وَضَعَهُ وخالفَ بهِ حكمَ الله اثنان فقط من ذوي الشبهات
« ما فرطنا في الكتاب من شيء » ( الأنعام 38 )« فبأي حديث بعده يؤمنون » ( المرسلات 50 )صدق الله العظيم[c1]مناقشة حديث الأوزاعي فى صحيح مسلم :[/c]عمل فقهاء الدولة العباسية على نشر حديث الأوزاعى وجعلوا له إسناداً بعد أن ذكره الأوزاعى بدون إسناد،ًً وشاع الحديث على الألسنة إلى أن ذكره مسلم فى صحيحه بعد موت الأوزاعى بقرنين من الزمان وبدون إشارة إلى الإوزاعى فى سلسلة الرواة والسند.وقد ذكر مسلم رواته على النحو الآتى :حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة عن حفص بن غياث وأبو معاوية عن وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله (ابن مسعود) قال: قال رسول الله: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة.. وصيغة الحديث نرى فيها الصنعة الأوزاعية التى تتيح للدولة العباسية قتل الثائرين عليها من الرجال.ولكن الأحكام التشريعية الإسلامية فى العقوبات يأتى فيها النص على الرجال والنساء معاً كقوله تعالى: (الزّانِيَةُ وَالزّانِي) (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ) (وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً. وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً).أو يأتى لفظ (الذين) ليشمل الذكر والأنثى كقوله تعالى: (وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) (إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).أو يأتى بتحديد أكثر كقوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).أما فى حديث الأوزاعى الذى ذكره مسلم فهو يتحدث تحديداً عن الرجل الذى هو امرؤ مسلم (يشهد) (الثيب الزانى) (التارك لدينه المفارق للجماعة).وعليه فإن المرأة لا عقوبة عليها فى الأحوال الثلاثة..وبالتالى تصبح العقوبات القرآنية التى تحدثت عن النساء لاغيه..!!ولو رجعنا إلى الظروف التى نطق فيها الأوزاعى بذلك الحديث واخترعه فيها اختراعاً وهو مهدد بالقتل ونساؤه حوله لعرفنا لماذا أسقط النساء من العقوبة، وكان يتمنى أن يفرغ سريعاً من اللقاء مع جبار بنى العباس عبد الله بن على ليعود إليهن وقد قال له عبد الله: كأنك تحب الانصراف؟ فقال: إنى ورائى حرماً وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهم مشغولة بسببى..!!لذلك كانت صيغة الحديث ضد الرجل فقط في مجتمع تسوده السلطة الذكورية ، أما المرأة فهى تحتاج إلى من يقوم عليها ويسترها ويكفى أن قلبها مشغول على رجلها..تلك هى الحالة النفسية التى كان عليها الأوزاعى حين اخترع الحديث وحين نطق به.ثم كيف يكون ذلك ( الامرئ المسلم ) يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم يكون تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة؟ إن الحديث يستعمل لفظ المضارع (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) أى أنه مسلم فى ذلك الوقت وأنه يقر بالشهادة فكيف يكون فى نفس الوقت تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة ؟ إن الراوى لو استعمل لفظ الماضى فقال (لا يحل دم امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله..) لقلنا أنه كان يشهد بالإسلام ثم طرأت عليه الردة.. ولكن كيف يكون مرتداً وهو يشهد فى الحال شهادة الإسلام؟..ثم ما معنى المفارق للجماعة؟قد يكون لها معنى سياسى، فالتارك للجماعة يساوى فى مصطلحات العصرين الأموى والعباسى أن يكون من الخوارج الثائرين على الجماعة ، ولكن المعنى الدينى لا يتفق وصحيح الإسلام..فالمسلم قد يفارق جماعته وآله وبلده ويتركهم مهاجراً إلى الله تعالى فهل يكون حينئذ مستحقاً للقتل..؟يجوز ذلك فى منطق قريش المشركة. ويجوز أيضاً فى منطق الكهنوت فى كل عصر وأوان..ولكن هل يمكن أن تتخيل أن النبى يمكن أن يقول هذا الكلام؟لن نناقش تعارض ذلك الحديث مع القرآن والسنة الحقيقية للرسول ، فقد سبق أن تعرضنا لذلك. ولكن نركز فقط على نقطة محددة هى أسلوب النبى وعصره فى اختيار اللفظ وضرورة اتساق اللفظ مع الظروف التاريخية لعصر النبوة..لقد هاجر النبى والمسلمون إلى المدينة وتركوا جماعتهم فى مكة وكانت قريش تتهم النبى بأنه "مفارق الجماعة" وخرج على دين الآباء والأجداد، وكانت تتآمر لقتل النبى وأصحابه، فهل يعقل أن يحكم النبى بنفس منطق أعدائه وأن يستعمل نفس ألفاظهم؟ثم أولئك الذين ذكرت كتب السيرة أنهم ارتدوا ولحقوا بقريش هل حكم النبى بقتلهم لأنهم بدلوا دينهم وفارقوا الجماعة...؟ثم صلح الحديبية والذى رضى فيه النبى على أن يرد من يلحق به من المؤمنين المهاجرين وفى نفس الوقت يعطى الحرية لمن يرتد عن الإسلام لأن يلحق بالمشركين.. هذا الصلح هل يتفق مع قول الأوزاعى "التارك لدينه المفارق للجماعة"..؟وبعد مناقشة المتن فى حديث الأوزاعى نناقش الرواة والسند الذين جاء بهم مسلم.. ماذا قالوا عن الرواة المذكورين فى حديث مسلم والأوزاعى؟لقد بدأ بأبى بكر بن أبى شبية واسمه الحقيقى عبد الرحمن بن عبد الملك وقد مات فى حدود 220 هـ، وقال عنه الحاكم "ليس بالمتين" وقال عنه أبو بكر بن أبى داود "ضعيف" وقال عنه ابن حيان "ربما أخطأ" .