الصحفي أحمد الشيخ
حوارات متعددة الأطراف والقضايا سعى من خلالها الصحفي والكاتب أحمد الشيخ إلى وضع عمق الأزمة لمفهومية العلاقة بين الشرق والغرب ، عبر تنوع الأفكار والتصورات التي يرتكز عليها العقل العربي في تحديد المسافة بين الهوية والحضارة عند هذا الخط الفاصل بين الالتقاء والمواجهة . عقليات في الثقافة العربية المعاصرة تناولت الرؤية من زوايا مختلفة ومن قراءات تحاورت فيها المعالم كما اختلفت فيها الصياغات وما بين هذا التنوع الذي ينتقل بالفكرة من دائرة إلى أخرى، تبقى مسالة الصلة بين المثقفين العرب والغرب حقيقة حضارية غير أنها لا تقف على مساحة واحدة من الإدراك والتفكير فالرؤيا فيها تتدرج حسب الانتقال التاريخي الذي يفرض مع كل فترة أبعاده المترنحة ما بين الثبات عند درجة معينة من هيمنة الغرب على الشرق وما بين رفض هذا القهر الحضاري والاحتماء بالذاتية كقلعة تصد حالة الاحتواء الغربي الذي يرسم جغرافية مكوناتيه على عقلية شرقنا. غير أن هذا التصادم لا يلغي قضية كيف نعرف الغرب ؟ حضارة وفكراً وعلى أي أسس تبنى معارفنا عند هذا المستوى من الحدث المعرفي. تساؤلات عديدة يطرحها الأستاذ أحمد الشيخ ، والرد يأتي حسب قراءة وإسهام كل شخصية ثقافية وما قدمت من معارف في هذا الاتجاه. إن الفكرة في هذا المضمون لا تبحث عن المحايدة فسياق الأزمة لا يستدعي المهادنة في حقائق تدخل دوائرها في مجال تحديد الهوية وإسقاط الذاتية على الغير أو حتى محاولة سحقه وإعادة تشكيله حسب تصور مراكز صناعة القرار ، غير أن الرغبة في خلق حالة توازن بين الأطراف تظل مسعى لا يسقط من حسابات هذه المعادلة الحضارية القائمة بين الشرق والغرب. يقول أحمد الشيخ: ( كما أننا لم نذهب في هذا الحوار، مذهب الذين يعملون على إخفاء الصراعات والتوترات القائمة بالفعل ، وكتبنا في أكثر من مكان أن التوتر الراهن الذي تشهده العلاقة بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب، أو بين العالم الحر ، والعالم غير الحر! يدعونا إلى التساؤل عما إذا كان هناك وعي جديد في العالم العربي بدأ يتبلور في السنوات الأخيرة إزاء الغرب؟ وأين ينتشر أكثر في المجتمع العربي؟ وماهي الشرائح الاجتماعية المؤهلة أكثر من غيرها لدعم هذه الرؤية الجديدة إزاء الغرب بكل ما يمثله علمياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً ؟ ثم لماذا يبزغ هذا الوعي الجديد في الشرق العربي والإسلامي في هذه الفترة بالذات وليس قبلها أو بعدها وعلى أية أنقاض يتقدم هذا الوعي الجديد بالغرب؟ وبالتالي ماهي النتائج - الايجابية والسلبية المرافقة لانتشاره في الأمد القريب والبعيد على حد سواء؟). ما يطرحه احمد الشيخ في هذه النظرة الموضوعية حول العلاقة بين الشرق والغرب ، بان الاختلاف في المراحل الزمنية يفرز معه تصوراتها ودلائل عملها التي تتكون من أحداث ومواقف تتجاوز حدود وجغرافية ماهو قائم في الواقع. فالوعي الذي يتشكل خارج الأطر السابقة هو حالة استباق مع تشكل جديد لمفهوم الحضارة وعندما يمر المجتمع بحالة استعادة الرؤية وإخراج الذاتية من حصار الانفراد لابد من إعادة النظرة نحو الغير وهنا يأتي دور قادة الفكر في المجتمع في وضع اطر هذا المسار مع الحفاظ على مسافة من الانتماء حتى لا يقع هذا الترتيب في دائرة سيطرة الأخر. هنا تصبح الفترة التاريخية لهذا الحدث بوتقة صهر للمكونات السابقة وإعادة تأسيس