 طفلاً كلهم ماتوا قبل أن يصلوا سن الخامسة ودون استدعاء طبيب واحد للعناية.وكانت أسباب وفيات الأطفال الاسهالات الحادة التي تؤدي إلى الجفاف الحاد والالتهابات التنفسية الحادة، بالإضافة إلى انتشار الأمراض المعدية الستة القاتلة بسبب انعدام التحصين ضدها للأطفال الرضع، وتذكر الطبيبة "كلودي فايان" أنها خلال خدمتها انتشر وباء الدفتيريا "الخناق" وهو أحد الأمراض الستة دون وجود الدواء المناسب الباهظ الثمن، وأنها شاهدت في مستشفى صنعاء خلال أسبوع واحد خمسة أطفال يتوفون أمامها من الذين استطاعوا الوصول إليها.ومما يعكس الحجم الكبير لوفيات الأطفال حينها، أن معظم القرى والمدن اليمنية كانت تخصص مقابر خاصة بالأطفال، كما أن أغلب سكان المقابر القديمة كانوا من الأطفال.3- وفيات الأمهات: بسبب أن عدد الولادات للمرأة الواحدة خلال فترة حياتها كان أكثر من 10 ولادات، بالإضافة إلى انتشار واسع لظاهرة الزواج المبكر للفتيات، فضلا عن كون النساء كن يتعرضن لمشاكل فقر الدم وضعف المناعة خلال الحمل بشكل خطير نتيجة الفقر المدقع وسوء التغذية وغياب الرعاية الطبية، إلى جانب تعرض الحوامل لعسر الولادات وهو ما يحتاج غالبا إلى عملية قيصرية ولكن لانعدام المرافق الطبية كثير منهن كن يلقين حتفهن.وتوضح الطبيبة "كلودي فايان" في كتابها القيم " كنت طبيبة في اليمن" حجم المشكلة في هذا الجانب بقولها "بعد وفاة الطبيب الجراح الوحيد عام 1951م خلت صنعاء من وجود جراح، وهنا كانت حياة المرأة المتعسرة تعتمد على حسن حظها فقط"، وتشير إلى أنها - أي الطبيبة الفرنسية - وقفت يائسة أمام كل امرأة تصل إلى مستشفى صنعاء بسبب تعسر الولادة، وبسبب عدم وجود إحصائيات بعدد الوفيات من الأمهات في تلك الحقبة يمكننا احتساب من احتجن لعملية قيصرية خلال تلك الفترة أحد أبرز أسباب تلك الوفيات، وهو ما لا يمكن مقارنته اليوم بعد الإنجازات الرائدة التي تحققت خلال ال 45 عاما الماضية من عهد الثورة اليمنية ,حيث باتت الخدمات الطبية تنتشر ليس في جميع المدن فحسب وإنما في أغلب حتى المناطق الريفية وتقدم الرعاية الطبية للأم الحامل وتجرى مئات عمليات التوليد والعمليات القيصرية يوميا في كافة مناطق اليمن ما يحافظ على سلامة الأم الحامل ووليدها.4- تباطؤ النمو السكاني: قدرت الأمم المتحدة عدد السكان في اليمن عند قيام الثورة بحوالي 3 ر4 ملايين نسمة، وأرجعت تباطؤ النمو السكاني وبشكل شديد الذي شهدته البلاد آنذاك إلى ضيق الفجوة بين معدلي المواليد والوفيات وهو ما يعني أن أغلب المواليد كان مصيرهم الموت, وذلك كان من ضمن التحديات التي وجهتها حكومات الثورة المتعاقبة وبذلت جهودا مضنية لمواجهة الأوبئة والأمراض وتعزيز انتشار الخدمات الطبية وتبنت حملات التحصين الموسع مجانا للأطفال , ما أسهم في تقليص معدل وفيات المواليد إلى حدود دنيا وأرتفع معدل النمو السكاني في اليمن ليصل إلى 7ر3 وهو من أعلى المعدلات في العالم وأدى إلى تضاعف عدد سكان اليمن في 45 عام إلى أكثر من 21 مليون نسمة، ولكن تفادياً