حفص بن غيث ولقبه أبو عمر النخعى كان قاضياً للدولة العباسية، ومن الفقهاء المتعاونين معها، وقد مات سنة 194. قال عنه أبو زرعه: ساء حفظه بعد ما استقضى، أى بعد أن تولى القضاء، وبمعنى آخر فقد الثقة فيه بعد أن اختارته الدولة قاضياً..وقال عنه داود بن رشيد: حفص بن غيث كثير الغلط..وقال عنه ابن عماد: كان عسراً فى الحديث جداً، وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال عنه أبى: أنه أخطأ.. وقال ابن حيان عن أحد مروياته فى الحديث: لم يحدث بهذا الحديث أحد إلا حفص بن غياث كأنه وهم فيه.. أى انفرد بحديث لم يقله أحد غيره، ولأنه غير ثقة فقد اتهمه ابن حيان بالوهم .أما أبو معاوية الضرير، فقد قال عنه الحاكم أنه احتج به الشيخان أى مسلم والبخارى وقد اشتهر عنه الغلو، أى التطرف أو التشيع.. حيث كان الغلو مرادفاً للتشيع فى ذلك الوقت..وقال عنه ابن معين: أبو معاوية أحاديث مناكير وقال عنه العجلى: أنه ثقة ويرى الإرجاء، أى مدحه بأنه ثقة ولكن اتهمه أنه من المرجئة، وتلك تهمه تعيب الراوى وقال عنه يعقوب بن شيبة: أنه ثقة وربما دلس، وكان يرى الإرجاء.. أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة.وقال عنه أبو داود: كان مرجئاً. وقال عنه أبو معاوية البجلى: فيه جهالة والراوى التالى هو وكيع: واسمه وكيع بن الجراح، أبو سفيان الرؤاس الكوفى.. قال عنه ابن المدنى كان وكيع يلحن وقال فيه: كان فيه تشيع..ونصل إلى الأعمش أهم أولئك الرواة وأشهرهم..واسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلى الكوفى الأعمش توفى سنة 148 قال عنه الذهبى: ما نقموا عليه إلا التدليس وهو يدلس..وقال عنه ابن المبارك: إنما أفسد حديث الكوفة أبو إسحاق والأعمش..قال عنه ابن جرير بن عبد الحميد أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وإعيمشكم هذا وقال عنه أحمد بن حنبل: فى حديث الأعمش اضطراب كثير وقال أنه كان يروى عن أنس مع أن روايته عن أنس منقطعة لأنه ما سمع من أنس..وقال عنه أبو داود روايته عن أنس ضعيفة.وقال عنه ابن المدنى: الأعمش كان كثير الوهم.أما الحاكم النيسابورى فقد جعله من المدلسين وأورد فيه رأى الشاذكونى القائل: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة إلا إذا قالا: سمعناه..وبقى من الرواه عبد الله بن مرة ومسروق.قال الذهبى عن ابن مرة: لم يصح، وقال أبو حاتم عن مسروق ليس بالقوى أى أن فقهاء السلطة العباسية حين اختاروا لحديث الأوزاعى رواة فإن الشكوك لاحقت أولئك الرواة، وربما أسهم بعض أولئك الرواة فى شيوع الحديث على الألسنه وروايته وهذا بالنسبة للرواة الذين عاشوا فى عصر العباسيين مثل الأعمش وأبى معاوية الضرير وحفص بن غياث وأبى بكر بن أبى شيبة.. والحديث عند محققى الحديث يلحقه الشك ويسقط إذا كان أحد رواته متهماً، فكيف إذا كان الجميع متهمين؟وبذلك نكون قد انتهينا من حديث الأوزاعى، ويبقى لنا الحديث الآخر الذى اخترعه عكرمة مولى ابن عباس، والذى ذكره البخارى هو الآخر فى صحيحه.وقد يضطرب القارئ حيث يكتشف أن فى "البخارى" أحاديث كاذبة، ولكن القارئ إذا هدأ وناقش الأمر بهدوء لوصل للحقيقة، فإن البخارى فى نهاية الأمر بشر وليس إلهاً وليس معصوماً من الخطأ والنسيان، وإذا كان قد ذكر فى مقدمة كتابه (الصحيح) أنه اختار محتوياته التى تبلغ حوالى 3 ألاف حديث من بين (600 ألف حديث) فإن هناك نسبة للخطأ البشرى لابد من افتراضها ـ مع افتراض حسن النية فى تدين البخارى نفسه ـ .. وذلك ما يسلم به كل باحث اذا كان واثقا من حسن تدين البخارى وانحيازه للاسلام.. وبلا شك فإن حديث الردة "من بدل دينه فاقتلوه" والذى رواه البخارى عن عكرمة مولى ابن عباس ضمن تلك الأحاديث الكاذبة.. على أن علماء الأصول والجرح والتعديل كانت لهم مآخذهم على البخارى ومسلم، فقد قال عن البخارى شيخه وأستاذه محمد بن يحيى الذهلى: أن البخارى مبتدع، والسبب فى ذلك أن البخارى كان يقول أن القرآن مخلوق.. وكان شيخ البخارى يخالفه فى ذلك ويقول كلام الله غير مخلوق، ويقول عن البخارى: "اتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه " وذكر الذهلى قول ابن عباس "من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق" .وبالطبع فإن رأى الذهلى فى تلميذه البخارى سببه اختلاف الرأى فى مشكلة خلق القرآن، إلا أن بعض المحققين كانت لهم مآخذ على البخارى فى موضوع الأحاديث نفسها ، وممن هاجم البخارى أو بتعبير المحدثين "جرحه" أبو حاتى الراوى فى كتابه الجرح والتعديل وجعله الذهبى ضمن الضعفاء والمتروكين فى كتابه الذى يحمل نفس الاسم .وقال المحققون أنهم انتقدوا على البخارى (110) حديثاً منهم (32) حديثاً وافقه مسلم على تخريجها و(78) حديثاً انفرد بها البخارى، واتهموا (80) راوياً من رواة البخارى بالضعف وعدم الثقة، واتهموا (160) راوياً من رواة مسلم بالضعف وعدم الثقة، وقال الحاكم النيسابورى عن أحد رواة البخارى وهو عيسى بن موسى غنجار " احتج به البخارى فى الجامع الصحيح غير أنه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين غير المعروفين الذين يحدثون بأحاديث مناكير" .