لمنهاجية معاصرة، حتى يكون مستوى التطلع عند إمكانية الفكر، وهذا التغيير القادم من داخل كيان المتجمع لا يقطع جذور أسسه عن صفاته الحضارية فهو عندما يؤسس رؤية جديدة للعلاقة مع الغرب لا يدفع بعوامل الصدام السابقة إلى زاوية المجهول وجعل مساحة الحوار خالية من مرجعية مهما كانت حدة مفارقتها لا تخرج من عملية إعادة الحساب مع الغرب. إن الغرب يشترط فكر الهيمنة عندما توضع العمليات الفكرية في دائرة المشروع السياسي وهنا يتحول حق الرد إلى مستوى من مستويات الدفاع، فالتوتر في العلاقة تنحرف من خلاله حقائق وأسس ، أما حدود الوسيطة في الفكر والتعامل فتختلف مدركاتها ولا تتربع على موازين قيادتها غير حدة فكرية تخلق حالات من الانفجاريات والتصادم . يقول المفكر الدكتور احمد الشيخ: ( الواقع أن حضارة العصر ، وما يطبعها من وجه ثقافي لا بد بحكم الضرورة أن تكون ينبوعاً موحداً لكل الشعوب التي تعيش في هذا العصر ، وهو ضرب من المحال أن ينطوي شعب من الشعوب على تراثه الحضاري غاضاً بصره عن حضارة العصر لأنه حتى لو فعل ذلك فسيفاجأ بأسلحة العصر تغزوه في دقيقة واحدة ، وبالتالي علينا أن نأخذ من هذا الينبوع الحضاري الموحد بقدر طاقتنا على الأخذ ولا أرى عيباً في ذلك لان الأمر مطروح أمام الجميع فالمسافة ليست تبعية وإنما مشاركة حضارية وهذه المشاركة لا تمنع شعباً من الشعوب من الاحتفاظ بهويته الشخصية لان الهوية قوامها فروع أخرى تضاف إلى التيار الحضاري العام فالهوية تظهر في ما ننفرد به) . حالة التوحد التي قد يصطنعها عقل في عزلته ، لم تعد من صفات عصر المعارف الواسعة ، خصائص الثقافة العصرية الاتصال مع الغير، وفي هذا الالتقاء تتشرب كل حضارة من الأخرى ، وفي هذه النظرة تبتعد الثقافة عن هيمنة السياسي فالحضارة هي هوية شعب عبر فنونه وآدابه ومعارفه المتعددة التي تعبر الحدود دون نقاط أو فواصل بين اللغة أو الأفكار وهنا تخرج الذاتية عن إطار الفرد في التقارب مع الشعوب والحضارات لتصل إلى حيث الالتقاء الكوني مع الإنسان إن عالم اليوم لا تصنع معالمه الانطوائية أو عزل الفكر عن مجريات الحياة بل المعرفة هي مشاركة مع الغير وكلما توسعت مساحات المشاركة تتراكم تجارب وخبرات عقول تتحدد من خلالها القيمة المعرفية لكل امة وعلى أي مستوى من درجات الحضارة تقف هي. فالشرق وإن هو اليوم غير محور ثقافة العالم كما كان في السابق يظل له من رصيد الماضي ما يصنف أبعاد هويته في إطار اتصاله مع الغرب. إن عملية إدراك الماضي وما فيه من صفحات مشرقة ما زالت مناراً لعقول أهل اليوم ومقومات ما يحفظ صفات الهوية عند تخاطبنا مع الغرب وحتى نواكب عالم الغد علينا رفض إرث الماضي وإقامة معالم جديدة لوجودنا حتى نكون في جانب حضارة الغرب. كيف نفهم الغرب؟ ذلك هو سؤال المعرفة والتاريخ الذي تعددت حوله الإجابات وكل إجابة تطرح مالها من تصورات ومعالم تعد مرحلة من المسارات التي سارت بها تلك الفترات من التقارب والتباعد بينها. هناك من يرى أن حلقات الاتصال مع الغرب ومحاولة فهمه لا تخرج عن إطار الجهود الفردية ومحاولة قراءة المغاير في ذلك الاتجاه وهناك من طالب بقيام مؤسسات علمية تدرس الغرب تظاهرة كونية أصبحت هي مركزية المعارف في عالم اليوم ، ولا يمكن تخطي هذا الانجاز الحضاري أو التعامل معه دون المستوى المطلوب. يطرح احمد الشيخ على الباحث أنطوان المقدسي هذا السؤال : ( بعض المستشرقين