للأخطار المحدقة من استمرار بقاء هذا المعدل خلال السنوات المقبلة بدأت الجهود الحكومية في إطار مواجهتها للمشكلة السكانية بتكثيف حملات التوعية للآباء والأمهات بأهمية تنظيم النسل وفقا لما حدده الشرع فيما يخص بقاء الأم حولين كاملين دون إنجاب وكذا تشجيع المفارقة بين الولادات وتوضيح الآثار الإيجابية لذلك على صحة الأم والطفل وعلى الأسرة والمجتمع بجانب الاستمرار في توسيع خدماتها الطبية لرعاية الأم الحامل والمواليد لاسيما من خلال جمعيات رعاية الأسرة اليمنية التي باتت تغطي معظم أرجاء البلاد.[c1]ثانيا/ الإمكانات الطبية قبل الثورة:[/c] إن الباحث في الخدمات الصحية التي توفرت في اليمن إبان ذلك العهد يجد أنها كانت ضئيلة ومتردية جدا، وكانت أن وجدت تستهدف شريحة الأسرة المالكةبالدرجة الأولى ثم المقربين منها، ولا علاقة لها بما يتعرض له بقة أبناء الشعب ، وفي ما يلي لمحة موجزة عن واقع الخدمات الطبية في ذلك العهد: 1- المستشفيات: كان في المحافظات الشمالية الوقعة تحت سيطرة النظام الإمامي حينها ثلاثة مستشفيات فقط في صنعاء وتعز والحديدة، فمستشفى صنعاء وهو أفضلها (كان يقع في مكان المستشفى الجمهوري حاليا) ولا تتجاوز سعته 200 سريراً، وبه 15 ممرضا وخادما، وبالرغم من وصفها لمستشفى صنعاء بالنظيف والمرتب والتغذية الحسنة، أكدت الطبيبة "كلودي فايان" التي عملت فيه، أن الأسرة لم تكن كلها شاغرة وكان الفقر متفشياً لدرجة أن الناس كانوا يدخلون المستشفى ليأكلوا، أما المرضى فلا ينتظرون في المستشفى علاجا، فالذين بحاجة لإجراء عمليات يجب عليهم أن ينتظروا حتى يأتي جراح ومجيئة مرتبط بحاجة أحد الأمراء لجراح، أما الآخرون فالأدوية لهم نادرة.أما مستشفى تعز الذي يحتوي على 30 سريرا، فقد وصفت الطبيبة "كلودي فايان" غرف رقود النساء فيه بأنها "زرائب بكل معنى الكلمة" حيث تتمدد فيه النساء الواحدة جوار الأخرى على الأرض القذرة، وشبهت حجرات الرقود فيه بمعسكرات الإبادة والفناء، موضحة أن الطبيب كان يمر بين العشرات من المرضى الذين يفترسهم "التيفوس" وكثير منهم مشرفون على الموت، ولا يوجد لهم في المستشفى الوحيد دواء وهم يستغيثون ويتضرعون بلا جدوى. وفي روايتها لذلك الوضع المأسوي الذي كانت تعيشه اليمن في ظل عهد الأئمة تكشف الطبيبة الفرنسية أنها مازالت تتذكر بألم وحسرة إمرأة يمنية رأتها وهي تحتضر وترقد فوق برازها، وتحمل طفلها في يدها وكانت تتضرع إليها هي في النفس الأخير ع وتتوسل بها ولم تتمكن من إنقاذها.وأما مستشفى الحديدة فكان به طبيبا وحيدا ويسعى بمفرده لعلاج ما يستطيع من آلاف المرضى الذي كانوا يتجهون نحو المستشفى، والذي لا يختلف حالا عن مستشفى تعز بل أسوأ حيث يكاد ينعدم به حتى الدواء.وبسبب وعورة الطرقات كان من المستحيل الحديث عن إنقاذ أي حالات طارئة من أقرب القرى المجاورة للمدن الثلاث.1- الأطباء: كان يعمل في المحافظات الشمالية قبل الثورة 15 طبيبا أجنبيا فقط، أغلبهم من الجنسية الإيطالية، بينما لا يوجد طبيب يمني متخصص واحد، ذلك لأن النظام الأمامي وبدون سبب لم يبتعث يمنيا واحدا لدراسة الطب في الخارج.