ويقول ابن الصلاح فى كتابه علوم الحديث "احتج البخارى بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس، وكإسماعيل ابن أبى اويس، وعاصم بن على، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة، واشتهر الطعن فيهم .ومن النص السابق نعلم أنهم أخذوا على البخارى روايته عن عكرمة مولى ابن عباس، وأن عكرمة سبق أن اتهمه وجرحه الكثيرون، وعكرمة هو صاحب حديث الردة القائل "من بدل دينه فاقتلوه".كان عكرمة عبداً لعبد الله بن عباس سمع عنه ونقل عنه أقواله فى التفسير، وظل عبداً لابن عباس حتى توارثه أولاده ثم باعوه، أو أطلقوا سراحه، وقد اتاح له ذكاؤه وتفرغه فى خدمة ابن عباس أن يحفظ عنه الكثير. وكان العلم هو الطريق الوحيد أمام الموالى ليبرزوا به فى مجتمع يسيطر عليه الأشراف العرب، خصوصاً وقد كان الأمويون معروفين بالتعصب للعرب ضد الموالى ، وإذا كان العرب قد انشغلوا بالحروب والثورات والسياسة فقد وجد أبناء الموالى فرصة للتفرغ للعلم والتفوق فيه وإثبات أنفسهم من خلاله، وساعدهم على ذلك أنهم أبناء أمم عريقة فى العلم والحضارة..وهكذا كان أكثر العلماء فى التابعين من الموالى..وكان منهم عكرمة.. إلا أن عكرمة كما يظهر فى تاريخه كان حانقاً على الأرستقراطية العربية بقدر ما كان يميل إلى رأى الخوارج الذين لم يروا فارقاً بين العرب والموالى، ولم يشترطوا كون الخليفة من قريش حسب الحديث الذى ذاع وانتشر..والمحصلة النهائية لسيرة عكرمة العلمية والشخصية هى افتراؤه لأحاديث ادعى أنه رواها عن سيده عبد الله بن عباس ومنها حديث "من بدل دينه فاقتلوه"..ونتوقف من ناحيتين أساسيتين فى تاريخ عكرمة: مذهبه، واتهامه بالكذب.فقد كان عكرمة يرى أن الخوارج، وذلك ما قاله المحققون فى بحث سيرته وإن اختلفوا فى تحديد الفرقة الخارجية التى كان عكرمة يميل إليها، حيث لم تكن الفوارق الفكرية بين طوائف الخوارج قد تحددت وتميزت فى عصر عكرمة.روى ابن المدينى أن عكرمة كان أباضياً، ولكن ابن المدينى يضيف فيقول أن عكرمة أيضاً كان يرى رأي نجدة الحرورى..ويقول أحمد بن حنبل أن عكرمة كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وأنه لم يدع موضعاً إلا خرج إليه فى خرسان والشام واليمن ومصر وأفريقيا، أى شمال أفريقيا، أى ذهب يدعو إلى مذهب الخوارج دون تعيين لفرقة خارجية معينة.ويقول يحيى بن بكير "إن عكرمة قدم مصر متجهاً إلى المغرب، فأخذ عنه خوارج المغرب.. أى كان داعية وأستاذاً وإماماً للخوارج فى المغرب..وكان عكرمة فى تجواله فى الأقاليم يخدع الولاة ويدعى أنه يأتى لأخذ العطايا منهم، يقول ابن يسار "رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته خرجان فيهما حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام له، فقيل له ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقال الحاجة..".وبينما كان يحسن الظن به ولاة الأقاليم البعيدة فإن والى المدينة كان يعرف اتجاهه السياسى المناوئ للدولة الأموية . يقول مصعب الزبيرى " كان عكرمة يرى رأي الخوارج فطلبه والى المدينة فتغيب عند دار ابن الحصين حتى مات عنده" وقال معصب الزبيرى أيضاً أن عكرمة كان يدعى أن ابن عباس كان يرى رأى الخوارج.. أى نسب إلى ابن عباس بعد موته ما كان ابن عباس يرفضه فى حياته..ومن الطريف أن عكرمة مات فى نفس اليوم الذى مات فيه الشاعر المشهور كثير عزة فترك أهل المدينة جنازة عكرمة إلا العبيد والموالى من السودان، وعجب الناس من اتفاقهما فى الموت واختلافهما فى العقيدة، إذ كان عكرمة يرى رأي الخوارج ويكفر أى حكم بالكفر- بالنظرة- أما كثير عزة فهو شيعى يؤمن برجعة على وأبنائه..والسبب فى كراهية أهل المدينة لعكرمة المشهور بعلمه أنهم اعتبروه داعية للخوارج الحرورية والأباضية.. وقد اشتهر الخوارج من أتباع نجدة الحرورية بالإسراف فى سفك الدماء . يقول الملطى عن نجدة الحرورى "خرج نجدة من جبال عمان فقتل الأطفال وسبى النساء وأهرق الدماء واستحل الفروج والأموال، وكان يكفر السلف حتى قتل..". كما قال الملطى عن الأباضية أنهم أصحاب أباض بن عمر وقيل أنه عبد الله بن يحيى ابن أباض، خرجوا من سواد الكوفة فقتلوا الناس وسبوا الذرية وقتلوا الأطفال وكفروا الأمة وأفسدوا البلاد والعباد وقال عنهم: فمنهم اليوم بقايا بسواد الكوفة. وقال عن الصفرية أنهم أتباع المهلب بن أبى صفرة (والصحيح أنهم أتباع زياد بن أبى صفرة) وقد خرجوا على الحجاج وقد هزمهم الحجاج وأبادهم .في هذا السياق نلمح صدى أراء الخوارج فى أقوال عكرمة . روى ابن المدينى أن عكرمة وقف بباب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر.". كما نلمح صدى عنف الخوارج وجرأتهم على الدماء فى قول عكرمة وقت الحج وقد ازدحم الناس حول الكعبة : "وددت أن بيدى حربة فأقتل بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً..". وأخيراً نلمح صدى ذلك كله فى الحديث الذى رواه البخارى عن عكرمة " من بدل دينه فاقتلوه..".والسؤال المطروح هنا: ما هو حكم الأصوليين السلفيين فى الراوي صاحب الهوى والداعي إلى بدعته؟ خصوصاً إذا كانت تلك الدعوة إلى تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وقتل أطفالهم.يقول الإمام مالك: "لا يؤخذ العلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.." . أما ابن الصلاح فى كتابه "علوم الحديث" فيقول اختلفوا فى قبول رواية المبتدع الذى لا يكفر ببدعته فمنهم من رد روايته مطلقاً لأنه فاسق ببدعته، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن يستحل الكذب فى نصرة مذهبه ، وبعضهم يقبل روايته إذا لم يكن داعية ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته ، وهذا هو مذهب الأكثرية من العلماء، وقال أبو حاتم البستى: "الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ولا أعلم فيه خلافاً.." .والثابت أن عكرمة كان يدعو إلى رأي الخوارج الدامي .. وكان أيضاً يكذب ولكن اتهامه بالكذب قضية أخرى..إن اتهام عكرمة بالكذب ظاهرة واضحة فى تاريخه. قال عنه ابن سيرين " إنه كذاب ". وقال عنه ابن أبى ذئب : "رأيت عكرمة وكان غير ذي ثقة". وقال عنه محمد بن سعد فى الطبقات الكبرى : " ليس يحتج بحديثه ، ويتكلم فيه الناس". وقال عنه سعيد بن جبير: "إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها". وقال عنه سعيد بن المسيب "لا ينتهى عبد ابن عباس حتى يلقى فى عنقه حبل ويطاف به" وكان سعيد بن المسيب يقول لمولاه (برد) لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكان ابن عمر يقول لمولاه نافع "لا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس".وبسبب كثرة أكاذيبه على ابن عباس بعد موت ابن عباس فإن على بن عبد الله ابن عباس جعل فى يديه وقدميه قيوداً وحبسه على باب الحش وهي "دورة المياه" بالمعنى الحديث فسئل عن ذلك فقال: " إن هذا الخبيث يكذب على أبي "..!!. وقالوا أن مسلم تجنب الرواية عن عكرمة فروى له بعض الروايات مقروناً بغيره أى لم يروا له منفرداً،.. وأعرض مالك عن الرواية عنه إلا فى حديث أو حديثين وقال مطرف: " سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة ولا أرى أنه روى عنه "، وقال ابن حنبل أن مالكاً روى عن عكرمة حديثاً واحداً أما البخارى فقد روى عنه وانتقده المحققون فى ذلك كما سبق..[c1]مناقشة حديث عكرمة فى "صحيح البخارى" :[/c] روى البخارى ذلك الحديث عن طريق الرواة الآتى أسماؤهم "حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال أتى على رضى الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهى رسول الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه .والحديث يرويه عكرمة عن سيده ابن عباس ، فقد تضخمت الأحاديث المروية عن ابن عباس حتى لقد أسند له أحمد بن حنبل (1696) حديثاً.. هذا مع أن الآمدى فى كتاب ( الأحكام فى أصول الأحكام ) يقول أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ويقول ابن القيم فى كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب" أن ما سمعه ابن عباس من النبى لم يبلغ عشرين حديثاً .وذلك الأقرب للصواب من خلال سيرة ابن عباس فى كتب التاريخ ، فابن عباس أسلم مع أبيه قبيل فتح مكة وقابل الرسول بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة، ومات النبى بالمدينة وابن عباس فى مكة فى العاشرة من عمره، وفى رواية أخرى أنه كان فى الخامسة عشر من عمره.. بمعنى أنه رأى النبى مدة يسيرة وكان فيها طفلاً ملازماً لوالده فى مكة، فكيف يروي عنه مئات الأحاديث؟وقد روى عكرمة حديث من بدل دينه فاقتلوه، و نسبه لابن عباس ضمن ما نسبه إليه من مئات الأحاديث، وقد روى ذلك الحديث عن عكرمة أحد الزهاد المشهورين فى عصره وهو أيوب السختيانى واسمه أبو بكر بن تميمة، ولم يذكره الذهبى فى ميزان الاعتدال مع شهرته، وقد ترجم له ابن سعد فى الطبقات الكبرى وابن الجوزى فى المنتظم ، وروى ذلك الحديث عن أيوب السختيانى تلميذه حماد بن درهم وقد ترجم له ابن الجوزى فى المنتظم وابن سعد فى الطبقات الكبرى، ولم يذكره الذهبى أيضاً فى ميزان الاعتدال. ويروي الذهبى- مع ذلك- فى ترجمة لعكرمة أن حماد بن زيد روى أن شيخه أيوب السختيانى سئل: " هل كان عكرمة يُتّهم " .. أي كان مطعوناً فيه؟ يقول حماد بن زيد عن شيخه أيوب: فسكت ساعة ثم قال: أما أنا فلم أكن أتهمه. أى كانوا يتهمون عكرمة فى مجلس أيوب السختيانى ومع ذلك كان أيوب يصمم أنه لا ينبغى اتهامه. وقد قال يحيى بن سعيد أن عكرمة كان لا يحسن الصلاة فرد عليه أيوب وكان- أي عكرمة- يصلى.. أى كان أيوب يدافع عنه فى كل مجلس..ويروى أن يحيى بن سعيد الأنصارى ذكر عكرمة فقال: أنه كذاب، فرد عليه أيوب السختيانى: لم يكن يكذب..وأيوب السختيانى يعلل بذلك روايته عن عكرمة وأخذه عنه الأحاديث. وما رواه أيوب عن عكرمة نقله بعده تلميذه حماد بن زيد بن درهم ثم نقل الحديث عن حماد شيخ آخر هو محمد بن الفضل وكنيته أبو النعمان المتوفى سنة 224 وهو شيخ البخارى ولقبه عارم، "وعنه روى البخارى حديث عكرمة فى قتل المرتد، وجدير بالذكر أن أبا النعمان عارم قال فيه أبو حاتم أنه اختلط عقله فى آخر عمره، واعترف البخارى بأنه تغير عقله وقال عنه أبو داود: " استحكم به اختلاط عقله ". وقال فيه الدارقطنى: تغير- عقله- بآخره، وقال ابن حبان اختلط فى آخر عمره وتغير حتى كان لا يدرى ما يحدث به فوقع فى حديثه المناكير الكثيرة فيجب التنكب عن حديثه ولا يحتج بشىء منها..