والإعلاميين الغربيين يقولون إن لدينا - نحن العرب - سوء فهم وعدم دقة في إدراك وتصور الغرب، وأنا لا نملك دراسات وأبحاث عن الغرب توازي ما نتجوه من دراسات وأبحاث عن الشرق ، ماذا تقول عن هذا الكلام؟) . ويرد المقدسي قائلاً: (صورتنا عن الغرب اصح وأدق من صورتهم لذا انظر إلى كتب التاريخ في المدارس الغربية غالباً ما تجدها تشوه صورة الغرب . بينما كتبنا أكثر انصافاً من كتبهم. ونقول دوماً : إن الغربيين اقتبسوا في الماضي عنا ، ومن حقنا أن نأخذ منهم كما نقول إن الحضارة العربية ظاهرة عالمية وليست ملكاً لأحد ومن المؤكد أننا نعرف عن الغرب ، أو عن أوروبا بشكل عام أكثر بكثير مما يعرفه الأوربيون عنا إلا أن الغربيين درسوا تاريخهم بعناية أما تاريخنا فقد بقى مجهولاً لنا بسب قرون الانحطاط التي أوقفت مفكرينا وأدباءنا عن الكتابة). دراسة الأخر تدخل في مسار الحق الحضاري لنا . فقد تكون لنا مفهوم عن إسهامات الغرب المعرفية وهنا يصبح التاريخ في مفترق المراحل وما تصنع من وجهات نظر . فالغرب كما يرى الأستاذ أنطوان مقدسي قد أسس منهجية رؤيته للشرق على قاعدة إسقاط الهيمنة الحضارية التي تجعل من الأخر الأقل انتاجاً للمعارف أو الفاقد لها صورة لا توضع في مصاف القيادة المعرفية للتاريخ . بل تذهب في نظرته للشرق بطرحه في إطار الناقص - الفاقد للكيان الحضاري بينما يدرس الشرق الغرب من منطلق البحث عن العالمية في الاتصال معه. ولكن هذه الأطروحة تحمل في داخلها صورة عجزنا عن قراءة عقلية الغرب الذي يجعل من النظرة الاستعلائية فكرة المنظر لمشروعية العلاقة بين الشرق والغرب وهو بهذا يسقط في اسر الذاتية الغربية الساعية للفردية الهادفة إلى خلق مسافة تفصل بينها وبين الشعوب الأخرى. إن حضارة الغرب بقدر ماهي كونية في معارفها بقدر ماهي أحادية الجانب في تعاملها معنا، ولكن يغفل عنا هذا الفعل موضوعي خروجنا من قيادة التاريخ وتحول عقولنا إلى دوائر مغلقة أنزلت فعل الإرادة لدينا إلى مخنق الانقسامات التي أفرزت صراعات وأزمات جعلت منها الحصون المتمرسة خلفها أسباب ضعفنا وعدم قدرتنا على تجاوز خطوط الرؤية المنتظرة التي لا ترى من الصورة إلا بعض الألوان الباهتة. يقول الأستاذ احمد الشيخ (من المؤكد بالنسبة لنا أن هناك ما يبرر الحديث عن ظهور وعي جديد في الشرق العربي والإسلامي مخالف للصورة التقليدية التي نمتلكها عن الغرب منذ قرنين على وجه التحديد ومؤشرات هذا الوعي الجديد تكمن اولاً في حدوث ما يشبه الانقلاب في صورة الغرب بصفة عامة داخل المجتمعات العربية والإسلامية وذلك لدى قطاعات لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها إذ لم تعد صورة الغرب اليوم لدى هذه الفئات هي الصورة ذاتها التي بدأت مع عصر النهضة العربية وفتح القنوات بهدف التفاعل والأخذ من هذا الغرب المتقدم. الآن نجد الأمر على درجة كبيرة من الاختلاف فصورة الغرب في مجتمعاتنا كفت عن سحرها القديم. لم يعد الغرب في الوعي الصريح أو الضمني للعديد من شرائح و مثقفي هذه المجتمعات هو غرب العلم والحضارة والقيم والآداب الإنسانية الرفيعة إنما هو ذلك الغرب السياسي في المقام الأول كما أن ما يبرر لنا الحديث عن هذا الوعي الجديد أننا لا نراه مقتصراً فقط على الحركات الدينية المتشددة التي تحمل موقفاً مناهضاً للغرب بالفطرة وإنما هناك ايضاً تحول جذري لدى بعض المثقفين العرب الذين كانوا