أفكار
يشعر البعض بالقلق من أن تؤدي الأزمة المالية الحالية إلى انخفاض نسبة السياح الذين نستقبلهم في بلادنا كل عام, خاصة في موسم الشتاء, ولكن بشيء من التفكير المتأني سنجد أن بعض الهدوء السياحي مطلوب بل مفروض, من وقت لآخر حتى يمكن لآثارنا أن تستريح بعض الشيء من الهجوم البشري عليها وتلتقط أنفاسها بعض الشيء من الهجوم المكثف الذي تتعرض له طوال العام.فإن الهدوء السياحي لن يضربنا بقدر الضرر الذي يقع بالفعل علي آثارنا بسبب الكثافة السياحية العالية, فعلى إحد المواقع علي الإنترنت نشرت أخيرا مقالا بعنوان: أماكن للزيارة قبل اختفائها عن بعض المناطق الأثرية المهددة بالزوال في المستقبل ليس البعيد تماما, من بين تلك المناطق التي ذكرها الموقع, أهرامات الجيزة, التي وصفها الموقع بأنها الوحيدة من بين عجائب الدنيا السبع الأصلية التي مازالت موجودة إلي الآن, وذكر الموقع أن هرم خوفو الذي سرق من زمن بعيد غطاؤه الأملس الذي كان يحميه من العوامل الطبيعية, بات مهددا بسبب ما يتعرض له من التلوث القادم من القاهرة ومن الزحام الشديد حوله, سواء كان ذلك من السياح أو من الباعة المتجولين أو من الشحاذين.ليس المهم هنا إن كان هذا الكلام صحيحا أم لا ولكن المهم أنه يقودنا إلي نقطة أكثر أهمية وهي عواقب السياحة المكثفة على آثارنا, فقد أثبت في العالم أن السياحة المتزايدة في المناطق سواء الطبيعية أو الأثرية تضر تلك المناطق على المدي الطويل, ولقد لحقت الأضرار بالفعل بمناطق عديدة في أسبانيا التي تعد من أكبر الدول التي تستقبل سياحا في العالم, وكذلك سويسرا المتخصصة في السياحة الشتوية والتزحلق على الجليد حيث تضررت بعض المناطق الجليدية بسبب تزايد أعداد السياح بشكل كبير.تلك الأضرار ليست بعيدة عن آثارنا خاصة الآثار الفرعونية والبحر الأحمر الذي يحمل أجمل شعاب مرجانية في العالم, وصحراؤنا التي باتت تثير خيال الغرب, كل تلك المناطق تستقبل سنويا عشرات الآلاف من السياح سنويا, فتشهد معابدنا آلاف الأقدام التي تطأ مداخلها ومئات الآلاف من الكفوف والأصابع تلمس جدرانها وأنفاس الملايين تبث وتنفث في المقابر داخل المعابد تلقي بالغاز السام علي الكتابة والرسوم التي ليست مجرد شكل جميل, ولكنها تحكي تاريخا انقضي ومازال الكثير منه غامضا, إنها تحكي تاريخنا الذي لا نعرف عنه الكثير.وفي أعماق بحرنا الأحمر حيث الثروة البحرية في أجمل صورها, يؤكد العديد من الخبراء أنه إن استمرت معدلات الغطس كما هي الآن, فخلال سنوات قليلة ستختفي معظم الشعاب المرجانية, وكذلك بالنسبة للصحراء والواحات التي تتعرض للتلويث وان لم يتم تنظيفها كل عام من القمامة التي تلقى فيها ففي خلال سنوات قليلة لن يكون هناك صحراء بيضاء أو سوداء, بل مقلب زبالة.من جهة أخرى, فإن فترة من الهدوء السياحي سوف تدفعنا لأن نبحث في أماكن أخرى لإيجاد مصادر تمويل, لأننا لا نستطيع أن نظل نعتمد في معيشتنا علي أجدادنا وعلى الطبيعة, أي على عناصر وعوامل, نحن أبناء الجيل الحالي ليس لدينا أي يد في وجودها, بل هي هدية من أجدادنا ومن الله, وأن ندرك أن استمرارية البلاد هو في نموها الاقتصادي. أي في زراعة الأراضي للحصول علي طعامنا دون أن نحتاج إلي استيراد خبزنا, وفي تطوير صناعتنا الوطنية لكي نستطيع أن نكتفي بذاتنا في احتياجاتنا الأساسية.إن نتيجة اعتمادنا الكبير على السياحة كمصدر أساسي من مصادر تمويلنا هو إهمالنا الثروة الأساسية والحقيقة, بل يبدو أننا عملنا علي إزالتها, فالأراضي الزراعية الخصبة, التي تمتد عبر شريط الوادي وعبر الدلتا تحولت إلي أرض بناء طرق, وبدلا من أن كنا نسير على الطريق الزراعي فلا نرى على مدي البصر إلا المزارع الخضراء والصفراء, أصبحت المباني العالية والطرق تكسر البصر, وتقلصت الأرض الزراعية التي هي ثروتنا الحقيقية, وأصبحنا نستورد خبزنا وأصبح مصيرنا مرهونا برضا الخارج, كما أن صناعاتنا الوطنية التي تأسست منذ سنوات طوال, وكانت أحد أعمدة اقتصادنا لحمايتنا من تقلبات السياسة الخارجية, تفككت وتدهورت وبيعت وسرح عمالها.. وزاد اعتمادنا علي الصناعات الخارجية.لذلك فإن فترة من الهدوء السياحي يمكن استغلالها للوقوف مع النفس وإعادة ترتيب أولوياتنا وتنظيم أفكارنا, وأكثر من هذا وذلك يمكن تكريس تلك الفترة لكي تلتقط آثارنا أنفاسها, وتستعيد رونقها وتعود مرة أخرى لتحكي تاريخنا للأحفاد. [c1]*عن/ صحيفة ( الأهرام ) المصرية[/c]