وذلك ما قيل عن أبى النعمان محمد بن الفضل الملقب بعارم، والذى كان أول السلسلة فى رواة حديث "من بدل دينه فاقتلوه" وكان عكرمة آخرها، فأول السلسلة خلط وهذيان عقل، وآخر السلسلة كذب وافتراء، وأما ما بينهما (حماد بن زيد، وأيوب السختيانى) فهما من الزهاد الذين لديهم استعداد لتصديق كل ما يقال.. ونتوقف مع متن الحديث :( ويقول فيه عكرمة أنه جئ لعلي بن أبى طالب بزنادقة فأحرقهم.. ولم يحدث فى تاريخ علي بن أبى طالب أن أحرق خصومه، بل كان مشهوراً بتفادي سفك الدماء ما أمكن ويظهر ذلك فى تاريخه فى حروبه وفى تعامله مع الخوارج، وحتى فى وصيته قبل موته بقاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجى !!وإذا عرفنا كراهية الخوارج لعلي أدركنا لماذا وضع عكرمة تلك العبارة فى سياق ذلك الحديث لتشويه سيرة علي وليصل بعد ذلك إلى غرضه الأساسى فى إيقاع الاقتتال بين المسلمين طبقاً لقوله "من بدل دينه فاقتلوه..".والخوارج يرون كفر ما عداهم ، ويستحلون دماء المسلمين جميعاً حتى النساء والأطفال.. وعكرمة يفتي بهذا الحديث لكل من يستطيع سفك الدماء أن يقتل ما استطاع بتهمة أن الضحية بدل دينه.. والعبارة تتسع للتأويل حسب الهوى.. مما له دلالة خطيرة ان العبارة جاءت عمومية وفضفاضة على لسان عكرمة بقوله " من بدل دينه فاقتلوه " لتشمل المسلمين والنصارى واليهود فمن بدل دينه من اليهود والنصارى ودخل الإسلام فاقتلوه . وجدير بالذكر أنها المرة الوحيدة التى يحتوي فيها حديث منسوب للنبي عليه الصلاة والسلام على كلمة الزنادقة ، وهى كلمة فارسية ــ وعكرمة فارسى ــ وهى تعنى بالفارسية (زند وكرو) أى القائل بدوام الدهر، وقال الإمام ثعلب: ليس فى كلام العرب زنديق.. ولكن أدخل عكرمة هذه الكلمة فى الأحاديث ضمن ذلك الحديث المفترى الذى نسبه للرسول عليه الصلاة والسلام.[c1]هل يصح قتل الناس بأحاديث الآحاد..؟[/c]قام حد الردة المزعوم على مجرد حديثين أثبتنا كذبهما بمعايير الجرح والتعديل ومن خلال أدلة من كتب التراث نفسها، كما أثبتنا من قبل تناقضهما مع تشريع الإسلام الحقيقى فى القرآن الذى هو الفيصل فى سنة الرسول عليه الصلاة السلام..ولكن:دعنا نفترض أن حديثى الردة حديثان صحيحان ، ودعنا نفترض أن القرآن الكريم لا يعارضهما ولا يؤيدهما ، فهل يصح الاعتماد على حديثين فى تأسيس تشريع؟وهل يصح إقامة تشريع سنده الوحيد حديثان من أحاديث الآحاد؟وهل يصح أن تقتل الناس بتهمة الردة اعتماداً على حديثين فقط؟وهل تهون حياة الناس إلى هذا الحد؟دعنا نرجع إلى آراء العلماء.. ونكتفى بهم والفضل ما شهد به العلماء !! ونبدأ الموضوع بلمحة عن الحديث المنسوب للنبى عليه الصلاة و السلام . فحين مات النبى عليه الصلاة والسلام لم يكن مع المسلمين إلا القرآن الكريم كتاباً مكتوباً مدوناً وأوصى النبي بالتمسك به. وذلك ما أورده البخارى ومسلم فى حديث يرويه كلاهما عن الصحابى عبد الله بن أوفى.وقالوا إن عبد الله بن أوفى كان أحد الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة وقال فيهم الله تعالى (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) (الفتح 18) وشهد عبد الله بن أوفى مع النبى ست غزوات، وجرح يوم حنين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة..سئل عبد الله بن أوفى هل أوصى رسول الله؟ قال: لا. قيل فلم وقد كتبت الوصية على الناس؟ فقال: وصى بكتاب الله..وقال الحافظ بن حجر فى شرح هذا الحديث فى كتاب فتح البارى :" أى التمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار إلى قوله صلوات الله عليه " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ولأن ما فيه تبيان كل شىء أما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به".والحديث رواه مسلم فى سياق حجة الوداع " إنى تارك فيكم كتاب الله ما إن تمسكتم به لن تضلوا ". وفى رواية أخرى عن جابر لما خطب الرسول يوم عرفة: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله".وقد تلاعبوا بذلك الحديث فقالوا كتاب الله وسنتي، مع أن سياق الحديث فى البداية يدل على التمسك بشى واحد " تركت فيكم ما إن تمسكتم به.." و(به) يرجع إلى شىء واحد هو الكتاب ولو كان مع الكتاب شىء آخر لقال "ما إن تمسكتم بهما..".ويروى البخارى حديث رفيع: قال دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل أترك النبى من شىء قال ما ترك إلا ما بين الدفتين، دخلنا على محمد بن الحنفية فقال ما ترك إلا ما بين الدفتين.."أي سئل ابن عباس وابن الحنفية (محمد بن على بن أبى طالب) عما تركه النبى فرد كلاهما بأنه المصحف " ما بين الدفتين".ثم تكاثرت الرواية على النبى وبدؤوا فى كتابة أحاديث عنه مع أنه عليه الصلاة و السلام قال فيما يرويه أحمد ومسلم والدارمى والترمذى والنسائى " لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه ".ونهى الخليفة أبو بكر الصديق عن رواية الأحاديث ، وجاء فى تذكرة الحفاظ للذهبى أنه قال : " إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه".من جانبه تشدد الخليفة عمر بن الخطاب فى رفض كتابة الأحاديث ، وقال فيما يرويه البيهقى وابن عبد البر "إنى كنت أريد أن أكتب السنن ، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا..".ولكن تكاثرت روايات الأحاديث بعد دخول المسلمين فى الفتنة الكبرى والحكم الاستبدادي الأموى ثم العباسى حيث احتاج كل فريق لتعزيز موقفه بالأحاديث وبعد أن أسالوا دماءهم أنهاراً كان سهلاً عليهم أن يجترئوا فى الكذب على رسول الله..وقد أفزعت كثرة الأحاديث الكاذبة نفراً من العلماء فهبوا لتنقيتها وتمحيصها ونشأ ما يعرف بعلم الجرح والتعديل وتمحيص أحوال الرواة..حيث قسموا الأحاديث إلى قسمين: متواتر وآحاد.فالمتواتر هو ما أخبر به جماعة بلغوا فى الكثرة مبلغاً يستحيل معه تواطؤهم على الكذب وهو بهذا يفيد اليقين، و لا يدخل فى موضوع الجرح والتعديل وعملية الإسناد، لأن الجرح والتعديل قائم على الشك فى الحديث ورواته، والمتواتر منزه عن الشك..ولذلك قالوا أن إثبات التواتر فى حديث ما عسر جداً. وقال الشاطبى: أعوز أن يوجد عن رسول الله متواتر، وقال ابن حبان السبتى أن الأحاديث كلها المروية عن الرسول أحاديث آحاد، وقال النووي فى التقريب: المتواتر من الأحاديث المعروفة فى الفقه وأصوله قليل جداً لا تكاد توجد..أما أحاديث الآحاد فهى كل المرويات عن الرسول من أحاديث فى نظر أغلبية المحققين، ولذلك يقسمون أحاديث الآحاد حسب درجتها من الصحة إلى صحيح وحسن وضعيف وكلها تفيد الظن ولو كانت عندهم صحيحة، إلا أنهم فى ذلك التقسيم مختلفون لأنه علم قابل للشك واختلاف وجهات النظر..والملاحظ أن أحاديث الآحاد كانت تتكاثر وتتوالد كلما تباعد الزمن عن عهد الرسول ، فقد كانت فى عهد الأمويين أقل منها فى العصر العباسى الأول ، وعلى سبيل المثال فإن الإمام مالك كتب الموطأ فى أواخر عهد المنصور العباسى أى فى سنة 148، وعدد أحاديثه (1008 حديثاً) بعضها منسوب للنبي وبعضها منسوب للصحابة فقط .بعد أن غربلها ونقل وأسقط منها الكثير.وبعده بقرن من الزمان جمع البخارى (600) ألف حديث اختار منها البخارى ما بين (3: 4) آلاف حديث، ومات البخارى سنة 256 هـ وبعد البخارى زاد تضخم الأحاديث إلى درجة أن كتب ابن الجوزى (توفي سنة 597) فى الأحاديث الموضوعة.. وهكذا تضخمت أحاديث الآحاد بمرور الزمن لأن كل زمن كان يصنع من الأحاديث ما يعبر عن أحوال الناس فيه..وكل تلك الأحاديث غريبة عن العصر المضىء عصر النبى عليه الصلاة و السلام، وهى بنفس القدر تعبر عن العصور التى صيغت فيها. لذلك كان المحققون فى العصور المتأخرة كالسيوطى (ت 911) أكثر تساهلاً فى قبول الأحاديث وتصحيحها وأكثر دفاعاً عن الباطل منها. ثم جاء عصر الصحوة الإسلامية فكان الإمام محمد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد مهما بلغت درجته من الصحة فى نظر المحدثين، ولذلك فإنه مثلاً استنكر حديث اليهودي الذى سحر النبى ، وحديث المسلم الذي من واجبه قتل اليهودي الى قيام الساعة حتى لو أخنبأ اليهودي خلف شجر او حجر ، مع أن هذين الحديثين مذكوران فى البخارى ومسلم وأحمد والنسائى..أمـّا حديثا الردة المطعون فهما من أحاديث الآحاد.. فهل يمكن الأخذ بهما ؟ وهل يمكن لهما الاستقلال بالتشريع؟إن التراث الفقهي على المذاهب الأربعة الذى تحدث عن حد الردة يقول أن الحدود الشرعية التى اتفق عليها الفقهاء "هى ثلاثة فقط (السرقة- الزنا- القذف) أي ليس هناك اتفاق على ما يسمى بحد الردة.. أى أن بعض الفقهاء لم يأخذ بحديثى الردة المطعون فيها، وبمعنى آخر ليس هناك إجماع بين الفقهاء حول حد الردة.والشيخ محمد الغزالى الذى تحمس لحد الردة جاء فى كتابه " السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث " ما يؤكد على نفي حد الردة.. يقول " أحصيت أكثر من مائتى آية تتضمن حرية التدين وتقيم حدود الإيمان على الاقتناع الذاتى وتقصى الإكراه عن طريق البلاغ المبين" إلى أن يقول " فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين ، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثاً فى كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة، ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع"، ثم يقول "وفى هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات فى أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضاً بل أن حصيلة القتلى فى الفتن الداخلية أربى من القتلى فى محاربة الاستعمار الصليبى" وتأسيساً على ما قاله الشيخ محمد الغزالى رحمه الله فإن حد الردة المزعوم يناقض الآيات القرآنية التى تتضمن حرية التدين وتنفى الإكراه فى الدين، والفقرات التى نقلناها من كلامه تنطبق تماماً على المروجين لحد الردة المزعوم والمتخصصين فى اتهام الغير بالكفر والردة والمتعطشين لدماء المسلمين .