ينتمون إلى الغرب وانه لا ينبغي الاقتصار فقط على نقد التبعية السياسية والاقتصادية والإعلامية). موقف العقل العربي من الغرب عبر هذه المراجعة هدف يسعى إلى الانفلات من تسيد هيمنة حضارة الغرب والخروج من نظرة الانبهار إلى موقع الحوار إلادانة المواجهة. الغرب المعرفي لم يعد هو المساحة الأوسع التي تمتد إليها نظرة الشرق هناك اليوم الغرب السياسي قوة التحدي ومحاولة استعادة ما فقد من وجوده الجغرافي في الشرق. إن الحالة في لحظات الانبهار والغرف في سحر الغرب قد تجاوزتها عدة عقليات في الشرق فالقراءات اليوم تنطلق من حدة المواجهة مع حضارة يسخر كل إنتاجها المعرفي في قيادة مشروعها السياسي وجانب إدراك أن المعرفة القادمة مع قوة السيطرة لا تعزز الإحالات من التشوه والانفصام والتمزق في عمق الهوية وتلك فترات مر بها الشرق لكل معاناتها الفكرية والحضارية وما صعود الغرب السياسي في الحاضر إلا استمرار لهيمنة حضارية كانت أوليات خطواتها في عهود الاستعمار السابقة. التصادم الحضاري بين الشرق والغرب في الماضي بقدر ما قدم بعضاً من ثمرات المعارف التي سارت تابعه دون تساؤل اوجد في تربة هذه الحالة محاولات للرفض والتجاوز وبقدر ما كانت اصواتاً منفردة غير أنها مع تطور المراحل أصبحت رؤية ومواقف وهوية تسعى إلى تحديد المسافة والعلاقة بين الشرق والغرب فمن يطرح هذه التصورات هو من يسعى إلى استعادة الهوية من مراحل الاستلاب والفعل السياسي الذي يطرحه الغرب في عالم اليوم يكشف حقائق عدة لمعنى الثقافة لحضارته وكيف تحاول استرجاع كيانها كقوة محركة لاتجاهات العقل العربي من اصغر مساحات مفاهيمه المذهبية والمناطقية والعشائرية وفي العلوم الثقافية المحدودة المسافة عندما تصبح صناعة القرار السياسي مشروع تحكم وإعادة صياغة لقطاعات واسعة من الناس ينقل مفهوم الوعي الحضاري بين الشعوب من مستويات الأخلاق الحضارية واحترام الهوية إلى درجات من الرعب والخوف والرغبة في دفع الأخر والانفراد بسماحة الحضور ويكون مفهوم الحضارة مع من يملك قوة السيطرة وتقزيم دور الغير. إن هذه الحوارات المتعددة الأفكار والتصورات التي طرحها الأستاذ احمد الشيخ على عدد من قادة الثقافة والفكر في الثقافة العربية المعاصرة طرحت أكثر من رد ولم تقف عند رؤية واحدة من تشعب هذا الموضوع فمساحات النقاش تتوسع كل يوم ومع تصاعد زمن المواجهة وما يطرح من حوار الحضارات والدعوة إلى ثقافات توحد المفاهيم في العلاقات بين الشعوب وفي الوقت ذاته تتصاعد حدة الأزمات بين الشرق والغرب مع زحف نظام الهيمنة الجديد القادم مع فرض العقل السياسي لرؤيته والسعي لتشكيل جغرافية جديدة تعيد رسم الحدود والهويات وإحياء كيانات صغيرة كانت قد دخلت في إطار الدولة القومية - الوطنية واستحداثها من خلال سحبها من أطرها الذاتية وجعلها مشروعات قطرية لمراحل التجزئة تلك هي الحقائق القادمة لمشروع الغرب السياسي الذي سعت بعض العقول العربية إلى قراءة أهدافه منذ سنوات عديدة ومع تصاعد قوة هذا الاتجاه القادم إلينا من الغرب تظل محاولات المواجهة مستمرة مع السعي لخلق قوة إدراك في كيان أمم الشرق وجعل الموضوعية القاعدة التي تعزز المعارف لذلك يصبح لحوار أهل الرأي مكانة في هذا الظرف الذي تحولت فيه الثقافة إلى قوة سياسية .[c1]المراجع [/c]احمد الشيخ المثقفون العرب والغرب المركز العربي للدراسات الغربية الطبعة الأولى : 2000م القاهرة.