وكان الطبيب الأجنبي يعمل في ظروف قاسية في ظل قلة الوسائل المهنية من أدوية ومعدات تشخيص، فليس هناك أثر للراحة، وكان الطبيب يعطى في كل صباح قائمة بأسماء المرضى الذين يجب زيارتهم في المدينة من أمراء وموظفون وغيرهم، وكان الأفضلية والأولوية طبعا لما كان يعرف حينها بطبقة (الأمراء والأسياد) وبقية أبناء الشعب يعتبرون من مادون تلك الطبقة ولا يلقون اهتمام بإنقاذ حياتهم إلا ما ندر.وتذكر الطبيبة "كلودي فايان" في كتابها مقولة لأحد الأمراء تؤكد المفرقة العجيبة بين بين أبناء الشعب في هذا الأمر , قال فيها "إذا مرض الأمير فعلى المدينة كلها أن تنتظر"، وشبهتتعامل الأسرة المالكة مع الأطباء، كما كان الأوربيون يتعاملون مع الحلاقين في القرن الخامس عشر، وأن الطبيب كان يعطى 100 جنيه مصري شهريا وهو مبلغ لا يشجع أي طبيب أجنبي.وبسبب انتشار الأوبئة، بات الأطباء الأجانب يتعرضون يوميا لخطر الإصابة بالمرض، وبدأ الأطباء الأجانب بالفرار من اليمن وخاصة بعد موت أحد الأطباء ويدعى "ريبولية" في عام 1951م أثر وباء حمى "التيفوس"، لدرجة أنه لم يتبقى عام 1951م سوى خمسة أطباء في اليمن بكاملها (أربعة إيطاليين وفرنسي).2- الاستشارات الخارجية والعلاج: تقول الطبيبة "كلودي فايان" لم يكن للاستشارات الخارجية أي أهمية تذكر إذ أن القليل من أوساط الشعب يقدرون على شراء الدواء، ولكن إذا ظهر المرض فقد حلت الكارثة فالناس فقراء والدواء باهض الثمن، وصيدلية الحكومة خالية من كل العلاجات، وكل ما يستطيع المرضى عمله هو أن يتنقلوا من أمير إلى أمير يستجدون الصدقة التي يشترون بها العلاج.3- مختبر للأمراء فقط: والمختبر الوحيد كان معملا مهجورا في المستشفى المقام بصنعاء، و به آلة تقريب مجهري (ميكروسكوب) ومقياس للضوء وفرن للتجفيف والتطهير، ولكنه لا يؤدي وظيفته، وذلك لأن الدخول إليه لا يتم إلا بعد موافقة نائب الإمام !!؟؟.وتقول الطبيبة "كلودي فايان" عندما احتاجت أحد مريضاتها لفحص الدم بشكل عاجل "كان نائب الإمام حينها الأمير الحسن مسافرا، ولا يستطيع أحد غيره أن يقرر فتح المختبر، بينما ازدادت حالة المريضة سوءا، ما أضطرها إلى أن تستغل مرض أحد الأمراء للكذب بأنه يحتاج إلى فحص مخبري، وبالتالي تلاشت كل الحواجز وتم فتح المختبر، وتمكنت تحت رقابة وزير الصحة بنفسه الذي لا يفهم شيء عن الطب، أن تجري فحص عينة دم للمريضة، كما اضطرت إلى الإدعاء أن الأمير المريض يحتاج إلى فحص بشكل يومي لتسهل دخولها إلى المختبر لإجراء الفحص".4- جهاز لكشف مضغة السواد في القلب!؟ أما جهاز الفحص بالأشعة الوحيد الذي كان موجودا في المستشفى المقام بصنعاء، فكان يفتح مرة في الأسبوع وبرسوم تتحدى المنافسة (ريال إذا كان الكشف عن الجزء العلوي من الجسم، وريالان إذا صور الجزء السفلي أيضا)، ومن الغريب أن الإقبال كان عليه كبيرا من أصحاء لم يقرر لهم الأطباء إجراء فحص أشعة ولا تستدعي حالتهم التعرض للأشعة الخطرة، كون التجار والأغنياء نتيجة الجهل كانوا يحبون أن يروا أفراد عائلاتهم في وضع شفاف، والسبب في ذلك لاعتقادهم بأن الجهاز يكشف المضغة السوداء في القلب التي ذكرها نبينا الكريم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وفي الحقيقة أنهم يرون الغازات الموجودة في المعدة باللون الأسود في صورة الأشعة السينية، وكان لهذه الشائعة الخاطئة الفضل في إدرار الكثير من الأموال للإمام.5- إدارة الشئون الصحية: كان وزير الصحة في الأمير القاسم بن يحيى في عهد الإمام يحيى وإسماعيل بن يحيى في عهد الإمام أحمد، ولم يتمتع أي منهما بسلطة فعالة لإدارة الشئون الصحية بل يتدخل شخص الإمام ونوابه في أتفه الأشياء.فالمختبر وغرفة العمليات والأدوية والأطباء الأجانب وتنقلاتهم، تعتمد على احتياج الأسرة المالكة للعناية الصحية، وبحسب أحد الذين عملوا مع الأئمة في تلك الفترة يقول لطف عبد اللهعامل السلك الأولوية "كانت لعلاج الأمراء, وإذا تعرض أحد أفراد الأسرة المالكة للمرض وأستدعى إنقاذه الذهاب إلى الخارج لأسعف بالطائرات في الجو أو السيارات في البر، أو لأحظر أفضل الأطباء له من كل مكان".ويوضح أن استجلاب الأطباء الأجانب واختيار جنسياتهم كان يعتمد على التجربة الشخصية للإمام أو ما يطلق عليه "الرضاء الملكي" ولا يعتمد على الكفاءة أو الدرجة العلمية، كما كان التعاقد مع الطبيب الأجنبي يستغرق عاما كاملا بسبب التباطؤ والتواني والروتين بالرغم من الحاجة الملحة، وهذا كان سببا لنفور الأطباء الأجانب عن العمل في اليمن.ولمعرفة كيفية التعامل مع الأزمات والمشاكل الصحية وصف الطبيب البريطاني "بيتراي" تعامل الإمام يحيى مع وباء "التيفوس" عام 1943م، بالتخبط والعشوائية في إدارة الأمور وغياب سلطة اتخاذ القرار لضمان الحفاظ على أبسط الضوابط الصحية والحجر الصحي، مما أدى إلى عجز البعثة الطبية عن مساعدة المرضى وخروج الوضع عن السيطرة، في وقت هم أنفسهم كانوا يتعرضون لخطر الإصابة بالمرض، ولهذا السبب قررت البعثة البريطانية مغادرة صنعاء.رابعاً التثقيف الصحي: لم يشعر أجدادنا وجداتنا بحجم المشكلة الصحية في اليمن في ذلك الوقت، لأن كثيرا من المرضى كان يتوفون غالبا دون أن يعرف أحد تشخيص مرضهم ويتم تسليم الأمر بعد ذلك لله تعالى، كما كانوا غالبا ما يلجأون إلى الشعوذة، ولا يفكرون للحظة أن هناك قصور بسبب ملكية النظام الصحي وانعدام الأدوية والأطباء.وبسبب الفقر تقول الطبيبة "كلودي فايان" "كانت حياة المريض اليمني في نظر أهله لا تساوي الكثير، ولا يجوز أن تكون سببا للبعثرة والتبذير، ويكتفون بالتسليم بالأمر إلى الله".وكان التثقيف الصحي منعدم تماما تقريبا، والمريض لا يعرف تشخيص مرضه، ولا كيف يتعامل معه وكان الجهل لدى المواطن عامل مساعد لتفشي للأوبئة والأمراض المعدية، بينما كان استمرار الشعب في هذا الجهل سياسة ثابتة من الإمام ظنا من أن ذلك يساعد على الإطالة في بقاء حكمة, بل أن الأمر وصل إلى أن يستغل الإمام بسخرية غياب الوعي الصحي لدى المواطن، ليواجه أمره إلى جميع اليمنيين بالخضاب بالحناء رجالهم ونسائهم، مدعيا أن ذلك وقاية لهم من مرض الحمى الشوكية، في حين أن الحقيقة أنه كان يريد يظهر لنفسه أن الشعب اليمني ما زال جاهلا ويستمع لأوامره.