كما يقول الغزالى أن الحديث يسقط إذا كانت به علة فادحة أو كان شاذاً، وحديثا الردة ينطبق عليهما الاثنان معاً طالما أن سيرة النبى باعتراف الغزالى تنفى أن النبى قتل واحداً من المرتدين.والغزالى يقول أن حديث الآحاد ــ حتى لو كان صحيحاً ــ فإنه يفسد اليقين " أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهى مجازفة مرفوضة ".ويعني أنها مجازفة أن نسفك دماء المسلمين اعتماداً على حديث صحيح يفيد الظن فكيف إذا كان حديثاً كاذباً؟والشيخ الغزالى يوضح الأمر بالنسبة للأحاديث الضعيفة فيتسامح معها بشرط أن تكون بعيدة عن العقائد والتشريع يقول: "من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدة عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية فإن الدماء والأموال والأعراض أكبر من أن نتداول فيها شائعات وروايات "!!.وعليه فإن حديثي الردة ــ وهما من الشائعات والروايات ــ ينبغى ألا يـُقام عليها تشريع يسفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً..ثم يهاجم الشيخ محمد الغزالي الغزالى المتمسكين بالأحاديث الباطلة ويقول " وقد ضقت ذرعاً بأناس قليلى الفقه والقرآن كثيري الظن فى الأحاديث يصدرون الأحكام ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، ولازلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل وحديثهم عن الإسلام جرئ واعتمادهم على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامى كبير و مطلق " .وهو بذلك يضع النقاط فوق الحروف فى موضوع الردة المعتمد على مرويات قل من يعرف مكانها من الكيان الإسلامى.وقد استشهد الشيخ الغزالى بفتوى الأزهر فى كتابه "تراثنا الفكرى" والفتوى تتحدث عن الذي ينكر استقلال السنة بالإيجاب والتحريم أي التشريع هل يعد كافراً أم لا..يقول الشيخ الغزالى فى كتابه المذكور: "بيد أن بعض الفتية يوقدون فى عصرنا هذا فتناً محرمة بسوء مسلكهم" إلى أن يقول "أننى أذكر هذا الكلام وبين يدى فتوى أصدرها الأزهر الشريف حسماً لفتن شديدة أشعلها فتية أغرار باسم إقامة السنة وتحت عنوان السلفية وقد توسعت الفتوى فى شرح الأحكام والأدلة حتى تسد الطريق أمام أصحاب الشغب والغرض".[c1] حد الردة حكم بقتل الناس جميعا :[/c]سيطر المعتزلة على الخلافة العباسية فى عصر المعتصم والواثق واضطهدوا ابن حنبل وأتباعه، وفى عهد الخليفة الواثق حوكم أحمد بن نصر الخزاعي أمام الخليفة الواثق وقتله الخليفة بيده معتقداً أنه يتقرب إلى الله بدمه ومتهماً إياه بالردة والزندقة.وكان المعتزلة يرون أن القرآن مخلوق وأن رؤية الله تعالى مستحيلة وكان الحنابلة يرون أن القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله تعالى وأن رؤية الله جائزة، وكان لكل فريق أدلته من تأويل الآيات ومن الأحاديث التى توافق مذهبه.وننقل من تاريخ ابن الجوزي الحنبلي محاكمة ابن نصر الخزاعي إمام الخليفة الواثق يوم السبت غرة رمضان 231 قال له الخليفة: ما تقول فى القرآن . قال: هو كلام الله. قال: أفمخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: أفترى ربك فى القيامة ؟. قال: كذا جاءت الرواية. قال: ويحك يرى كما يرى المخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: المحدود المجسوم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.. ما تقولون فيه؟. فقال عبد الرحمن بن إسحق القاضى: هو حلال الدم. وقال جماعة الفقهاء كما قال، فظهر ابن أبى داود (شيخ المعتزلة) أنه كاره لقتله، وقال: يا أمير المؤمنين شيخ لعل به عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب. فقال الخليفة الواثق: ما أراه إلا مؤذناً بالكفر قائماً بما يعتقده منه. ودعا الخليفة الواثق بالصمامة (سيف عمرو بن معد يكرب) وقال: إذا قمت فلا يقومن أحد معى فإنى أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذى يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها، ثم أمر بالنطع (كساء يجلس عليه المحكوم عليه بالإعدام حتى لا يلوث المكان بدمه) فأجلسه عليه وهو مقيد، وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه، حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب إلى الجانب الشرقى أياماً وفى الجانب الغربى أياماً، وعلقت ورقة فى أذنه فيها: "بسم اله الرحمن الرحيم: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره..".أي أن الخليفة الواثق حكم بكفره وقتله بيده وحكم أيضاً بدخوله النار لأنه رفض القول بخلق القرآن !!أى أن الخليفة الأحمق ما ترك لله تعالى شيئاً..