حقائق مرعبة عن ذلك الوضع الصحي المأساوي الذي كان تعيشه اليمن في ذلك العهد المتخلف, وهو ما يكشف بجلاء دوافع قيام الثورة السبتمبرية الأم لانتشال هذا الشعب من براثين الفقر والتخلف والمرض إلى رحاب فجر جديد من التطور والنماء, ولذلك ندرك مغزى ما ذهب إليه المناضل الكبير الوالد عبدالسلام صبره في وصفه للثورة اليمنية بأنها من أعظم الثورات الإنسانية في العالم كونها جاءت لتنقذ شعب كان مهدد بأكمله بالفناء والانقراض إذا ما ظل يرزح تحت براثين الإمامة الكهنوتية.لا مقارنة بين الأمس و اليوم ولاشك أن الدولة واجهت تركة كبيرة منذ فجر الثورة نظراً لميلادها في بلد ينعدم فيه أي آثر للتنمية ولا موارد لتلبية الاحتياج الماس والملح للمواطنين من كل مشاريع التنمية, إلا أن الجهود التي بذلت خلال الخمسة والأربعين العام الماضية، لتحقيق أهداف الثورة وترجمة أهدافها الإنسانية والتنموية, أثمر في أن تتحقق إنجازات رائدة للقطاع الصحي حتى باتت اليمن تفتخر بما أنجزته من مرافق صحية تضاهي في تخصصاتها وتجهيزاتها أرقى المستشفيات العالمية وتجرى فيها العمليات الكبرى والمعقدة بكوادر يمنية مائة في المائة.وبحسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة الصحة فقد ارتفع عدد المستشفيات في عهد الثورة المبارك ليصل بنهاية 2006 إلى أكثر من 282 مستشفى منها 30بالمائة تتبع القطاع الخاص , وزاد عدد المراكز الصحية في عموم محافظات الجمهورية إلى (261) مرفقاً صحي فيما تضاعفت عدد الوحدات الصحية ومراكز الرعاية الأولية إلى ثلاثة آلاف و(309) وحدات تتسع لأكثر من 12 ألفاً و(500) سرير.كما ارتفع عدد الأطباء إلى أكثر من ثلاثة آلاف و(198) طبيباً عاماً بينهم ألف طبيب اختصاصي في مختلف التخصصات الطبية فيما تجاوز عدد الأطباء المساعدين خمسة ألاف و(776) طبيباً مساعداً، وارتفع عدد الصيادلة إلى أكثر من 11000 صيدلي وتجاوز عدد الممرضين أكثر من 9200 ممرض وممرضة وارتفع عدد القابلات إلى أكثر من 2500 قابلة.وتوضح الإحصائيات أن وزارة الصحة مستمرة في تأهيل الكوادر الصحية في مختلف التخصصات عن طريق كليات الطب والمعاهد الصحية والمجلس اليمني للاختصاصات الطبية , بالإضافة إلى الابتعاث إلى الخارج، مشيرة إلى أن هناك عددا من الطلاب في الخارج يدرسون في أكثر من 72 تخصصاً طبيًا نادراً يصل عددهم إلى 335 دارساً.. بالإضافة إلى أن هناك أكثر من 1100 طبيب واختصاصي في 15 تخصصاً دراسياً عالياً يدرسون في مختلف الكليات والمعاهد التعليمية الطبية بمحافظات الجمهورية.. منوهة إلى أن كليات الطب والمراكز الصحية ومدارس التمريض تستوعب حالياً أكثر من 4 آلاف طالب وطالبة يتلقون مختلف العلوم الطبية في 15 مساقاً تخصصياً متنوعاً من التمريض والقبالة وفني التخدير والأشعة وغيرها من المهن الطبية المساعدة.