وظل رأس أحمد بن نصر مصلوباً ببغداد، وظل جسده مصلوباً بسامراء إلى أن أنزل وجمع بين رأسه ويديه ودفن فى مقبرة.. وقد أشاع الحنابلة الذين لا يؤمنون بأن القرآن مخلوق كرامات حول رأس أحمد بن نصر وأشاعوا كثيراً من الأحاديث التى تعزز مذهبهم، وتؤكد على أهمية تغيير المنكر باليد . وكان أحمد بن نصر فى حياته من المشهورين بالدعوة الى تغيير المنكر باليد، وفى النهاية رأى الخليفة المتوكل العباسى أن يقتنع بفكر الحنابلة ، فأعادوا الإعتبار لأحمد بن نصر الذي قتله الخليفة الواثق بيده تقربا ً الى الله ، فاستطاعوا اضطهاد خصومهم من المعتزلة والصوفية واستطاعوا اضطهاد النصارى واليهود أيضا ُ!! ومرت الأيام وأصبحت للصوفية المكانة والسيطرة ، فاضطهد أتباع الصوفية خصومهم من فقهاء الحنابلة، وفى القرن الثامن الهجرى كان ابن تيمية أكبر فقيه حنبلي يواجه اضطهاد الصوفية وأعوانهم من الفقهاء، وكان يخرج من السجن إلى النفي ، إلى محاولات القتل ، وانعكس ذلك على فتاويه فصار أكثر حدة فى الحكم على خصومه وأكثر جرأة فى الإفتاء بقتلهم وإستحلال دمائهم !!؟؟ . وبنظرة سريعة إلى الفتاوى الكبرى لإبن تيمية وأحكام تلميذه إبن القيم نجد أنها تسرف في تشريع القتل باسم الشريعة الاسلامية على كل من يخالفهما فى الرأي والإعتقاد .. فصاحب البدعة يستحق القتل .. ومن السهل أن ترمي كل فرقة الفرقة الأخرى بأنها صاحبة بدعة .. وإذا عرفنا أن المسلمين فرق وطوائف شتى أدركنا أن ابن تيمية وتلاميذه وأتباعه يصيغون مصدرا تشريعياً يبيح لكل طائفة مسلمة قتل وسفك دم غريمتها المسلمة بذريعة الكفر ، وتحت غطاء حد الردة !!في هذا الإطار التكفيري الدموي القاتل يفتى ابن تيمية بتكفير المسلم الذى يجهر بالنية فى الصلاة حتى لو كان فى جهره يعتقد أن ذلك مما يأمر به الله تعالى ، حيث يدعو ابن تيمية وإبن القيم وتلاميذهما وأتباعهما صراحة إلى قتله !!كما يفتي ابن تيمية بقتل المسلم الذى لا يلتزم بالصلاة فى وقتها أو يؤخر صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس أو يؤخر صلاة الظهر والعصر إلى بعد غروب الشمس.ويفتي أيضا بقتل المسلم الذى يحضر المسجد ولا يشارك فى صلاة الجماعة ، و بقتل المسلم الذى يخالف رأي ابن تيمية فى قصر الصلاة فى السفر. وفى كل ذلك يشترط الاستتابة.والأخطر من كل ما تقدم يفتى بنابن تيمية بقتل أى مسلم بدعوى أنه منافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أى يعطي الحجة لأى فرد لكى يقتل من يشاء من المسلمين بهذه التهمة وبدون استتابة فيقول ابن تيمية "أما قتل من أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو المنافق الذى يسميه الفقهاء بالزنديق فأجمع الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب"!! أي لا تجديه التوبة.. طالما رأى الفقهاء أنه زنديق.. بمعنى أنه يفتى بقتل الناس جميعاً..ولم يستطع ابن تيمية تنفيذ تلك الفتاوى إذ أخمد الصوفية وأعوانهم من الفقهاء والمماليك حركته وتسيد التصوف وخرافاته العصرين المملوكى والعثمانى، ثم صحا المسلمون على الاستعمار الأوروبى يدق عليهم الأبواب..وبدأت حركتان للنهضة.. حركة فى الجزيرة العربية قام بها الوهابيون تحارب التصوف ورموزه وتعيد دعوة ابن تيمية وتعتمد على الفقه الحنبلى والتشدد السلفى.. وحركة فى مصر تتطلع للأخذ عن أوروبا قام بها محمد علي الذى أسس فى مصر الدولة الحديثة وأرسل البعوث لأوروبا فى نفس الوقت الذى قضى فيه على الرموز القديمة من المماليك والحامية العثمانية وسلطة الشيوخ ورجال الدين فى الأزهر.. بل أرسل جيوشه تقضى على الدولة الوهابية وتدمر عاصمتها الدرعية ، وتخلص بهذا من بقايا الجند العثمانيين، وبدأ فى إنشاء جيش عصرى حديث. في هذا السياق تلونت الصحوة الدينية المعاصرة بالفقه البدوي الحنبلي المتشدد. وركزت على الجانب العقابي واحترفت الحظر والتحريم ورفعت شعار حرب الردة ترهب به الخصوم . ومن الطبيعي فى هذا الجو أن يكون الإسلام العظيم متهماً بالإرهاب والتطرف وسفك الدماء. هذا مع أن الله تعالى أرسل رسوله الكريم رحمة للعالمين وليس لسفك دماء العالمين . هذا مع أن المسلم إذا ذبح دجاجة استأذن الله تعالى وذكر اسمه. ولكن محترفي التدين يحكمون بقتل الناس جميعاً وباسم الله وبالمخالفة لتشريع الله..إن مفهوم الردة كما تعلمناه فى الأزهر هو قول كفر أو اعتقاد كفر أو فعل كفر، وبهذا المفهوم يكون من السهل أن تتهم الناس جميعاً بالردة ويكون من السهل أن تحكم بقتلهم جميعاً..وقد كان ذلك مجرد سطور فى كتب الفقه التراثية المقررة علينا فى سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية والجامعية بالأزهر..ولكنهم نشروا هذا الكلام على أنه الإسلام ، وأتيحت لهم فرص السيطرة على المؤسسات التعليمية و أجهزة الإعلام . فنشأ جيل جديد قد رضع التطرف على أنه الإسلامو، ولأنه جيل قد صودرت أحلامه وضاعت حقوقه الطبيعية فى العثور على عمل ومسكن وحياة كريمة فقد كفر بالدولة وكفر بالمجتمع وحكم بكفر الجميع ، وبالتالى استحل دماء الناس جميعاً ، حتى عرفت مصر لأول مرة فى تاريخها أن يقوم بعض أبنائها بالقتل العشوائى فى الشوارع فتنفجر القنابل ويموت الأبرياء من الأطفال والنساء والصغار والكبار.وهذا القاع الذى وصلنا إليه له بداية.. هى فتوى بقتل نفس بغير حق.. ويترتب على هذه الفتوى استباحة قتل الناس جميعاً ، حيث ينطبق على هؤلاء قوله تعالى: ( أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ إفَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً ) .صدق الله العظيمودائماً صدق الله العظيم[c1]* أكاديمي أزهري ومفكر اسلامي مصري[/c]